قلما فكرت أن أغادر مدينة الإسكندرية، ولم يكن ليخطر على بالي أن أفعل ذلك في هذا الوقت تحديداً، خصوصاً وأن صديقتي أنهت ما تبقى لها من التزامات في مدينة القاهرة، وأصبحت على بُعد أميال قليلة من منزلي في سيدي بشر. تكاد تكلفة الوصول إليها عبر الميكروباص – أو «المشروع» كما يسميه أهالي الإسكندرية – لا تتجاوز قطعتين معدنيتين، وعليه يمكننا أن نتسكع لساعات طويلة في شوارع الإسكندرية. والحقيقة أن التسكع في الإسكندرية لا يقارَن بمثيله في القاهرة، والتسكع مع صديقتي لا يشبه التسكع مع أية فتاة أخرى في هذه المعمورة

إلا أن حدثاً هاماً أرغمني على قطع تذكرة من محطة سيدي جابر باتجاه مدينة القاهرة عبر القطار الإسباني السريع – وللأمانة هو ليس سريعاً، لكن اسمه يوحي بذلك. حدث ذلك عندما دعاني صديق لحفل توقيع ديوانه الشعري الجديد في معرض الكتاب لهذه السنة. أمران آخران كانا يبطّئانّي عن الذهاب لهذا الحفل، هو أن ثمن الديوان – كما أخبرني صديقنا المشترك – يتجاوز السبعين جنيهاً، وأن هذا الصديق طلب أن يستدين مني ثمن نسخته من الديوان بعد أن شكا لي لساعة عبر الواتسآپ من غلاء سعره وضيق ذات يده. والواقع أنني تواصلت مع صديقنا الشاعر وطلبت منه أن يخفض لنا سعر الديوان لي ولصديقنا المشترك ليكون ثمنه مقبولاً، خصوصاً وأنني سأُبتلى بشراء نسختين منه، إضافة لثمن تذكرتَي ذهاب وعودة بين الإسكندرية والقاهرة لحضور حفل التوقيع. وخلال محادثاتي مع صديقي الشاعر، لم أُخفِ عليه أني لا أمتلك سوى ثلاث أوراق من فئة المئة جنيه لآخر الشهر. إلا أن شاعرنا أقسم بأن دار النشر هو من يتولى تسويق الديوان، وأن لا علاقة له بتحديد السعر وعمليات البيع، وختم حديثه وقتها على عجل، راجياً ألا أتأخر عن موعد التوقيع. هذا التوقيع الذي سيقودني لحالة تقشف مزمنة قد تطول لنحو أسبوعين.

*****

في القطار، كنت منهمكاً بقراءة كتاب يتجاوز الألف صفحة، لا يصلح للاصطحاب في السفر. كان اسمه أعطني حريتي، ويتحدث عن العنصرية ضد السود. أهدتني إياه صديقتي قبل أيام ووضعت فيه قصاصات ورق مع ملاحظات مدونة عليها كانت قد كتبتها بخط يدها، وكان أغلبها ذا طابع فكاهي يعبّر عن روحها المرحة. إلا أن قصاصةً في الصفحة واحد وأربعين بين صفحتين كانت شاذة عن أخواتها، إذ دُوّن عليها سؤال: «هل ثمة فتاة أخرى يمكن أن تعوم في بحرك؟».

فكرت قليلاً بالسبب الذي دعاها تكتب شيئا كهذاً؛ شيء يعبر عن الغيرة ويتحدث عن الأخريات اللواتي لا أعرف منهن أحداً.

دائماً ما كنت أسأل نفسي، ما الذي يدفع الآخر للخيانة؟ ولماذا أغلب الرجال يخونون زوجاتهم بشكل قبيح، ومع فتيات مستهلكات بائسات، ودائماً ما أَصِل لقناعة: أنهم لربما لا يمتلكون فتاة تعوم في بحرهم كما صديقتي.

