تصيبني حالة من الارتباك والحيرة حينما أسمع البعض يقولون إن علينا أن نشكر الله على نعمة وجود مكيفات الهواء، وأن ندعي للسيد ويليس كاريير، مخترع ذلك الجهاز الذي يساعدنا على تحمل درجات الحرارة المرتفعة في فصل الصيف. أجدني أفعل الشيء نفسه حين أخبر أمي أنه لولا وجود ذلك المكيف في منزلنا لما استطعتُ تذوق طعم النوم طوال الليل. الارتباك الذي أتحدث عنه مصدره إدراكي بأن مكيفات الهواء وغيرها من وسائل التكنولوجيا الحديثة، والمصانع التي تقوم بتصنيع تلك المنتجات، ساهمت ولا زالت تساهم في ارتفاع درجات حرارة الأرض فيما يُعرف بظاهرة الاحتباس الحراري. فكيف نشكر الله على شيء هو في حقيقة الأمر مساهم رئيسي فيما نعاني منه الآن من تغير مناخي!
التطور التكنولوجي، الاحتباس الحراري، واللامساواة
أظن أن سمة رئيسية في التطور التكنولوجي بشكل عام تتمثل في أن أي شيء يتطور ويُخلق يساهم في تفكيك وهدم شيء آخر. فكما تخلق التكنولوجيا وظائف جديدة تساهم في اندثار وظائف أخرى، وكما تساهم التكنولوجيا في إيجاد وسائل تدفئة ضد حرارة الجو المنخفضة ووسائل تكييف ضد الحرارة المرتفعة، فهي تساهم في تفكيك المنظومة البيئية من حولنا. في الحالتين يصاحب التطور التكنولوجي ارتفاعٌ في مستويات اللامساواة الاقتصادية. قد يتساءل البعض ما هي العلاقة بين الارتفاع في درجات حرارة الأرض واللامساواة الاقتصادية؟ ولكن هناك دراسات تثبت ذلك، فارتفاع الحرارة في البلدان الدافئة، وهي بمعظمها مناطق فقيرة، ساهم في انخفاض النمو الاقتصادي في تلك البلدان مقارنة بالدولة الباردة الغنية، المتسبب الرئيسي في ظاهرة الاحتباس الحراري. فارتفاع درجات الحرارة على سبيل المثال يؤثر على المحاصيل الزراعية نتيجة تبخّر التربة، وهو الأمر الذي يؤثر بدوره على مصدر دخل ملايين سكان المناطق الفقيرة – التي يمثل قطاع الزراعة القطاع الرئيسي للتوظيف فيها– الأمر الذي يؤدي في النهاية لتزايد حدة التفاوتات الاقتصادية بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، وداخل البلدان الفقيرة نفسها.
وكما تستفيد قلة قليلة من التطور التكنولوجي وتأثيره على سوق العمل، نجد قلة قليلة على الناحية الأخرى من القادرين على شراء التكنولوجيا التي تساعدهم على التكيف مع تغيرات المناخ، سواء من خلال شراء سيارات فارهة مكيفة أو شراء عدد كبير من مكيفات الهواء لاستخدامها في منازلهم أو أماكن عملهم. وفي الغالب، تلك الفئة التي تستطيع شراء التكنولوجيا التي تساعدها على التكيف مع التغير المناخي، تتكون في مجملها من الفئة التي استطاعت التكيف مع تأثير التطور التكنولوجي على النشاط الاقتصادي وعلى سوق العمل. يمكن القول إن من سيستطيعون تجنب تأثير التغير المناخي هم أنفسهم الذين نجحوا في استغلال التطور التكنولوجي لصالحهم لمراكمة الثروات والتربع على أعلى سلم الدخول، سواء كانوا دولاً أو أفراداً. يبدو أن التكنولوجيا ستلعب دوراً هاماً في الانتقاء الطبيعي. بالطبع، الأمر لا يتوقف فقط على المكيّفات أو السيارات في حد ذاتها، لكنه يشمل أيضاً المصانع التي تصنع تلك التكنولوجيا وغيرها، وتلك المنظومة الجبارة التي تستهلك الوقود الأحفوري في كل شيء من حولنا. المشكلة أنه كلما ارتفعت درجات الحرارة مِلنا أكثر لاستخدام مكيفات الهواء وغيرها من الوسائل التكنولوجية، التي تساهم في المزيد من ارتفاع درجات الحرارة، لندخل في دائرة مفرغة لا فكاك منها.
