الحادث هو ظهور خاصيّة في شيء ما، كانت تخفيها خصائصه الأخرى.
– بول فيرليو، الحادث الأصليّ
عام 1980، في 26 آذار، مرّت شاحنة غسيل من «شارع المدارس» في باريس، وضربت رولان بارت. بعدها بشهر، مات صاحب لذة النص. عام 2015، وفي رواية الوظيفة السابعة للغة للورانت بينيه، يستجوب المحقق بيارد كل مثقفي فرنسا، من جوليا كريستيفا إلى جيل دولوز وميشيل فوكو، بهدف اكتشاف القاتل. لم يصدق أحد، ومن ضمنهم المحقق نفسه، أنه يمكن لحادث سيارة بهذه العبثية أن يقتل صاحب الكتابة عند الدرجة الصفر. بعيداً عن حبكة الرواية البوليسية، يظهر الحادث وعبثيته كتهديد للتماسك الظاهري والمنطقي للعالم؛ هو الشبح الذي يطارد انضباط العالم من حولنا ولا نصدقه إلا حين حدوثه، مشكّكين بحقيقة أنه فعلاً «حادث». فهو الاحتمال الضئيل الذي نستثني حدوثه، لكننا نبذل كل ما بوسعنا لتجنبه، خصوصاً أن اكتشاف عبثية الحوادث أقرب إلى «نفي للإنسان بدون أي حسّ».
الحوادث والأخطاء هي المحرك الذي يُبنى عليه التقليد العلميّ والمنطقي، الذي أنتج الديمقراطية والدولة، التي تتبنى ما سبق للحفاظ على تماسكها وأمن الخاضعين لسيادتها أثناء سكونهم وحركتهم. ويتجلى هذا الحرص على تفادي الحوادث في الشارع، واحد من الفضاءات الذي تُضبَط فيها السرعة بدقة: إشارات المرور، شرطة السير، الألوان على الأرض، الإشارات الطُرُقية، تمارين القيادة…، كلها مؤشرات وخبرات وشكل مادي لقوانين سرعة الانتقال. مع ذلك، يبقى الحادث كشبح يتحرك في الشارع، لا نعلم بدقة كيف سيظهر، خصوصاً في شوارع المدينة، المساحة التي يظهر فيها الإيقاع المضبوط بدقّة، حيث كلّ شيء مُقاس ومحدد ومقنن. يبدو الأمر حسب تعبير بول فيرليو كالتالي: «في عالم كل شيء فيه مفسَّر رياضياً أو نفسياً، يبقى الحادث خارج التوقع، مفاجأة حقيقة، هو تلك القيمة غير المعروفة في الكوكب التي لا يمكن اكتشافها، في الوقت ذاته، هي مرئيّة أمام الجميع».
هيمنة ظاهرة التسارع على القرن العشرين، وهوس السيادة بمفاهيم «السباق الحربي، سباق التسلح، سباق الفضاء، سباق الهيمنة…» حوّلَ «العالم» إلى ما يشبه متحف حوادث، ومساحة لأركيولوجياتها ومخلفاتها في سبيل تفاديها مستقبلاً؛ بصورة أدق، لخلق تصميم جديد لا ينفي حدوثها، بل يقلل أضرارها، وكأنها حاضرة دوماً ولا يمكن نفيها كلياً. الأهم أن الحوادث في القرن العشرين، تلك الاصطناعيّة، الكبرى، أصبحت ذات شكل ثقافي ميتافيزيقي، مشابهة لتلك الحوادث الأولى، التي أنشأت العالم كالانفجار الكبير، وطوفان نوح. لكن الاختلاف أن هذه الحوادث الاصطناعية، الناتجة عن تسارع التطور البشري، تبقى عقيمة، فهي نتاج سرعة لم تعرفها «الأرض» من قبل. هذا العقم ينشأ من قدرتها على نفي العالم وتفكيك شكله، ثم عجزها عن إعادة خلقه، وإن كان هناك ناجون، فهم معطوبون إلى حد يمنعهم من إعادة إنشاء المكان بصورة تضمن استمرار الحياة والأهم، الاستقرار. إثر ذلك تبدو هذه الحوادث الاصطناعيّة كاحتمالات فناء إثر تسارع لاطبيعيّ. وهنا، يظهر شخص السيادة كآلهة شبقيّة، مجنونة، مهووسة بالسباق، إن «خسرت» أو «سهت» أو «تسببت بحادث» فلن تستطيع إعادة الخلق، مع ذلك هي متمسّكة بالسباق وتقنياته، أشبه ببهلوان يركض تجاه حتفه ضاحكاً.
