قد تنقضي سنوات طويلة قبل أن نستوعب بصورة أفضل ما جرى في سورية منذ بداية الثورة، ونطوّرَ أدوات أكفأ لتمثيله والإحاطة به. هذه عملية لا تنتهي، وقد لا تكون أفضلُ جهودنا اليوم غير بدايات متعثرة لفهم عمليات أطلقتها الثورة والحرب، بعيدة كثيراً أو قليلاً عن أن تستقر على حال تقبل التبيّن. تأخّرُ تقديم شروح أكثر إقناعاً للتفجرات الاجتماعية والسياسية العنيفة من عاديِّات التاريخ، ومن غير المحتمل أن يُكتَب تاريخ الثورة السورية في حياة معاصريها، لكن المهم أن نكون، نحن مجايلي انفجارنا الكبير من السوريين، من أول من يعمل على تمثيل الصراع ومساراته ومآلاته المؤقتة الراهنة. نشهد على أنفسنا وزمننا والعالم من حولنا.
من موقعنا اليوم، قد يمكن تبين ثلاثة أشياء مرشحة لأن تكون تحولات طويلة الأمد.
1. خمسة محتلين وخمس حروب
أولها أننا حيال وضع غير مسبوق (على قلّة ما هو غير مسبوق في التاريخ) من اجتماع خمسة احتلالات في البلد: روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا، وأقدم من الجميع إسرائيل. هذه القوى ليست في حرب فيما بينها، لكن لكل منها حربها التي تتقاطع مع حروب غيرها دون أن تطابقها. ومن بين قوى الاحتلال الخمسة تبدو روسيا هي المنسق العام للاحتلالات، أو «الوسيط النزيه» في عملية الاحتلال، مثلما كانت الولايات المتحدة الوسيط النزيه في «عملية السلام في الشرق الأوسط». لروسيا علاقات جيدة مع إيران وتركيا، وممتازة مع إسرائيل. علاقة المنسّق الروسي مع الولايات المتحدة فاترة فيما يخص ملفات متعددة، سورية ليست من بينها. في بلدنا مصالح البلدين أقلُّ تناقضاً مما هي في شؤون أخرى كثيرة، وتكاد تقتصر على وجود إيران وتوابعها في سورية.
ما يشغل البال في وجود الولايات المتحدة وروسيا في آن معاً في سورية هو أنه لم يسبق أن كان للدولتين النوويتين وجود مباشر في بلد واحد إلا في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما تمخض عن بقاء البلد منقسماً إلى دولتين لنحو 45 عاماً. لمجرد كون الدولتين كبيرتين ونوويتين (ما يعني امتناع الحرب بينهما)، فإن تواجدهما العسكري المعزز بوجود وكلاء محليين لهما مرشّح لأن يصنع وقائع طويلة الأمد، قد تمتد عقوداً. وما ورد من معلومات في نيسان من هذا العام عن استئجار روسيا لميناء طرطوس لـ49 عاماً، وتراجع الأميركيين عن الانسحاب من مناطق شمال شرق سورية بعد أن «غرّده» ترمب في الشهر الأخير من 2018، ربما يشير إلى دوام يتجدد مؤقتاً وراء مؤقت، شأن كل دوام. لا نستطيع التنبؤ استناداً إلى الواقع الحالي بمدى هذا الدوام، لكن العقود الأربعة ونصف الألمانية سابقة تاريخية يُستأنس بها.
ما عدا الاحتلال الإسرائيلي المجايل لحكم السلالة الأسدية تقريباً، للمحتلين الأربعة الآخرين وكلاء محليون من السوريين وغيرهم. وكلاء روسيا من قوى النظام وأجهزته، جهاز أمن الدولة وتشكيلات عسكرية مثل الفيلق الخامس وقوات النمر. ولإيران حزب الله وميليشيات عراقية، ومرتزقة أفغان، فضلاً عن نفوذها في جهاز الأمن العسكري وفرقة ماهر الأسد الرابعة. وأتباع الأميركيين هم «قوات سورية الديمقراطية»، ومتنها مكون من «قوات حماية الشعب» الكردية، مع شركاء عرب في موقع ثانوي. وإلى جانب الأميركيين هناك قوات خاصة فرنسية وبريطانية، لكن الدول الغربية الثلاثة تتصرف في سورية كطرف واحد. وتتبع لتركيا ميليشيات كانت معارضة للنظام، مندرجة في إطار «الجيش الحر»، أو إسلامية مثل بقايا أحرار الشام وجيش الإسلام، مع أفضلية لذوي الأصول التركمانية.
