جميع مرضى السرطان الذين عرفتُهم لم يكونوا خلال رحلتهم مع المرض أقوياء أو متماسكين كما اعتدنا عليهم، لقد غيّرهم المرض بعمق، بِدءاً من صديق والدي المحبب للعائلة، والمطلوب لأفرع الأمن النظام حتى بعد موته بالسرطان، وصولاً إلى آخر الضحايا المقربين، الخال الحبيب الذي اختبرنا معه المرض والألم طوال سنتين، وشهدنا على موته يوماً بيوم وليلة تلو الأخرى. كذلك فإنني لا أنسى الممثلة الإنكليزية إيما تومسون، عندما لعبت دور مريضة مصابة بسرطان الرحم في مراحله الأخيرة في فيلم wit، الذي كان له تأثيرٌ كبيرٌ في نفسي، ليس بسبب قسوة تجربة السرطان، بل لأن قسوته تلك كانت ممزوجة في الفيلم مع السخرية من النفس البشرية وضآلتها أمام السرطان.
عرفتُ من خلال مرضى السرطان، الذين شاءت الحياة أن تجعلني أشهدُ على مرضهم، أن معاركهم مع المرض كانت معارك في الوقت المستقطع، ريثما تحين الساعة، وكان عليهم إظهار الصلابة والشجاعة اللازمة للاستعداد للموت، لا لمواجهة المرض في كثير من الأحيان. وحتى بالنسبة للأشخاص الذين حالفهم الحظ في معركتهم ضد السرطان، فإن مرحلة العلاج بالنسبة لهم كانت مرحلة انكسار وعزلة، مرحلة صراع مع المجهول، ولا أعتقد أن السبب وراء اختبائهم عن عيون الناس كان الشعور بالخجل من الشعر المتساقط أو النحول الشديد أو البشرة المتشققة، بل ربما لأنهم كانوا يمرون بمرحلة تفصلهم عن العالم الاعتيادي، ولأنهم يعرفون أن ما من أحد يمكن أن يشاركهم الألم الذي يشعرون به.
لم يتمتع أحدٌ من مرضى السرطان الذين عرفتهم شخصياً بالقوة التي تمتعت بها أسماء الأسد، عندما خرجت أمام عدسات المصورين في المشفى العسكري مع زوجها بشار الأسد، يضحكان في اليوم الأول من جرعات العلاج الكيماوي؛ كانا يضحكان ويتحدثان كأنهما في يوم عادي من حياتهما. بدا ذلك بالنسبة لي تغريباً عن المشهد الواقعي، وذلك عندما قارنته مثلاً بتجربة خالي، الذي كان منذ لحظة مرور القطرات الأولى من العلاج الكيماوي، يلفّ يده الحرة من السيروم على عينيه، ويغرق في الظلام. تساءلتُ حينها إذا ما كان العلاج الكيماوي الذي تأخذه السيدة من نوع مختلف، أو ربما من نوع أغلى يجعل آثاره ألطف، لكن الانتصارات السهلة التي حققتها أسماء الأسد في المعركة مع السرطان، ينبغي أن تدفعنا للتساؤل عن نوعية هذا السرطان غريب الهيئة، وعمّا إذا كان السرطان الذي أصابها هو ذاته الذي أصاب أحبتنا؟ وليس السؤال الذي نطرحه هنا متعلقاً بحقيقة إصابة أسماء بالسرطان من عدمها، فهذا لا سبيل إلى معرفته يقيناً، بل تتعلق أسئلتنا بالصورة التي تم تقديمها عن مرضها، وبصورتها هي وزوجها خلال المرض.
