حضرت كلماتٌ مثل «الثورة» و«الاتفاق الجماعي بين الفصائل العسكرية» بكثرة في ردود قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني على أسئلة الصحفيين والناشطين الإعلاميين، وذلك خلال المؤتمر الصحفي الذي دعت له الهيئة يوم السبت الماضي. وقد بدا الجولاني هذه المرة هادئاً وبعيداً عن الخطابة والحماسة وهو يلخص موقف الهيئة لكافة الأطراف، «الأصدقاء والأعداء»، على شكل جمل رنانة وواثقة في آن معاً، قائلاً إنه «لا يمكن لأحد أن يفرض على الفصائل سحب جنودهم أو التخلي عن السلاح الثقيل بموجب مخرجات أستانة 13»، كما أنه «لا يمكن لعدو أو صديق فرض طريقة التموضع لهذه العناصر»، و«ليس من المنطقي أن تأخذ روسيا وقوات الأسد بالسلم ما عجزت عنه في الحرب». إلّا أن السمة الأبرز لمجمل كلامه كانت الحديث عن الهيئة بوصفها شريكاً سياسياً وعسكرياً في المنطقة، لا بوصفها الفصيل الأقوى، سواء من الناحية العسكرية إذ تسيطر الهيئة مباشرة على معظم مناطق إدلب وريف حلب الغربي، أو من الناحية المدنية عبر حكومة الإنقاذ التي فرضتها الهيئة بالقوة بوصفها الجهة الإدارية العليا في معظم هذه المناطق.

وليس الأمر متعلقاً بحديث الجولاني الأخير فقط، بل هي مرحلة جديدة بدأت تظهر ملامحها منذ بدء الحملة الأخيرة لقوات النظام وروسيا على المنطقة أواخر نيسان الماضي، وأبرز هذه الملامح تراجع الهيئة عن محاولاتها للاستفراد بالساحة، وتغيير خطابها من خلال معرفاتها الإعلامية، بحيث باتت تقدم نفسها كأحد الفصائل المقاتلة وليس الفصيل الرئيسي الذي يقود الجميع، ويقاتل الجميع تحت إمرته وفي ظلّه.

يقول أحد القادة العسكريين في واحد من الفصائل المقاتلة في الشمال السوري، وقد رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، إن «ما قبل المعركة الأخيرة يختلف عن ما بعدها»، فهو يرى أن الهيئة قبلت على مضض دخول قوات من فصائل أخرى كانت قد حاربتها في السابق، وحاولت إنهاء وجودها في المنطقة مثل الجبهة الوطنية للتحرير، التي تشكل أحرار الشام وحركة نور الدين الزنكي أبرز مكوناتها، ويقول إن السبب في ذلك هو «حاجة الهيئة لهذه الفصائل لتغطية المساحات الواسعة لمناطق الرباط والمعارك، وللسلاح النوعي الذي تحصلّت عليه هذه الفصائل بدعم تركي»، إضافة إلى رغبتها في تغيير الرأي العالمي الذي يصنّفها كـ «جماعة إرهابية».

لا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعداه إلى محاولة ضبط ما أسماه القائد العسكري بـ «المزاج الشعبي»، إذ تدرك الهيئة أن شعبيتها قد تراجعت كثيراً خلال العامين الماضيين، خاصة أن المعارك التي خاضتها ضد الفصائل سابقاً قد تركت حالة من الحنق والعداء لدى كثير من السكان، وأن كثيرين رفضوا القتال تحت رايتها، وهو ما ترى الهيئة أنه يشكل خطراً كبيراً عليها «في ظل الدعوات لإنهائها تنفيذاً لاتفاق سوتشي ومقتضيات مسار أستانا، التي تتضمن ضرورة إنهاء الفصائل الجهادية في المنطقة». ويضاف إلى ذلك «الحالة المتردية التي يعيشها السكان الغاضبون من القرارات التي اتخذتها حكومة الإنقاذ، والجدل الحاصل حولها فيما يخص الجامعات والزكاة وضعف الاستجابة للحالة الطارئة والعجز عن تقديم الخدمات الأساسية للسكان، والغاضبون أيضاً من الانكسارات السابقة للمعركة الحالية، وعلى وجه الخصوص سيطرة قوات الأسد على مناطق واسعة من أرياف حماة وحلب وإدلب خلال العام الماضي، واتهام الهيئة بتسليمها دون قتال».

وقد تحدثنا أيضاً إلى ناشط حقوقي يقيم في ريف إدلب اليوم، رفض بدوره ذكر اسمه لأسباب أمنية أيضاً. وهو يقول إن «تغيرات كبيرة في سلوك هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ في إدلب قد حدثت خلال الآونة الأخيرة، يمكن أن نلحظها بوضوح من خلال التغطية الإعلامية للمعارك لأخيرة، إذ غالباً ما نُسبت أخبار الانتصارات والصمود في المعارك للفصائل العسكرية المنتمية لجبهة التحرير الوطنية أو جيش العزة، وكان حضور الهيئة في البيانات والتقارير خجولاً، بالرغم من انضوائهم جميعاً في غرفة عمليات واحدة. كذلك تراخت القبضة الأمنية على السكان، وازدادت حرية التعبير عن الآراء، حتى وإن كانت ضد الهيئة، على صفحات التواصل الاجتماعي، وتعطّلَ أو تراجع دور عناصر الهيئة ومجموعات سواعد الخير المرتبطة بها في المنطقة أيضاً».