حالة من الحرمان والتململ، وربما الأنانية أحياناً، تدفع الرجال لتحويل حياتهم لشاطئ عراة تجول فيه نساء الأرض.

لم أكن حينها لألتفت لفتاة مثيرة تفور أنوثةً كانت تجلس بجانبي على المقعد في القطار الإسباني، الذي يسير ببطءٍ كالسلحفاة. ولم تكن سيدات القاهرة الجميلات في محطة مصر يثرن انتباهي عندما وصلت هناك. حالة من الاكتفاء العاطفي كانت تملأ قلبي؛ قلبي الذي كان يمتلئ بقصاصات ورق مكتوبة بخط اليد.

حدّثت نفسي ذات مرة بأنني سأكون زوجاً وفياً إذا ما ارتبطت بفتاة تملأ قلبي، على عكس معظم الرجال الذين أعرفهم، خصوصاً وأن ما يمنعني عن خيانة صديقتي ليس الوازع الأخلاقي والرقابة الاجتماعية – التي أظن أنها تمنع ثلاثة أرباع الرجال في الشرق الأوسط عن تحويل حياتهم لشاطئ عراة – بل شيء آخر لا يكلفني جهداً ولا يقودني لصراعٍ محتدم مع أفكاري كما يحصل مع غالبية من ذكرت. أظن بأنها القناعة التي أمتلكها بأنني مع فتاة لطالما حلمت بوجودها.

*****

معرض الكتاب في موقعه الجديد في أرض المعارض بمدينة نصر قرب القاهرة، كان أكبر من المعتاد، وكانت ضخامته تفوق أي مكان رأيته في حياتي. قبل أن أتجه لحفل التوقيع، بحثت عن أماكن بيع الكتب القديمة المهترئة التي تباع فيها أعظم الروايات بجنيهين أو خمسة كحد أقصى.، معظم هذه الروايات تكون قد طبعت قبل سبعين سنة وأكل الجرذان بعضاً من أوراقها، وغالبيتها بالتأكيد نسخ مضروبة وبلا حقوق نشر.

لفت انتباهي وقتها كتاب يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلى جلده المتآكل يحمل اسم المساكين وتحته يبرز اسم مؤلفه: أحمد صادق الرافعي. ولما تصفحته كادت أوراقه المتخلعة تتلاشى بين يديّ، وعندما لمحت ورقة روزنامة تعود لعام 1923، أقفلت الكتاب بسرعة وكأنني وجدت كنزاً. دفعت ثمنه ثلاثة جنيهات دون أن أساوم على السعر كما أفعل بالعادة، رغم يقيني بأن البائع قد قبض ثمنه زيادة بمقدار جنيه كامل. لم أستطع الصمت. «أعلم أنني دفعت لك جنيهاً زائداً، أرجو أن تعده كبقشيش لك وليس كثمن»، قلت له.

وبعد أن أتممت عملية الشراء، صارفاً ثلاثة جنيهات، أدركت أن موقع حفل توقيع الديوان على مقربة من بائع الكتاب. كان صديقي الشاعر غارقاً مع فتاة قد رآها للتو، يشرح لها عن ديوانه الجديد. ولعله لمحني بطرف عينه لكنه تجاهل وجودي إلى حين يدغدغ مشاعر تلك الفتاة، التي تبدو كصيدة بالنسبة له.

لدي قناعة خاصة بأن ما يشد من همة الشعراء، بشكل خاص من كتاب الأدب، على نسج قصيدة عظيمة، هو أمانيهم بمضاجعة فتاة تنسحر بكلماتهم وتَهيم على وجهها بعد سماع بعض المبالغات الموزونة والجمل الشعرية الغامضة، التي لا يفهمها إلا كتابها. فتنكبّ تلك الفتاة بين ذراعَي أحدهم ليس لشيء بل لأنها لا تقبل بأن تمارس علاقة عابرة إلا في حالة سكر أو نشوة تبرر اندفاعها.