في المشاهد الثلاث التي اختصرت رحلة أسماء الأسد مع السرطان، كنّا نراها مبتسمة دائماً، شديدة النحول وشاحبة كما اعتاد عليها السوريون منذ بدايات ظهورها على الإعلام، أي قبل نحو 18 عاماً. في مراحل العلاج، كانت تخرج إلى العلن واضعةً إشارباً حريرياً على رأسها لتخفي شعرها المتساقط، وفي المقابلة الأخيرة خرجت بعد أن نما الشعر مجدداً في رأسها، مع تسريحة شعر أشقر قصير، لتعلن للجمهور السوري انتهاء رحلتها مع السرطان، وأنها انتصرت كلياً عليه. لكن بالعودة إلى الصورة الأولى التي أعلنت فيها بدء مرحلة العلاج في المشفى، الذي نعرف أنه المشفى العسكري من الكتابة المطرزة على شرشف السرير، كان زوجها الرئيس قريباً منها، يبتسمان وهما يتجاذبان أطراف الحديث، فيما كانت هي ترتدي بلوزة بيضاء عليها رسم أشبه بالجمجمة؛ كانا يضحكان، وكأن المعركة محسومة لصالحهما سلفاً.
لقد كان مرض السرطان هو الموضوع الداخلي للصورة والحدث، وقد بدا أمامهما منذ اللحظة الأولى هزيلاً، أما ساحة المعركة التي تم اختيارها، وهي المشفى العسكري، فقد وضعت السرطان في زاوية حرجة، ليبدو وكأنه إصابة حرب ناجمة عن التعرض للقصف أو تبادل إطلاق النار على خطوط الجبهة، في حين أن سببه يرجع علمياً إلى خطأ في انقسام الخلايا في الجزء المصاب! لقد تم إخراج السرطان من سياقه، ما سبّبَ له إرباكاً وهو الذي اعتاد أن يكون مرضاً مدنياً يتساوى أمامه المرضى. أما السبب الآخر الذي جعل المعركة تبدو محسومة النتائج تقريباً منذ الأيام الأولى، فهو الشفافية التي انهالت على الأسد وعائلته فجأة، وأدت إلى جعل السرطان نفسه محطاً لسيل من شكوك الإعلام والصحافة، وذلك بعد خبرة طويلة مع التصريحات الكاذبة الخارجة من فم الرئيس وأفواه المتحدثين باسمه. لم تكن تلك الشفافية غير المسبوقة اعترافاً بالسرطان، بقدر ما كانت تشكيكاً في وجوده.
الأمر الذي زاد الطين بلة هو التوظيف السياسي للسرطان الذي أصاب أسماء الأسد، الذي جعله فخاً ينساق إليه المعارضون الذين شمتوا بأسماء الأسد. ولقد تضمنت تلك الشماتة كثيراً من التعليقات الساخرة، لكن بعضها تضمَّنَ استهزاءً بمكان الإصابة، سرطان الثدي. كان هذا النوع من السخرية مريعاً فعلاً، ذلك أن الإهانات التي تضمنها لم تكن تنحصر بأسماء الأسد وحدها، بل تتعداها إلى نساء غيرها مصابات بسرطان الثدي. أسماء الأسد شريكةٌ لزوجها ونظامه في جرائم كثيرة، لكن كونها إمرأة ليس من بين تلك الجرائم طبعاً، غير أن كثيرين انساقوا وراء هذا النوع من الشماتة بذكورية شديدة وقلة حساسية رهيبة.
لا شك أن السرطان قد حاول إعادة التفكير في إحداثيات المعركة الزمانية والمكانية، ولا شك أنه تساءل بينه وبين نفسه عمّا فعلته أسماء الأسد وزوجها للبشرية حتى يشمت بها الآخرون بهذا الشكل، وهو المرض الذي اعتاد على كميات هائلة من التعاطف الجاهز مع المريض، سواء من الكارهين أو المحبين، والذي اعتاد أن يهزّ كيان أقرباء المصاب وأحبائه بدرجات لا تقل عنفاً عن كيان المصاب ذاته.