تجاوز أمد الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان النصف القرن، لكن إسرائيل جددت احتلالها لسماء سورية والضرب فيها ضد الخصم الإيراني، وليس ضد القوات الأسدية. في تموز 2018 قال نتنياهو في موسكو: «ليس لنا مشكلة مع نظام الأسد، طوال 40 عاماً لم تطلق رصاصة واحدة في مرتفعات الجولان»(مقال لباتريك هلسمان في موقع إنترسبت، تموز 2019). الضربات إلى اليوم مُصممة لتغيير سلوك إيران وأتباعها، وليس بقصد الاستئصال. إسرائيل تشعر أنها كاملة الحرية في هذا الشأن، برضا أميركي ولا ممانعة روسية. روسيا أظهرت أنها «مستعدة للنظر في الاتجاه الآخر حين تضرب إسرائيل القوات الموالية لإيران في سورية»، على ما ورد في مقالة هلسمان ذاتها. في الشهر الأول من هذا العام قال سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي: «أمن إسرائيل هو أحد أولويات موسكو في المنطقة»، قبل أن يضيف: «الإسرائيليون يعلمون ذلك، واشنطن تعلم ذلك، الإيرانيون أنفسهم يعلمون ذلك، حتى الأتراك، والسوريون يعلمون ذلك: أمن إسرائيل هو أولوية لروسيا».
ولكل من المحتلين الخمس عدوه النوعي: أعداء روسيا وإيران اللتان تتشاركان الإقليم نفسه من سورية هم أعداء النظام من الثائرين السوريين الذي قُتل منهم ومن بيئاتهم الاجتماعية مئات الألوف، وفقد معظم من بقي منهم إرادته المستقلة، واستُتبِعَ للروس أنفسهم أو للأتراك في الشمال. وعدو الأميركيين هو داعش، وعدو تركية هو قوات سورية الديمقراطية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وعدو إسرائيل الحالي في سورية هو إيران وتابعها اللبناني.
ويبدو الطرف الأضعف بين المحتلين الخمسة إيران، التي تعاني سلفاً من «فرط تمدد استراتيجي»، وهي الواقعة بين المطرقة الإسرائيلية والسندان الروسي، مع أثر يبدو متفاقماً للعقوبات الاقتصادية الأميركية.
وبين محتلينا الخمس، تتقاسم تركيا الضعف مع إيران. هنا تتقاطع مشكلات نظام يمعن في التسلطية والشخصنة مع عداء غربي متولد عن قوة الحكم التركي تجاه القوى الغربية وليس تجاه محكوميه، ثم مع هزيمة الثورة السورية وإشغال روسيا موقع القوة السيدة في سورية.
2. تجزؤ وتبعية
التحول الثاني وثيق الارتباط بما تقدم: تجزؤ سورية عملياً، وخروج السوريين من التأثير على مصير البلد وطورٌ متقدمٌ من خسارة الدولة والسيادة. الحكم الأسدي بالذات متراجع التأثير ولا يتحكم بإعادة إنتاج نفسه. ومركب التجزؤ وفقدان السيادة أو التبعية المباشرة، أي عملياً تغير الكيان، واقع مرشح لدوام يتجدد بدوره، وربما يستمر عقوداً قد تعادل الأبد الأسدي الذي يقارب عمره نصف قرن اليوم. قد تسيطر أو لا تسيطر روسيا ومحميها المحلي على إدلب في أي وقت قريب، أو يظهر ترتيب خاص للمدينة ومحيطها، أو تترك بؤرة معلقة تتيح للأطراف تمديد حروبها ومحادثاتها. لكن لا يبدو أن القسم التركي من سورية منازع اليوم، ولا كذلك القسم الأميركي، ولا القسم الإسرائيلي، الذي بات يتجاوز مرتفعات الجولان المحتلة إلى وضع خاص آخذ بالارتسام في درعا.