لا بد من التنويه إلى أنني أكتب هذه الكلمات من غرفتي المكيَّفة، وأنني أذهب يومياً لمقر عملي المليء بمكيفات الهواء. حديثي عن اللامساواة والتطور التكنولوجي والتغير المناخي هنا ليس منبعه كوني طيب القلب أو أشعر بمآسي الذين يعملون في الهواء الطلق تحت درجات حرارة تزيد عن الأربعين درجة مئوية، ولكن لأنني ببساطة أتساءل: ماذا لو جار عليَّ الزمن وجار عليَّ التطور التكنولوجي، وجعل ما أقوم به في سوق العمل بلا معنى ويمكن استبداله ببساطة بأي آلة؟ هل سأكون مضطراً للانضمام للملايين من العاملين تحت أشعة الشمس الحارقة؟ وماذا لو تهالك المكيف الوحيد الذي نملكه في منزلنا، ولم يعد باستطاعتي شراء مكيف جديد؟
تخوّفي مشابه لتخوف اللوديت، مجموعة العمال الإنكليز الذين حاولوا تدمير الآلات في مصانع القطن والصوف في بدايات القرن التاسع عشر لأنهم رأوا فيها تهديداً لأرزاقهم. قد لا يكون الضرر الذي قد يصيبني من التغير المناخي مباشراً بطبيعة الحال، ولكن في النهاية نحن نعيش في مجتمعات، وإذا كنت أعيش في منطقة لن تغرق نتيجة ارتفاع منسوب مياه البحر، أو أعمل في مهنة لن تتضرر من ارتفاع درجات الحرارة مثلما يتضرر المزارعون ومحاصيلهم، إلا أني في النهاية سأستهلك تلك المحاصيل وسأتاثر بالصراعات التي ستنتج عن قلة الموارد والتنافس عليها. فماذا إذا غرقت المدن الساحلية في بلدان عدة في عالمنا العربي على سبيل المثال؟ أين سيذهب سكان تلك المناطق؟ بالتأكيد سينزحون لمناطق أخرى داخل بلدانهم، ما سيشكل ضغطاً على البنية التحتية المتهالكة بالأساس، وضغطاً على المستشفيات والمدارس وغيرها من الخدمات العامة. سوف يتغير كل شيء؛ سوف نتصارع مع بعضنا بعضاً على كل شيء.
حينما أتذكر اللوديت، أتحسّرُ على عدم نجاح حركتهم تلك. فقد كانت لِتجنّبنا الكثير من ويلات التقدم التكنولوجي، سواء كانت من لامساواة وتسليع لقوة العمل أو من تغير مناخي. ولكن أعود وأتذكر الباحث الإنگليزي مالتس، الذي كتب في الاقتصاد السياسي وعلم السكان، وألّفَ نظرية عن هلاك قسم من البشر بسبب تزايد عدد السكان وفقاً لمتوالية هندسية
وقد يقول البعض محِقّين بأن التطور التكنولوجي كان سبباً في تطور منظومة التطبيب، وساهم في اختراع أدوية لأمراض قد تكون تافهة من منظورنا اليوم، إلا أنها كانت قادرة على القضاء على حيوات البشر بكل سهولة وبساطة منذ قرنين فقط من الزمان. كما ساهمت التكنولوجيا في احتواء عدد كبير من البشر في المدن بفضل تطور العمارة ونُظُم الصرف الصحي ومياه الشرب والكهرباء، وغيرها من الخدمات العامة التي نستفيد منها في عالم اليوم. ساهم التطور التكنولوجي في تحويل الزيادة السكانية من مصدر للتشاؤم – وفقاً لطرح مالتس – لمصدر مهم لتحقيق النمو الاقتصادي والتراكم الرأسمالي من خلال المبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد الحديث من تخصص وتقسيم للعمل. ولكن يبدو في النهاية أن نبوءة مالتس كانت صحيحة، ويبدو أن البشر سيَفنَون في النهاية، ليس هذه المرة بسبب قلة الموارد مقارنةً بعددهم ولكن بسبب سعيهم لتخليق المزيد والمزيد من الموارد والسلع، وبسبب تحول الزيادة السكانية لعبء نتيجة نهم الإنتاج والاستهلاك، مما ينهك النظام البيئي وبالتالي يقرّبنا من نبوءة مالتس – فقط بعد تأجيلها بضعة قرون. ولكن المشكلة أنه لن يفنى جزء من الجنس البشري فقط، كما تنبأ مالتس، بل ستفنى العديد من الكائنات الحية الأخرى التي عانت الأمرَّين مع الجنس البشري. ففي البداية قمنا بغزو بيئاتها الطبيعية، وقمنا بطردها منها، ومن ثم قمنا باستئناسها في حدائق للحيوانات، وفي النهاية سنكون السبب في فنائها.