الحادث كمحرك للتصميم
التسارع والسعي لتفادي الحوادث المرتبطة به، لا نراه فقط في القطاعات العسكريّة والنووية والعلميّة، بل أيضاً في الحياة اليوميّة. ولن نتحدث عن تصميم السيارات، أو أدراج الحريق، أو كل الأدوات التي تضمن «السلامة» بل عن ذاك التصميم، المستقر، الثابت، العادي جداً، كالأبواب، ذات العرض القياسي (90سم) في المنازل والشقق، وما يليها من ممرات، المضبوطة لا فقط من أجل التدفق والحركة والدخول والخروج، بل أيضاً لأجل الإسعاف ورجال الإطفاء ومعداتهم، فـ«أصغر» مقياس للباب أو الممر، يحدد على أساس عرض رجل الإطفاء بزيه الكامل، وعرض النقالة التي يستخدمها المسعفون في حال حصول حادث.
الشيء ذاته في الأوتوسترادات والشوارع العريضة، فالسرعة المضبوطة فيها لا ترتبط بالسرعة بصورة مباشرة، بل بمهارة القيادة، ليأتي تصميمها وأبعادها وعلامات ضبط التسارع على أساس حوادث متخيلّة ضمن سرعات مختلفة بسبب سهو بشريّ أو عطب تقني ما. وهذا ما نراه أيضاً في تصميم السيارة، التي من النادر أن نستخدم سرعتها القصوى، مع ذلك فإن نظام الحماية فيها قائم على أساس الحادث المتخيل والسرعة المتخيّلة اللذين يتحكمان بالتصميم، الذي يجب أن يضمن الأداء «الأسرع» و«الأكثر أماناً». ومع أن الخاصيتين غير متناقضتين، إلا أنهما يخلقان شبح الحادث. ذات المعايير تحضر في تصميم المدن وشوارعها، التي يَضبِط تدفقَ الأفراد فيها سرعاتٌ متخيّلة وحواجز وإشارات، تتحكم باحتمالات انتقال السكان ضمن جماعات، وتضمن فض الحشود والتجمعات بسهولة أو تحريك الجيوش والقوات العسكرية بسرعة لتتحول المدينة إلى حصن مستعد للهجوم أو مواجهة الحصار.
الأهم أن السرعة العالية في الأوتوسترادات حول المدن لا تهدف للانتقال، بل للتحصين، لتكون الأوتوسترادات أشبه بأسوار خطرة تهدد حياة من يحاول عبورها. هي حواجز تفصل، وتمنع الانتقال غير المضبوط. ولنضرب مثال دمشق، فالمعارك على المتحلقات والأوتوسترادات حولت هذه الطرقات الإسفلتيّة العريضة إلى نقاط موت وقنص، ليصبح عبورها تهديداً مباشراً للفرد. هي أشبه بسور بين «داخل» و«خارج»، يمكن بسهولة قطعها ومنع الانتقال عبرها أو ضمنها.
التسارع التكنولوجي حرر التجربة العلميّة من المختبر، فمسرّع الجزئيات LHC يمتد على مساحة 27 كيلو متر ويتخلل فضاءات الحياة اليوميّة في العديد من القرى والبلدات بالقرب من حدود فرنسا وسويسرا، ويقترب من جنيف، واحتمالات وطيف الحوادث فيه تهدد «الجميع». إذ يمكن ببساطة أن يخلق ثقباً أسوداً يبتلع «العالم»، وبالرغم من أن تقارير السلامة تؤكد أن هكذا احتمال شبه مستحيل، لكن لا يمكن التنبؤ بشكل الحادث أو طبيعته. ذات الشيء في المفاعلات النووية السلميّة، وهنا تظهر معضلة سياسيّة وسياديّة: متى تنازلنا عن حقنا بالحياة وتفادي الخطر في سبيل «التجربة العلميّة الكبرى» والخطرة، أو المصانع التي تهدد الحياة واستمرارها؟ هذا السؤال يطرحه حالياً الفرنسيون، الذين بدأوا بالاحتجاج ضد استخدام الطاقة النووية لما تسببه أضرار واحتمالات موت وحوادث تهدد المواطنين.