في صور المرحلة الثانية من إصابة أسماء الأسد بالسرطان، خرجت «سيدة الياسمين» إلى الناس لمتابعة نشاطها الاجتماعي مع الجرحى وعائلات قتلى الجيش والمؤسسات الخيرية التي ترعاها. كانت تغطيتها لرأسها أمراً اعتيادياً بالنسبة لمرض السرطان، كما هو اعتياديٌ بالنسبة له أيضاً هذا الإعلان عن الصمود والتأكيد على حب الحياة في مواجهته، لكن ما لم يكن منتظراً بالنسبة له هو استخدام الإصابة به مناسبة للتطبيق العملي على حملات التوعية حول سرطان الثدي، التي أولت «وردة الصحراء» اهتماماً خاصاً بها في السنوات الأخيرة قبل إصابتها به. وليست المشكلة في حملات التوعية طبعاً، بل في استخدام المآساة الشخصية في البروباعندا الإعلامية المدروسة، ابتداءً من الصور التي جمعتها مع نساء أخريات تبدو عليهنَّ الدهشة وكأنهنَ في حضرة ملاك لا يصدقنَّ أنهنَّ يتشاركنَ معه المرض نفسه، وصولاً إلى التدرجات اللونية لملابس هذا الملاك، والتي غالباً ما كانت تنحصر بين اللونين الأبيض والزهري وتدرجاتهما. ولم يكن ذلك اختياراً عشوائياً بالطبع، بل جاء انسجاماً مع الدلالات التي ارتبط بها هذان اللونان، النقاء والربيع والشباب من جهة، ومن جهة أخرى كونهما اللونان المعتمدان عالمياً كشعار لحملات التوعية ضد سرطان الثدي، لتبدو إصابة أسماء فرصة لكسب التعاطف ولفت الأنظار في الإعلام العالمي. كان ذلك كله مفاجئاً للمرض الذي أنهكه التناقض بين السيرة الدموية لأسماء الأسد وزوجها وبين صورتها الملائكية التي تظهر بها أمام الناس، إلى درجة أن السرطان قد شعر، ربما، بأنه يمس جسداً بشرياً ذا طبيعة أسطورية أو إلهية.
جاء عرضُ الأداء الأخير على شكل مقابلة لأسماء الأسد مع التلفزيون السوري، تحاورها فيها مصابة سابقة بمرض السرطان، وفي الوسط شاشة تُعرض عليها مقتطفات من رحلة «وردة الصحراء» مع المرض، التي ظهرت في المقابلة بفستان أبيض مطرز بالياسمين، وهي تتحدث عن انتصارها على المرض، وتقدّم الوعود لمرضى السرطان الآخرين بتحسين أوضاع المستشفيات ورفع سوية العلاج. في هذه المرحلة نجد السرطان وقد هُزم وقُضي عليه تماماً في معركته مع أسماء الأسد، لقد توقَّعَ السرطان هزيمته تلك، إلا أنه لم يتوقع أن يُستهزأ به إلى هذه الدرجة، كما هو الحال في مجموعة الأسئلة الفارغة التي تم توجيهها لأسماء الأسد في المقابلة: ماذا شعرتِ عندما تأكد تشخيص المرض؟ هل تفاجأتِ عندما أصابكِ؟ وما هي الرسالة التي أردتِ إيصالها للعالم من خلال علاجكِ في المشفى العسكري؟ وما هي الرسالة من خروجكِ أمام الكاميرات بعد تساقط شعرك؟ وما الرسالة التي تودين إيصالها للعالم وللنساء بعد شفائك؟ كان الحديث يبدو كما لو أنه يدور حول زراعة الملفوف، وليس حول ورم سرطاني قاتل. لم يتوقع السرطان أبداً أن يُجرد من إنسانيته هكذا، وأن يقترن بمجموعة من الرسائل التي كانت تنتظر حدوثه،كما لم يتوقع السرطان يوماً أن يُوظَّف توظيفاً سياسياً يفوقه خبثاً، وأن يكون جزءاً من حملات تروج لانتصار النظام على ركام البلاد كلها.
كما يظهر بشار الأسد مبتسماً بعد كل مذبحة، كذلك ظهرت زوجته مبتسمة بعد أشهر من العلاج الكيماوي، العلاج الكيماوي نفسه التي تطلب من الخال الحبيب أن يبيع ما فوقه وما تحته من أجل تحمل نفقاته، وتطلّبَ منه الوقوف ساعات على الحواجز وهو في طريقه من المشفى إلى البيت أو بالعكس، وتطلّبَ منّا ألا نشعل ضوء اللّد عند انقطاع الكهرباء لما فوق الست ساعات، لأن ضوءه الشاحب كان يشعره باقتراب الموت.