إن التكنولوجيا، وبالرغم من أنها ساهمت في الحد من الأمراض والأوبئة الطبيعية، إلا أنها ساهمت في زيادة ما يمكن تسميته بالأمراض أو الإصابات المصنوعة (من صنع الإنسان) مثل حوادث الطرق على سبيل المثال، أو الوَفَيات والإصابات الناتجة عن الحروب. بالتأكيد، الصراعات والحروب متواجدة منذ زمن بعيد، ولكن لا يمكن بأي حال مقارنة حروب كانت تدور رحاها بالسيوف والخيول أو حتى مدفعية بدائية، بحروب يُستخدم فيها سلاح الطيران والصواريخ الموجهة عن بعد. التكنولوجيا مثلها مثل أشياء كثيرة، لها ما لها وعليها ما عليها، وكما أن هناك تكلفة لعدم وجودها فهناك تكلفة لوجودها، وأظن أنه من الصعب تبيّنُ أيهما أكبر. وبلا شك، التكنولوجيا لا تتوقف فقط على ما تم تطويره خلال القرنين الماضيين، فهي عملية تراكمية. فحتى الاختراعات البسيطة مثل استخدام الآلات الحادة في الصيد والحروب كانت من قبيل الإنجازات اللافتة في وقتها، ولكن ما حدث خلال القرنين الماضيين، وتحديداً خلال الثلاثة عقود الفائتة، يفوق كل ما سبق تلك الفترة ولا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بأي تطور تكنولوجي سبق تلك الفترة خلال تاريخ الجنس البشري على الكوكب.
السباق نحو الهاوية
في مقال سابق، تحدثت عن إعجابي بوجود مصطلح لكل نوع من أنواع التنافس أو السباقات التي نخوضها نحن البشر، سواء كأفراد أو مجموعات (دول). في حالة الدول هناك سباق التسلح، كما هناك السباق نحو الهاوية – والذي يعني تنافس البلدان على اجتذاب الاستثمارات من خلال خفض معدلات الضرائب، وخفض الحماية التي تتمتع بها العمالة عبر تحرير علاقات العمل. في حالة الأفراد، هناك ما يسمى سباق الفئران، والذي يشير إلى السعي المحموم للأفراد لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والمادية، وتحقيق مزيد من الثروة والغنى. يمكن القول إن سباق الفئران بين الأفراد صورة مصغرة من السباق نحو الهاوية بين الدول، أو إن السباق نحو الهاوية صورة مكبرة من سباق الفئران بين الأفراد. كل هذه السباقات تساهم في تدمير نظامنا البيئي والوصول لما نحن عليه الآن. وهنا تأتي وجاهة طرح المدافعين عن فكرة الدخل الأساسي المعمم
المغزى هنا ليس حماية المدينة وسكانها من سكان الريف، بل على العكس؛ الهدف هو حماية سكان الريف من حياة المدينة المسمِّمة القاتلة للسعادة: التكدس البشري الهائل، وسائل المواصلات المتردية، والساعات الطويلة التي يقضيها الأفراد تنقلاً بين أماكن عملهم وأماكن سكنهم في أطراف المدن. والغالب أن المهاجرين من الريف لا يستطيعون تحمل تكلفة السكن في مركز المدينة، وفي الأغلب يسكنون أطرافها وضواحيها الرخيصة، ليشكلوا امتدادهم العمراني الخاص بهم والذي تصفه الحكومات بعد ذلك بالعشوائيات. المدينة قاتلة للسعادة. ثمة كتاب شيق عن هذه العلاقة بين التمدن والسعادة، هو السعادة والمكان للأكاديمي المتخصص في دراسات السعادة واللامساواة آدم كوزاريان. في الأغلب لن تقوم بقراءة الكتاب، وفي الأغلب لن تقرأ مقالتي هذه من الأساس، لأن المدينة لا تعطينا لا أنت ولا أنا أية مساحة لممارسة أنشطة أخرى غير تلك المُدِرّة للدخل في سوق العمل. على الناحية الأخرى، قد يرى البعض أن المدن، وبالأخص المليوني منها، هي الاختراع العمراني الأكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية والبيئية أيضاً، لاحتوائها هذا العدد الكبير من سكان كوكبنا. ففي المدينة يمكن تكديس عدة ملايين في بنايات مرتفعة، ولكن مرة أخرى، المدينة هي الحلبة الرئيسية التي يحدث فيها سباق الفئران الشرس، المغذي للنزعة الاستهلاكية الشرهة، التي بدورها تلعب دوراً رئيسياً في التدهور البيئي.