*****

بينما كنت أجول بين رفوف الكتب، وأسخر من عناوينها وأنا أسير مختالاً، معلِّقاً يداً بأخرى خلف ظهري – لا لشيء سوى أنني لا أمتلك نقوداً لأشتري أياً من تلك الكتاب – صدفت عنوان كائن لا تحتمل خفته. وبصوت هازئ قلت لنفسي: «يا لطيف! من ذاك الكائن الخفيف؟ وعمَّ تدور هذه الرواية المتخمة بالأوراق؟».

فردّت على سخافتي فتاة كانت قد سمعتني صدفة، وهمست بصوت منخفض: «رواية استثنائية، تدور حول أقطاب متناقضة في كائن واحد. تتحدث عن الخفة والثقل، عن الروح والجسد، عن القوة والضعف، عن ضحك الملائكة ومعنى الحياة، عن تلاعب الشياطين وتفاهة البقاء».

التفت نحوها وسألتها بجدية. «كيف يمكن أن تجتمع الخفة والثقل؟». أجابتني بابتسامة واثقة وكأنها ترد على هذا السؤال للمرة الألف: «تجتمع عندما يخترق كيانَك شخص استثنائي، فيقلب حياتك من الثقل إلى الخفة أو العكس». انجذبت للنقاش ولإكمال هذا الحديث الشائق مع تلك الفتاة، التي تبدو وكأنها مستعدة للإجابة على كل أسئلتي، وتجيب بتلقائية وكأن ردودها مدونة على جبيني.

هممت لتوسيع نقاشنا، إلا أن صديقنا الشاعر أنهاه في لحظة. أتى، فجرّني من يدي بغتةً من الخلف، لتضيع تلك الفتاة بين الرفوف. بحثت عنها في ذاك المكان المزدحم بعد أنهى صديقنا الشاعر حديثه عن صيدته الجديدة، إلا أنها اختفت ولم تعد في مرمى نظري.

*****

بعد انتهاء حفل التوقيع كان لا بد لي من أن أبيت ليلتي في مدينة القاهرة، لأرتاح من عناء السفر والمسير في شوارع أرض المعارض الطويلة جداً. وبالطبع، ذاك الصديق الذي تحملت دفع ثمن نسخته من الديوان، كان أشد الأشخاص استعداداً لاستقبالي، وتحضير وجبة العشاء لي.

وصلت لمدينة السادس من أكتوبر حيث يقيم. تناولت عشائي على عجل وطلبت أن يحضر لي فراشاً لأنام عليه ولحافاً سميكاً يقيني قساوة شهر يناير وبرد القاهرة. كنت أود أن اختلي بأفكاري لحظة، وأن أعيد كلمات فتاة دار النشر عشرات المرات وأستذكر نظراتها وإيماءاتها. كنت متعباً حقاً، وأريد أن أفكر بكل هذه الأشياء قبل أن يدركني النوم. غاب صديقي لوقت ليس بقصير – على ما يبدو، كان يبحث لي عن لحاف. وسرعان ما دخل وجلس على كرسي بلاستيكي موجود لوحده إلى جانب خزانةٍ ببابين، وقال لي بعد لحظة صمت مصحوبة بابتسامة عريضة: «صديقي العزيز، ليس من عادتي أن أُعير لحافي إلى أحد، خصوصاً في هذا الطقس. أرجو ألا تعتقد بأنني سأفعل ذلك لأجلك؟ لو كنت ضيفاً طارئاً، أقسم لفعلت، ولكنك بتّ زائراً دائماً في البيت منذ نحو سنتين، يوم تعرفت إلى صديقتك الإسكندرانية وبتّ تأتي للقاهرة لأجلها. وأكبر دليل على ذلك هو امتلاكك لنسخة من مفاتيح الشقة.