جدد النظام فرصه في البقاء، لكن بوضع نفسه تحت الحماية الأجنبية. «سورية الأسد» هي اليوم جزء من البلد، محمي روسياً وإيرانياً. والمعهود القديم من نزع وطنية الدولة عبر خصخصتها أسدياً انفتحَ في السنوات الأخيرة على نزع وطنية غير معهود: العمل وكيلاً محلياً لمحتليْن اثنين، يتناهشان اليوم هياكل حكم محميِّهم، ويتقاسمان ولاء قاعدته الاجتماعية. تبدو الدولة الباطنة (المركب السياسي الأمني، أو الأسرة الأسدية وأجهزة أمنها) إيرانية أكثر مما هي روسية، لكن روسيا تبدو المحتل السيد، أو ببساطة هي شاغل موقع السيادة في سورية، فضلاً عن كونها المنسق العام للاحتلالات كما تقدم. الواقع أن ثنائية الدولة الظاهرة (عامة لكن بلا سلطة)، والدولة الباطنة (خاصة وطائفية، والسلطة بيدها) تندرج اليوم ضمن ثنائية أعلى: روسية سياسية ودولتية أكثر، وإيرانية اجتماعية وطائفية أكثر. إلا أننا حيال وضع لا يزال عالي السيولة، ويتعذر تقدير تطوراته المحتملة في الأشهر والسنوات القادمة.
الحقبة الأسدية من تاريخ سورية تنطوي اليوم بانضوائها في ترتيبات إقليمية ودولية لا عكوسة ولا يتحكم الأسديون بها. للتاريخ حيله، والحكم الأسدي الذي احتال كي يبقى عبر وضع نفسه في حماية محتلين أجانب بقيَ بالفعل، لكن مقابل أن يفقد قدرته على إدارة بقائه، فكأنه لم يبقَ. المحتال احتالت عليه حيلته. يندرج الأبد الأسدي اليوم في خطط قوى يحدث لأحد قادتها، بوتين، أن يوقف بشار الأسد في الانتظار بين ضباطه المطيعين، ولقائد آخر أن يشحن بشار إلى حضرته في طهران ليجلس كتابع بلا علم في ظل علم جمهورية إيران الإسلامية.
في زمن سابق للثورة، بدا لكاتب هذا السطور أن هناك مركباً متكرراً في التاريخ الحديث لمنطقتنا المشرقية، تتلاقى فيه وتتبادل التثبيت تدخلات خارجية مع «تخرجات» داخلية. الأخيرة هي جماعات أهلية مستقبلة لرعايات خارجية أو طالبة لها. يظهر بحث لإليزابث تسوركوف أن قطاعاً من قاعدة النظام الاجتماعية يريد بقاء روسيا في سورية كـ«ضمانة أمنية». تظهر الأسدية هنا كتخرّج داخلي يطلب تدخلاً خارجياً إثر آخر كي يبقى. يبقى، لكن كتابع في بلد مجزأ. كلا أحد.
احتمالات
قبل الكلام على تحول ثالث طويل الأمد، تتوقف هذه الفقرة عند احتمالات تتوفر بعض المؤشرات بشأنها.
ليس ممتنعاً بحسب معطيات اليوم أن نرى صفقة كبرى على حساب المحتلين الأضعف، إيران وتركيا، لمصلحة المحتلين الأقوى، روسيا وإسرائيل- أميركا. فمقابل إخراج إيران من سورية، قد يعطي الحليفان الأميركي والإسرائيلي لروسيا انتداباً مفتوحاً على سورية، بما في ذلك إجبار تركيا على الانسحاب من «منطقة درع الفرات»، وتسليم الانتداب الروسي المنطقة التي يسيطر عليها الأميركيون وأتباعهم اليوم . فإذا سارت الأمور وفقا لهذا السيناريو الكبير، لم يكن مستبعداً أن يتخلى الانتداب الروسي عن بشار لمصلحةِ أسديةٍ بلا أسد، بما يُشرّع انتداب روسيا على سورية، ويعمل على طي صفحة المساءلة على جرائم الحرب، ويسهّل على الدول الغربية المشاركة في «إعادة الإعمار».