تحمل الحجج السابقة نزعة مثاليّة، وأحياناً ساذجة، إذ لا يمكن التراجع أو إعادة تشكيل «العالم»، لكن التسارع العلميّ وما نتج عنه من «اكتشافات» جعلنا أشبه بفئران تجارب غافلة عمّا يحصل، كما حصل مؤخراً مع الهواتف النقالة التي تنفجر بيد المتكلم. خطأ صناعي بسيط لم نعلم نحن أو الصانع بأنه ممكن الحدوث، هدد حياة الكثيرين، وجعل هذا الغرض/الهاتف يقارب بصورة ساخرة الأغراض السحريّة الربّانيّة، التي قد تحوي احتمالات «الحوادث» دون أن يعلم أصحابها، كَيَدِ موسى البيضاء التي قَتَلتْ نفساً إثر سوء تقدير.
هذا اللاتوقع الذي «لا يضبط» الحادث، وظهور الأخير المفاجئ، يجعلنا أمام «لانظام الحوادث»، بوصفه مجموعة من الاحتمالات المتغيرة دوماً، والحاضرة من بعيد. هي أشبه بلاوعي التطور العلميّ والتقنيّ؛ مساحة مجهولة، لا ندرك كلياً ما فيها لكننا نتجنب أعراضها. هي تحرك العالم «المنطقيّ»، لكن يمكن لها أن تنفلت في أي لحظة. هي أشبه بنوبات الجنون، أو «الهيستيريا» التي من السهل الانزلاق إليها وتبنّيها، وكأن الوعي/العلم يتحرك ويُنشئ نفسه والعالم لتفادي الحوادث/اللاوعي.
يظهر الهوس بالسرعة أيضاً رغبةً فيتيشيّة؛ غرضَ لذّة من نوعٍ ما نندفع نحوه، وندرك أخطاره لكننا نتجاهلها؛ أشبه بإدمان على اختزال الزمن سعياً لتحقيق رغبة دفينة في اللاوعي لطيّ التراب وتجاوز المكان. هذه الرغبة لا نعرف بدقّة حدودها، لكننا نعلم خطورتها ونختبرها، مع ذلك نسابق الوقت و«نركض» باتجاهها، ليبدو الحادث والخراب الذي ينشأ عنه شكلاً صرفاً للعالم، إن حققناه كما نريد دون أي قيد أو جدار.
الرعب والنظام العام
تستثمر السلطة في لانظام الحوادث، وتستفيد من «الرعب» الذي ينتجه عنها، لتكرس اللامتوقَّع، وتكرره وتُعيد بثّه لتخلق تدفقاً من الخوف اليوميّ. فنشرات الأخبار الجديّة والحكايات الترفيهيّة أشبه بسيل من الحوادث والتنبيهات في سبيل الحفاظ على الرعب من ذاك المجهول، ذي الاحتمال القائم في أي لحظة، ذي العواقب الوخيمة التي تهدد حياة الذين «بلا قوة»، الخاضعين للتدفّق، الضحايا المحتملين. هم بلا قوة كونهم غير قادرين على ضبط لانظام الحوادث؛ هم متفرجون فقط، يبني تدفقُ الصور لديهم أفقَ توقعات عن احتمالات الحوادث، ليظهر «النظام العام» كحلّ وأسلوب لمواجهة المجهول. كما كان يحصل مع القذائف العشوائية التي كانت تنزل على دمشق: هناك جدل دائم حول مصدرها، والكثير من الأصابع تتوجه للنظام السوري و«جيش الإسلام» على حد سواء. لكن لنفكر بالحل المنطقي لهذه «الحوادث»: «لا تغادر المنزل»، الذي لا يمكن اعتباره مساحة آمنة بشكل تام. لقد وَظّفت البروباغاندا الحوادث العشوائية والأذى الذي تسببه للحد من الحركة، ولضبط تسارع تدفق البشر عبر توظيف الرعب، واحتمالات الحوادث التي لا تفرق بين ضحاياها الذين «بلا قوة»، المُراهِنين حرفياً على الحظّ في سبيل نجاتهم.