«لذلك دعنا ننسى قصة الإيثار تلك بمنح لحافي لك، ولنكن أكثر واقعية. انظر لباب البلكونة هذه؛ هل ترى أسفله؟ إنه لحاف وضعته منذ بداية الشتاء ليسد الهواء البارد القادم من الفوهة الواسعة بين البلاطة والباب. لسوء حظك، النجار الذي أقام هذا الباب لم يكن بالمستوى المطلوب.

على كل حال، عليك الآن أن تختار بين أمرين: إما أن ننزع هذا اللحاف من أسفل الباب لكي تتغطى به، وبالتالي تواجه الصقيع القادم من فوهة بعرض أربعة سنتيمترات وبطول متر، أو أن يبقى الوضع على حاله وتُغفي بلا لحاف».

فكرت ملياً قبل أن أقبل بالخيار الأول، وقمت بنزع اللحاف من أسفل الباب. لم أرفع لحافاً في حياتي بهذا الوزن. كان ثقيلاً ومعفّراً. ولما رميته على فراشي، تشكلت سحابة غبارية واسعة في الغرفة، حتى بت لا أرى صديقي من كم الغبار المتطاير، بل إنني استشعرت التراب يملأ فمي ويلتصق بأسناني، ويشكل طبقة بلورية في عينيّ.

عطست حينها أربع مرات متتالية لأول مرة في حياتي – وكنت دائماً ما أكتفي بمرتين أو ثلاثة. شعرت أنني استنشقت معمل إسمنت كامل. اقترحت على صديقي تنظيفه، لكنه أخبرني باستحالة ذلك، فاللحاف أصلاً كان مع الخردة في البلكونة لفترة طويلة، والماء لم يمسّه منذ أربع سنوت، أي منذ تاريخ شرائه.

*****

التحفت بذاك الغطاء بعد أن ألِف جهازي التنفسي أجواء الغرفة، وبعد أن أطفأ صديقي الأنوار في المنزل. استلقيت على فراشي شارداً في سقف الغرفة الباردة المظلمة، أعيد استذكار الموقف وكلمات تلك الفتاة في دار النشر، لم أرَ فتيات كثيرات في مصر تسمح لهن حريتهن الاجتماعية بأن يفكرن بفلسفةِ كاتبٍ ككونديرا، وإن فكرن بذلك فلن يسمح لهن مجتمعهن بأن يؤمنّ بأية أفكار تتعارض مع سطحية السائد في المجتمع.

أُعجبت بثقة وإصرار فتاة دار النشر، وتمنيت لو بقيت معها لدقائق إضافية لأسمع منها أكثر عن الرواية؛ هذه الرواية التي بدأت بقراءتها بعد أن قررت تحميل نسخة إلكترونية منها على هاتفي لرغبتي باستئناف ذاك الحوار المنقطع مع فتاة دار النشر، عبر شخوص هذه الرواية التي تمثلت إحداهن في صورتها.

خمس ساعات متواصلة من الشغف عشته مع شخوص هذه الرواية. تمنيت ألا تنتهي كما انتهى لقائي مع فتاة دار النشر، وأن يلد الكتاب أوراقاً جديدة، وأن تجري أحداث أخرى تُبقيني في عالم كونديرا. كنت رغم ذلك مؤمناً بأن علينا أن نكون أكثر مرونة في تقبل العلاقات المؤقتة، التي من الممكن أن تدوم لساعات أو أيام أو شهور، وتنتهي بدون مبررات مقنعة، كما كنت، مثلي مثل آلاف اللاجئين، أتقن تلك المهارة القاسية المتمثلة في التعوّد على ترك الأشياء، وفي نسج علاقات مؤقتة مع الحي ومنزل الأجرة اللذين نستعد لتركهما بأي وقت والبحث عن غيرهما. قد يكون المنزل أصلاً في بلد آخر بلغة أخرى وسكان آخرين بطبائع مختلفة، وهذه الطبائع تفرض تبنّي أفكار جديدة والتراجع عن أخرى قديمة تحت وطأة ما يعرف بالاندماج.