على أن إخراج إيران من سورية ليس بالأمر السهل في تقديري، وذلك بفعل اختراق عميق تحقق لدولة الملالي في بنية الدولة الأسدية بصورة مباشرة أو عبر أدواتها اللبنانية والعراقية، بما في ذلك استتباع تشكيلات عسكرية وأمنية، والاستيلاء على عقارات وأراضٍ بالقوة أو بالشراء. هذا فضلاً عن تفضيل المحمي المحلي وجود حاميين معاً بما يوفر له هامش مناورة ينعدم بوجود حامٍ واحد هو الروسي. هذا الواقع قد يدفع المحتليْن الكبيرين، الروسي والأميركي، إلى الاكتفاء بضبط الوجود الإيراني في سورية، عبر تولي إسرائيل تشذيب حوافه الناتئة بين حين وآخر. وهو ما قد يقود إلى تعايش أطول أمداً مع وجود تركي على الأراضي السورية، وشكل مديد من الوجود الأميركي في الجزيرة السورية، على ما أشار جيمس جيفري، المسؤول الأميركي عن «الملف السوري» في تموز الماضي.
وبهذا نعود إلى وضع المحتلين الخمس نفسه. وهو وضع مرشح لأن يدوم طويلاً لأن تغيير جزء منه (إيراني) من أجل تغيير أجزاء أخرى (تركي وأميركي) أمرٌ صعب، ولأن عدم تغيير جزء منه يتوافق مع إبقاء الكل كما هو، لأمد يطول. تاريخ الشرق الأوسط المعاصر يعرض أمثلة كثيرة على «إدارة الأزمات» بهذه الصورة التي أبقت المنطقة معرضة لانفجارات كبيرة. الجديد اليوم هو روسيا كقوة شرق أوسطية أصيلة، تضاف إلى الولايات المتحدة، التي هي دولة شرق أوسطية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الجديد كذلك هو بنية أشد إكراهية للنظام الشرق أوسطي، وسجّل من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لا تعد.
من المحتمل في الأفق المنظور أن يستمر وضع المحتلين الخمسة إلى أن يحدث «تحول باراديغمي»، قد يبدأ بخطأ في الحساب من أحد المحتلين الأضعف.
3. تفكّك الطيف السنّي العربي
يتمثل التحول الثالث في تحطم واسع النطاق للطيف السني العربي في سورية الذي كان حتى الحقبة الأسدية متناً لسورية، بفعل انتشاره الجغرافي ومدينية قطاع نافذ منه، ومركزيته في تصور سورية كبلد عربي، مشدود إلى المجال العربي وقضاياه. هذا قد يكون تحولاً أطول أمداً من غيره، وبخاصة أن عملية التقويض مستمرة إلى اليوم بصور مختلفة، على يد النظام وحاميَيه الإيراني والروسي، ثم بصورة مختلفة على يد الإسلاميين، ودون ديناميكيات مُعاوِضة من أي نوع. خلال سنوات الثورة كانت عتبة استهداف النظام لهذا الطيف أخفض بكثير من عتبات استهداف جماعات أهلية أخرى، حين تكون الاعتراضات على النظام متقاربة. المجازر الطائفية والهجمات الكيماوية والقصف بالبراميل وصواريخ سكود والطيران الحربي، والاغتصاب والقتل الجماعي في المقرات الأمنية والسجون، استهدف بصورة حصرية بيئات سنية عربية. وبعض الحصيلة معلوم: 600 ألف على الأقل من الضحايا وتحطم مدن وبلدات وأحياء بأكملها، وتهجير ولجوء فوق 6 ملايين ونصف خارج البلد، ونحو مليوني مصاب، وما يقترب من 100 ألف مغيب.