يقول الناشط الحقوقي إن هذه التغيرات كلّها تندرج في إطار محاولات من الهيئة لتقديم نفسها بصورة جديدة، وهي جزء من «تغير سيشمل بنية الهيئة العسكرية والإدارية» على حدّ قوله، تشير إليه بوضوح موافقة الهيئة على الهدنة التي أُعلنت في اجتماع أستانة يوم الخميس الماضي، بالرغم من تضمن البيان الختامي لهذا الاجتماع إشارة واضحة لضرورة إنهاء جبهة النصرة، ومعروفٌ أن المقصود هو هيئة تحرير الشام. كما يشير الناشط إلى تعمّد الهيئة عدم تصدر المشهد العسكري في المنطقة، وتخفيفها حدّة اللهجة التي رفضت سابقاً معظم المؤتمرات الدولية واتهمت الفصائل المشاركة فيها بـ «الخيانة»، وعمدت إلى مقاتلتها تحت هذا البند لتخريب هذه الاتفاقيات. وهو يرى أن هذا التغير «يرجع إلى رغبة قسم كبير من عناصر الهيئة بالتحالف مع تركيا بشكل جديد، بحيث تتمكن الهيئة من فرض نفسها كجزء من أي ترتيبات مستقبلية لحكم المنطقة بما يضمن بقاءها، وهو ما أدى إلى انقسام داخلها وخروج تيارات وازنة من صفوفها، أغلبهم من الجهاديين السلفيين الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للهيئة قبل خروجهم منها».

أما الناشط السياسي «محمد»، الذي نشير له بهذا الاسم بناء على طلبه وخوفاً من تعرّضه للملاحقة، فهو يقلّل من أهمية هذه الإجراءات والمعطيات، ويراها مجرد وسيلة لكسب الوقت في هذه المرحلة، مؤكداً أن توقف العمليات العسكرية سيؤدي إلى عودة الهيئة لمحاسبة الجميع وفرض سيطرتها من جديد على المنطقة. وهو يقول إن «ما يحدث اليوم مشابه لما حدث في السابق في مدينة حلب، إذ اتخذت الهيئة موقفاً مشابهاً آنذاك من ادعاء الشراكة والحفاظ على المدنيين، لتعود إلى قتالهم بعد التهجير القسري، وكذلك الأمر إبان تشكيل جيش الفتح وتحرير كافة مناطق إدلب آنذاك، قبل الانقلاب على شركاء الأمس وإنهاء وجودهم، والأمر ذاته ينسحب على حركة أحرار الشام والزنكي وغيرها من الفصائل». ويتساءل محمد فيما إذا كانت الهيئة ستقبل بمحاربة تنظيم حراس الدين المرتبط بالقاعدة على سبيل المثال: «في حال تم اتخاذ قرار بإنهاء هذا الفصيل، هل ستشارك الهيئة في قتاله أم أنها ستقف على الحياد؟».

يقول محمد إن وجود مقاتلين لا يتبعون للهيئة على الجبهات ليس أمراً جديداً، إذ كان مقاتلون كثر يعقدون اتفاقات مع الهيئة كي تسمح لهم بالرباط على خطوط التماس مع النظام، فيما كان عناصر الهيئة يشكلون غالباً الخط الدفاعي الثاني وليس الأول، وتستغلّ الهيئة ذلك لتقديم نفسها على أنها المدافعة عن المدنيين في المنطقة في وجه قوات الأسد. كما يتساءل محمد مرة أخرى عن دور حكومة الإنقاذ التابعة لتحرير الشام خلال النزوح الأخير، وعن عدم استجابتها لاحتياجات السكان بالرغم من سيطرتها على كافة المعابر، سواء مع تركيا أو مع قوات النظام، بما «يؤمن لها دخلاً مالياً كبيراً».

خلافاً لكلام محمد، يرى القائد العسكري الذي رفض الكشف عن اسمه أن «الحاضنة الشعبية ستفرض على الجميع دون استثناء تغيرات في طريقة التفكير والهيكلية»، وهو يعوّل على ما حصل خلال المعارك الأخيرة من رضى شعبي عن الفصائل المنتمية للجيش الحر، والتي «رأى فيها كثير من الأهالي عودة بالثورة إلى الزمن الجميل بعد الانكسارات الأخيرة خلال السنتين الماضيتين»، مؤكداً أن تحرير الشام قرأت الرسالة بشكل واضح، وأنها «لا تستطيع تجاهلها أو الانقلاب عليها، خاصة إذا ما نظرنا إلى الوقائع السابقة التي فرضت على الهيئة القبول بتواجد شكلي فقط في مناطق عديدة رفضت احتضانها، مثل معرة النعمان وأريحا والأتارب والقائمة تطول».

لا يمكن التكهن بما ستُقدم عليه هيئة تحرير الشام إلّا بعد توقف القتال لفترة طويلة، خاصة أن نظام الأسد وحلفاءه قد أعلنوا وقف الهدنة ومتابعة العمليات العسكرية في المنطقة بذريعة خرقها من قبل من وصفهم بـ «الإرهابيين». وليس متوقعاً أن تحدث أي تغييرات في وقت قصير، إذ تنتظر الهيئةَ معاركُ داخلية لا تقل قسوة عن معاركها الخارجية في حال تبنيها فعلاً لهيكلية وخطاب جديدين، أما ما يبدو من مظاهر وتغيرات اليوم، فلا يمكن تصنيفها حتى الآن إلّا تحت بند «البراغماتية»، ومن أدلّة ذلك أن جميع شهودنا رفضوا ذكر أسمائهم الصريحة خوفاً من الاعتقال والمحاسبة.