لقد بتنا مندمجين للغاية وعلى استعداد بأن نقيم علاقة ليوم واحد، بل للحظة واحدة، مع أي شيء. ورغم كل هذا الاستعداد النفسي لم يكن سهلاً علي أن أودع شخوص كونديرا ببساطة، وعندما وصلت للأوراق الأخيرة، شيءٌ ما حدث؛ أمنيتي تحققت. الرواية لن تنتهي فعلاً: واحدة من شخوصها ستأتي إلي، وتكمل معي جولة جديدة من الأحداث، وصلتني رسالة للتو على الواتسآپ من فتاة تدعى لمى. إنها فتاة دار النشر!

*****

«مرحباً، أنا لمى الفتاة التي قابلتها في دار النشر».

أجبتها وكأنني أستكمل حواراً معها دام لخمس ساعات: «أهلاً! لتوي انتهيت من الرواية».

لم تعلق وتسألْني أي رواية أقصد، وكأنها هي من كانت تراودني كل هذه الساعات وتعرف تماماً أي رواية أقصد. قالت جملة واحدة: «أود أن أراك غداً في وسط البلد». لم أُخفِ أنني أود ذلك الآن أكثر من أي شيء.

وبعد أن انتهت المحادثة بيننا بدقائق، شيءٌ ما دفعني باتجاه الكرسي البلاستيكي الذي وضعتُ عليه كتاب صديقتي. قلّبت أوراقه بسرعة لأُخرج تلك القصاصة التي باتت تتكرر في أذني وتقول بصوت صديقتي، التي بات  الشك يغلب على نغمته أكثر من الغيرة: «هل ثمة فتاة أخرى يمكن أن تعوم في بحرك؟».

فكرت ملياً والقصاصة بين يدي. هل خروجي غداً مع فتاة دار النشر خيانة لعلاقتي الاستثنائية مع صديقتي؟ كنت دائماً ما أسأل نفسي: هل من المعقول أن أكون ساذجاً لأعتقد ذلك؟ أليس من حق كل واحد منا الخروج مع أصدقائه؟ هل أنا معجب بفتاة دار النشر؟ ُإن كنت معجباً بها، من المؤكد أن ذلك طارئ سيختفي بعد أن ينتهي لقاؤنا. هذا ما حدثت به نفسي مطولاً، لكن هناك أشياء تستطيع أن تخدع فيها الجميع إلا ذاتك. لم أقتنع بأن اللقاء سيكون كلقاءاتي المعتادة مع أخريات، ولكن في المقابل، وجدت من السخف أيضاً أن أصنف لقائي غداً ضمن أفعال الخيانة.

أشعلت الحيرة قلبي. أيقظت صديقي الذي يشاركني الغرفة في منتصف الليل، وسألته كيف أستدل على الخيانة؟ وكيف من الممكن أن أحكم على تصرف ما بأنه خيانة؟ لم يُجِب. يبدو أنه أغفى مجدداً قبل أن أوقظه مجدداً وأعيد عليه السؤال، وأخبره بأنني سألتقي فتاةً غداً. سألني وقتها وعيناه مغمضتان: «هل ستخبر صديقتك في الإسكندرية عن لقائك هذا؟». صمتُّ لحظة وتنهدت. «لا، لا أظن»، أجبته. استدار تجاهي بعد أن فتح عينيه وكأنه يُبرز كلماته بخط عريض كواعظ: «أعلم يا صديقي أن الكذب هو الباب الواسع للخيانة، وعندما يُبتدأ الكذب، تبدأ الخيانة».

*****

مع صباح اليوم التالي، رفعت لحافي ببطء كي لا يثير تحركه غيمة ترابية في الغرفة، إلا أن اللحاف كان نظيفاً ولم يكن هو ذاته. علمت فيما بعد أن صديقي أبدل لحافه بلحافي بعد أن أطفأ أنوار الغرفة.