هناك تشابه بين أثر الحوادث الكبرى والبروباغاندا السياسية، يمكن تلمسه في التمارين الساخرة في التي تهدف للنجاة من الحادث، كتلك التي تعلّمنا إياها مُضيفة الطيران قبل إقلاع الطائرة، أو تلك الإعلانات التي كانت تُبثّ في السبعينات للحماية من القنبلة النوويّة، والتي كانت تنصح الناس بأن يغطّو وجوههم وينبطحوا على الأرض في حال حصل الانفجار. هذه التمارين والمهارات الساخرة، التي لا تحمل أية قيمة حقيقة لتفادي الحادث، تمتلك شكل آخر في الأنظمة القمعيّة التي تختلق احتمالات حوادث أو هجمات من قبل الأعداء وتمرّننا على تفاديها. كما في سوريا في معسكرات الطلائع والشبيبة، التي تنتج جنوداً أكروباتيين، كون المهارات التي يمتلكونها لا تكفي لمواجهة «الخطر» أو «الحادث» إن وقع، لتبدو هذه «التمارين» مجرد تحريك وتكريس للرعب من «اللامتوقع»، وتحويل احتماله إلى نشاط جسدي لا يحوي أية مهارة أو تقنيّة، بل مجرد جهد مجانيّ ضد احتمالات خطر مجهول ومتغيِّر، كالحادث، لا نعلم مصدره أو شدة مداه، والأهم جديته. فقد يزرع هذا الخطر مغناطيس في الأحزمة الرجّالية أو يقصف بالطائرات من السماء.
سيرك الحوادث
أنجز الفنان اللبناني أكرم زعتري عام 1999 معرضاً بعنوان «المركبة، تصوير لحظات الانتقال في مجتمع حداثي». أعيد المعرض مرة أخرى عام 2017 في متحف الفن المعاصر في برشلونة، وضمن المعرض، نرى مجموعة صور لحوادث السيارات، حيث يقف أفراد أو أسر بجانب السيارة المحطمة لتوثيق لحظة ما بعد الاصطدام، ليبدو الأمر أشبه بوثيقة. في ذات الوقت رغبة بالظهور و«التموضع» أمام اللامتوقع، الذي يتمثل بالعربة التي فقدت شكلها ونظامها وتحولت إلى كتلة حديدة. هذا التقليد ما زال حاضراً، بل وتنصح به شركات التأمين، ليرى الباحث نفسه أمام طبوغرافيا كاملة للحوادث؛ عدد لا نهائي من الصور التي توثق الحادث ومعالمه لكشف أسبابه، وتخزين لحظة «الما بعد». تلك اللحظة تظهر بين حركة وحركة، والسكون بينهما، هُنيهةً تتوقف فيها الحركة، ويظهر فيها الحادث وينفي إيقاع ما بعدَه إثر انعطافة أو خطأ أو سهو يخرّب التصميم والوظيفة.
أحياناً، تتحول اللحظة المتخيّلة السابقة إلى أداء دفين تترصده أعين العدسة، التي تحدق بالمؤدي مستفزّةً اللامتوقع كي «يظهر»، لنرى أنفسنا أمام بورنوغرافيا للحوادث، أو فيديوهات الـfails: ساعات لا متناهية من أخطاء وحوادث تخاطب تلك الرغبة الدفينة بأن نرى أحدهم يقع أو يفشل، ليتجلى في حركته ذاك الذي نشكّ بحدوثه دوماً ونتفاداه، لتبدو هذه التسجيلات كتكثيف للحظات الخطأ اللاواعي، تكرَّر وتعاد دون شبع، خصوصاً ولذة مشاهدة الحادث لامتناهية، بظرية، تزداد كلما استمر الزمن. لا نشوة نهاية كونها غير مضبوطة ولا ذروة لها، فلا سيناريو مسبقاً للحادث، وهو يتغير ويتجدد دوماً. هذه الفيديوهات شكل من أشكال الترفيه القائم على رصد الصدفة، والرهان على السهو بمواجهة الإتقان.