على أن هناك شريكاً آخر في تحطم الكتلة السنية العربية الضعيفة الكثافة أصلاً، والمشكلة من فئات فرعية ضعيفة الترابط فيما بينها، هو الإسلاميون (السنيون تعريفاً، في سورية). ومساهمة الإسلاميين أخذت شكلين، عدمي وتبعي. غلب على التشكيلات السلفية الشكل العدمي الذي تمخض عن تدمير واسع للرقة ودير الزور وبيئات الحياة لعرب الجزيرة السورية، وكذلك لدوما والغوطة الشرقية على يد تشكيل جيش الإسلام، وإدلب مرشحة لمصير مماثل بمساهمة غير محمودة من جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام. الشكل التبعي يجسّده الإخوان المسلمين وتشكيلات سلفية سابقة مثل جيش الإسلام ما بعد دوما، ومثل أحرار الشام، ومجموعهم يعملون اليوم بإمرة تركيا وضمن استراتيجيتها وتصورها لأمنها القومي، مع تنظير لذلك أحياناً من نوع ما تبرع به زهير سالم، أحد قياديي الإخوان المسلمين السوريين، من عودة الفرع (السوري) إلى أصله (التركي)! في مثل هذا التصريح ما يدل على انقلاب السنية السورية إلى أقلية مشوشة الذهن وقلقة، فاقدة للاحترام الذاتي والثقة بالنفس، «تخرّجٌ داخلي» يبحث، مثل غيره، عن أب خارجي يتدخل لحمايته.
الأثر المشترك لفاعلية النظام وحماته والإسلاميين هو تفكك الطيف العربي السني إلى نثار مندحر وتحت سياسي من مجموعات إثنية دينية، بلا كيان ولا وجهة ولا تمثيل.
ومن الأشكال المحتملة لهذا التحول الاجتماعي السياسي إنشاء كيان روجافا، أو ضرب من سلطة هجينة، كردية مطعمة بعناصر محلية عربية وغيرها، لكنها بلا هوية ولا وجهة ولا مبدأ، لا تكف عن عرض نفسها على حماة أجانب. ليست المشكلة في تصوري في تكريد مستبعد للمنطقة، بل في فوقية المشروع وهجانته، احتياجه الدائم إلى نشر غمامة كبيرة من التلفيق والمزايدة والخداع. فإذا أردنا مثالاً نعرفه للمشروع، فهناك شيء قريب جداً: الحكم الأسدي. يجمع الطرفين التقدميةُ الكاذبةُ نفسها، وعبادة السلطة نفسها، والمراوغة والمزايدة نفسيهما، والنرجسية نفسها، والاستعداد الميسور للدوس على المبادئ المزعومة نفسه، فضلاً عن تعال مشترك على المجتمع المحلي وبدء مشترك للتاريخ الحقيقي بهما. فضلاً كذلك عن العسكرة وعبادة الشخصية. هذا الكيان الذي يثنى عليه كأخوية للشعوب، مع انحصار تمثيله والتكلم باسمه بيد الموالين للتنظيم الكردي التركي، لا يستبعد عرب المنطقة وحدهم، بل كذلك الكرد السوريين غير الموالين للمشروع. الواقع أنه حين يجري تمثيل عرب «روجافا» يُحرص كثيراً على إظهارهم بلباس عشائري تقليدي، فيما يُذكّر بالأنثروبولوجيا الاستعمارية التي كانت وخيمة العواقب في كل مكان، بما في ذلك سورية بالذات في سنوات الانتداب الفرنسي وبصورة مختلفة إلى اليوم، ومن أكثر عواقبها تراجيدية رواندا، التي مهدت تمثيلات التوتسي والهوتو من قبل الأنثروبولوجيين البلجيك والفرنسيين لمذابح عام 1994 (ما قد يصل إلى 800 ألف ضحية خلال 100 يوم). هذا لعبٌ خطير، تشجع على عدم التفكير في عواقبه سكرةُ الدعم الأميركي، وتشارك في كفالة عدم التفكير قطاعات من يسار دولي، متغطرس وجاهل، له سوابق مشينة كثيرة في الشرق الأوسط، ويبدو أنه نذر نفسه لعدم تعلّم شيء وعدم نسيان شيء مثل الملكيين الفرنسيين قبل قرنين. ومعهم أشباه لهم، سوريون، تتحكم الضدية في تفكيرهم وتكوينهم، مثل النظام الذي أفقدتهم جرائمه فرصة الاستناد إليه، ولا يعرفون عن منطقة الجزيرة السورية أكثر مما سبق أن عرف الانثروبولوجيون الاستعماريون عن مستعمرات نائية.