وصلت لوسط البلد في مدينة القاهرة قبل نصف ساعة، بعد أن اتفقنا على لقائنا في كافيه كافيين هناك. انتظرتها في البلكونة المغلقة داخل الكافيه التي تتسع لشخصين فقط. لم يمضِ وقت طويل حتى أتت، ولا أنكر أن قلبي عندما رأيتها ارتفعت نبضاته. لم أرَ فتاة بهدوئها وثقتها. أستطيع أن أقرأ ذلك من نظرات عينيها وخطواتها المتزنة. فتاة تأسر أي رجل من اللحظة الأولى، قبل أن تتحدث حتى. ماذا لو بدأت الحديث؟ أي إثارة سأعيشها؟ هذا ما فكرت به لثوانٍ قليلة.

قالت «مرحباً» وسألتني على الفور وكأنها تكمل حديثاً، وهي تخرج علبة السجائر من حقيبتها: «ما الأفضل برأيك، حياة نعيشها متخففين من كل ثقل وشعور؟ أم أخرى ترتسم فيها خطواتنا وفقاً لجاذبية المعاني والمشاعر الثقيلة؟».

رددتُ على تحيتها وأجبتها بنفس المباشرة: «ذلك يتوقف على الحالة العامة لكل شخص، وعما إذا ماكان لاجئاً في بلد ما أم لا. أظن أن لكل منا ظروفاً تفرض عليه طبيعة اختياراته بين الخفة ومستوى الثقل الذي يريده».

أردفت بابتسامة: «أظن أنني ممن يتوقون للثقل ويمارسون الخفة. لا أخفيك بأنني أتمنى أن أحيا قصة حب حقيقية طويلة وربما أبدية، لكن أعرف جيداً أنني سأضطر لأن أغادر الإسكندرية يوماً ما وسأقطع كل صلاتي مع هذه المدينة وشخوصها.

«بالمناسبة أنا لا أستطيع أن احتمل رائحة السجائر في مكان مغلق، أرجو أن لا تشعلي واحدة منها هنا وأن تؤجلي ذلك ريثما نغادر المكان».

أعادت علبة السجائر إلى الحقيبة: «أتعجّب من هؤلاء الذين لديهم القدرة عن الإقلاع عن التدخين. لا أتخيل أنني سيأتي علي يوم وتنتهي علاقتي مع هذه السجائر! منذ أن أول سيجارة وأنا مدمنة عليها، وكذلك علاقتي مع القهوة التي أشربها صباح كل يوم».

«من المثير أنك تعرفين تماما ما تودينه»، وبابتسامة أشرت إلى قائمة المشروبات: «هذا سيسهل لك اختيارك لمشروبك».

«وماذا عن اختياراتك؟»، سألتني.

«في العادة أطلب ما يطلبه الشخص الذي يجلس أمامي، لذلك سأنتظرك بينما تختارين».

«كأس ليمون».

«وأنا أيضاً سأطلب ليموناً».

استدركتْ قائلة: «ولكن سنطلب منهم أن يُحْضروا الليمون لكي نعصره بأيدينا، فالعاملون في كافيهات وسط البلد يضعون الليمون بقشوره في الخلاط الكهربائي، فلا يخرجون منه البذور وسيكون طعم الليمون بالغالب مراً في هذه الحالة».

«ولكن قبل أن نطلب الليمون، تذكرت شيئاً مهماً. كيف وصلتِ لرقم هاتفي المحمول؟». قالت: «أخذته من صديقك الشاعر بعد نهاية حفل التوقيع».

«ولماذا لم تحدثيني لحظة حصولك عليه؟».

«كنت انتظر انتهاءك من الرواية».