الاحتباس الحراري يهمنا أيضاً
قد يرى البعض، خاصة في عالمنا العربي وغيره من البلدان الفقيرة دافئة الحرارة، التي يطلق عليها مسمى الدول النامية، أن قضية التغير المناخي قضية هامشية خاصة، وأن لدينا قضايا ذات أولوية مثل غياب الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان وتفشي الفقر واللامساواة. ولكن وكما يقول آدم كوزاريان، مؤلف السعادة والمكان سالف الذكر، نحن نتحدث عن بقاء الجنس البشري، فلو هلك البشر لن يكون هناك مجال للحديث عن حقوق إنسان، لأنه لن يكون هناك إنسان من الأساس. وكما أشرت في بداية المقال، الاحتباس الحراري يؤثر على معدلات النمو الاقتصادي في البلدان الدافئة، التي يؤدي الاحتباس الحراري العالمي لارتفاع درجات الحرارة فيها أكثر فأكثر، وبالتالي فإن تلك القضية التي تبدو هامشية بالنسبة لنا تؤثر للغاية على القضايا الأخرى التي نراها ذات أولوية بالنسبة لنا مثل التنمية الاقتصادية والقضاء على الفقر.
وبعيداً عن الدراسات التي تشير للتأثير السلبي للاحتباس الحراري على معدلات النمو الاقتصادي في الدول الدافئة، فلنتخيل شخصاً يعمل في درجة حرارة تزيد عن الأربعين، كيف يستطيع هذا الشخص أن ينتج أو أن يركز في إنجاز عمله؟ أتذكر جيداً أنني في كثير من الليالي كنت أحتاج لعدة ساعات كي أنجز شيئاً لا يحتاج أي مجهود على الإطلاق: النوم ليلاً. كان ذلك قبل شرائي لمكيف الهواء الذي أشرت له في البداية. نحن سكان الدول الفقيرة الدافئة، علينا ليس فقط الاهتمام بقضية الاحتباس الحراري، بل أيضاً أن نضع الدول الغنية الباردة أمام مسؤوليتها عما فعلته بكوكبنا. فهذه البلدان لم تتوقف لحظة واحدة عن الإضرار بنا، بدايةً باستعمارنا واستغلال مواردنا، ومن بينها الوقود الأحفوري الذي استخدموه لتحقيق نهضتهم الصناعية والتكنولوجية التي ساهمت في تدمير نظامنا البيئي، لنصبح نحن أول المتضررين. الفقراء، سواءً الأفراد أو المجموعات (الدول)، مثلهم مثل الحيوانات والكائنات الحية الأخرى التي أشرت لها سابقاً، لا ناقة لها ولا جمل في الاحتباس الحراري، الذي تساهم بالقدر الأكبر منه الدول الغنية والأفراد الأغنياء، ولكنهم يبقَون الطرف الذي سيتحمل الكلفة الأكبر. وبالتالي نحن سكان تلك المناطق علينا المطالَبة بصفقة عادلة فيما يتعلق بأي تفاوض مستقبلي متعلق بتقليل الانبعاثات الحرارية، وكذلك بمساهمة المتسبب الرئيسي في التغير المناخي بتحمل كلفة الإجراءات اللازمة للتكيف مع الآثار التي سينتجها التغير المناخي، بالأخص على بيئات الحياة في بلداننا الفقيرة الدافئة.
خاتمة
أكتب هذه السطور وفي داخلي قناعة كاملة بأن قطار الاحتباس الحراري سيصل لمحطته الأخيرة ولن يوقفه أي شيء، بل إن النتائج السيئة التي بدأت تظهر نتيجة لانطلاقته ستؤدي في الغالب لمزيد من الصراعات بين البشر على موارد محدودة مثل المياه أو أماكن الزراعة والسكن، بما يؤدي في النهاية إلى تعجيل وصول القطار لنقطة النهاية. بل إن تلك الصراعات ستسهل مهمة التغير المناخي، حيث ستقلل أعداد البشر المفترض به القضاء عليهم. ليس لدي أي أمل في إمكانية توصل دول العالم لاتفاق ينظم مسألة الانبعاثات الحرارية، فالوصول لهكذا اتفاق يتطلب في البداية التوقف عن الدخول في السباقات المختلفة التي ذكرتها سابقاً، وبالأخص السباق نحو الهاوية. لا يمكن التوصل لاتفاق حول مسألة التقليل من الانبعاثات الحرارية في الوقت الذي تتسابق فيه الدول على اجتذاب الاستثمارات وتخفيض معدلات الضرائب لديها، لزيادة الاستثمارات ومعدلات التوظيف ومحاولة لزيادة الدخول والاستهلاك، وهي الأمور التي تساهم في تحفيز سباق الفئران الذي يساهم بدوره في التغير المناخي الذي نعيشه حالياً. على كل حال، أتمنى أن تفشل تشاؤميتي كما فشلت تشاؤمية مالتس، أو أن يكون الشيء المسمى احتباس حراري غير موجود أصلاً كما يدّعي ترامب. لن يزعجني أن يكون ترامب على حق مرة في حياته.