هذا المشروع استمرار للأسدية، من حيث إنزاله المظلي من فوق، وتقويض قدرة السكان على تمثيل أنفسهم وإنتاج تعبيراتهم السياسية، معززاً بنسبة دور تقدمي للنفس يستأنف «الرسالة التحضيرية» لمستعمرين سابقين.
كوة أمل!
أردنا قبل ثماني سنوات ونصف تغيراً للنظام السياسي باتجاه استيعابي، يقطع مع التشكل الدوري لمركب التدخلات والتخرّجات. لم نحصل على التغير المرغوب، لكن سورية تغيرت بقدر يفوق من حيث الضخامة ما أمِلَهُ وحلم به من تطلعوا إلى تغير النظام السياسي باتجاه أكثر استيعابية وتمثيلية، وأكثر بكثير مما كان يمكن أن يتخيل الوكيل الأسدي نفسه.. المجتمع السوري تغير بأكثر من صورة، دون أن يصير متجانساً كما أمل بشار الأسد في آب 2017. لقد فقد الكثير وتعمقت انقساماته وخرج كلياً من سياسة نفسه. الدولة التي تطلع السوريين إلى تأميمها تغيرت، فصارت تابعة لقوى أجنبية مع بقاء المعتمد الأسدي مثل أي سلالة حاكمة عميلة، ثم تغير الكيان تغيراً هائلاً، يشمل انقساماً جغرافياً وسكانياً تكفل دوامه تبعيات أجنبية مختلفة.
هذا انقلاب. انقلاب طويل على المجتمع السوري وعلى تاريخ سورية كجمهورية ودولة مواطنين، انقلاب لا تُعرَفُ نهاياته، لكن سورية تبدو طليعية في وضع هجين تجتمع فيه التجزئة مع احتلالات متعددة مع الإبادة وتفكك المجتمع.
تغيرت سورية خلال 101 شهراً مصيرية بقدر قد يفوق في أثره تاريخها خلال 101 عاماً بعد الحرب العالمية الأولى. من الجديد الذي يضاف إلى انجرار روسيا إلى المنطقة والبنية الإجرامية للنظام الشرق أوسطي، مجتمع اللجوء السوري الذي يتجاوز ستة ملايين ونصف، منهم نحو مليون في أوروبا. هؤلاء الذين نجوا، الذين لا تطالهم يد الإبادة الأسدية وحماتها، الذين يستطيعون التعبير عن أنفسهم وإنتاج التمثيل، يمكن أن يحدثوا فرقاً.
هناك عناصر تحرر اجتماعي وفكري أوسع في مجتمع اللجوء السوري الكبير، ظهور أكبر واستقلال أكبر للنساء، اتساع قاعدة التحرر الشخصي، أفكار جديدة وإحساس جديد، تحرر من عقد النقص عند عدد كبير ممن شكلت الثورة تجربتهم المغيرة، انكفاء الإسلامية وتسارع انحدارها وفقدها التقدير أو حتى التعاطف بعد صعود دام نحو أربعين عاماً، فضلاً عن عدد كبير من الأبطال والرموز، من النساء والرجال، يتعرف كثيرون فيهم على نَسَبٍ رمزي.
ثمة جدلية مثيرة للتأمل هنا: المنتصر صار تابعاً، خسر استقلاله، وهناك من يستقلّون من بين من سُحقوا، يُنتجون المعنى والقيمة. جدلية تفتح كوة للأمل.