*****

لم أكن أستطعم مرارة الليمون في وسط البلد خلال أربع سنوات من إقامتي في حي سعد زعلول، ونسيت أمره كله بعد مرور خمس ساعات، غرقت خلالها مع فتاة دار النشر في تلك البلكونة المغلقة والمعزولة عن باقي أجزاء كافيين. هل فعلاً مضت خمس ساعات ونحن سوياً في كافيين؟ كنا هائمَين، نقلّب المواضيع والأفكار في عالم مختلف كلياً إلى أن أتى نادل الكافيه واخترق الفقاعة التي تعزلنا عن واقعية القاهرة، مستفسراً ما إن كنا قد طلبنا شيئاً. أعادنا صوته لندرك حدود البلكونة، فوجدنا مقاعدنا قد أصبحت أكثر قرباً لوحدها، وكاد وجهها لا يبعد عن وجهي أربعة أصابع.

طلبنا منه حينها أن يحضر ليموناً وعصّارة وسكيناً، وذُهل من طلبنا قبل أن يسجل ما قلناه على ورقة صغيرة ويغادر وهو في حالة من الدهشة.

لا أذكر كلماتها بدقة، ولا القصص التي روتها خلال تلك الساعات، ولكن أذكر شغفي وانتشائي بها. كانت كلماتها أعظم من كونديرا، وقصصها لا تفتأ تتفرع منها حكايات جديدة وتفاصيل تقود لتفاصيل أجد منها.

بعد أن أحضر النادل معدّات العصر، بدأت فتاة دار النشر باستخدام العصارة اليدوية لعصر الليمون، وهي صامتة شاردة في رأس العصارة المقوَّس المستدير كهرم منفوخ. ولما انتهت قالت لي، وهي توجه أصابعها المبللة بالليمون باتجاه وجهي: «هل من الممكن أن ينتقل كائن ما من الخفة إلى الثقل في ومضة؟ هل من الممكن أن نأخذ استراحة من ادعاء الثقل؟». قالت ذلك بعينين ذابلتين وتنهيدة ساخنة، ثم مررت أصابعها الغارقة بماء الليمون على شفتي السفلية، وقالت: «للسيدات شفة أكثر خفة من أخرى، وأشد إثارة». ثم حركت أصابعها لشفتي العلوية واستدركت: «ولكن معظمهن لا يُدرِكن أية شفة منهن تلك، حرارة التقبيل تنسيهم. فماذا عن الرجال؟».

وقبل أن أجيب، قبّلتني بهدوئها ذاته في ذات المكان المبلل وهي تقول: «ستكون قبلتي الأولى استثنائية لرجل بطعم الليمون».

ولما استعدنا روحَينا، طلبَتْ أن أسمح لها بأن تشعل سيجارة، وكانت قد اتجهت لإشعالها قبل أن تسمع موافقتي. وبعد أن دخنت ثلاث سجائر وهي صامتة تماماً قالت:

«يقولون إن من غير الطبيعي أن تسمح فتاة لرجل بأن يقبّلها في أول لقاء بينهما، يعتبرونه شيئاً من الخفة. فما بالك بالتي تبادر بذلك!

وربما لديهم الحق، فذلك إما يشير إلى أنها بلغت مبلغاً كبيراً من الخفة، أو أنها تتجه إلى مرحلة عالية من الثقل يُستبعَد وصول الرجال إليها أحياناً.

وأظن أن على كل كائن أن يكون حذراً دوماً قبل أن يعبر عن عواطفه في اللقاءات الأولى، كي يكون أكثر اتزاناً وحرصاً على وزنه العاطفي، ويمكن خلال مراحل معينة أن يكتشف أنه وصل لذات مستوى الثقل مع الآخر، ليقررا بعدها أموراً كثيرة…

لذلك، أرجو أن تعلم أن قبلتي لك كانت استثنائية، وحدّاً فاصلاً لعلاقة مع رجل بطعم الليمون».