«أتمنى لو كنتَ هنا، i wish you were here» هو اسم  مهرجان الصيف الذي استضافته برلين من 23 إلى 27 تموز الجاري، ونظمه صندوق الدعم العربي للثقافة والفنون (آفاق) بالتعاون مع شبكة فلاكس للتواصل والتعاون الثقافي. وقُدمت خلال المهرجان مجموعة من عروض الأداء والحفلات الموسيقية، التي شارك فيها فنانون من مختلف أنحاء العالم العربي، من مصر ولبنان وتونس والمغرب وفلسطين، بالإضافة إلى فنانين من دول غربية. وقد اهتمّ المهرجان خلال أيامه الخمسة بشكل خاص بفنون الأداء المتنوعة والموسيقى التجريبية التي تستند إلى الخلط بين أنواع مختلفة من الموسيقى الشرقية والإلكترونية، كما برز بشكل واضح التوجه نحو مواضيع محددة، تتناول في غالبها تيمة الهوية وعلاقة المهاجرين بأوروبا.

وقد تضمن المهرجان عرضين ينتميان إلى ما يعرف بعروض الأداء، هما «أشباح المعنى» و«النسخة الثانية: أحب هذا العنوان». وعروض الأداء بشكل عام هي عروض حيّة تجمع بين أنواع مختلفة من الفنون، الموسيقى والرقص والتمثيل، التي قد تتزامن مع عرض صور مختلفة أو فيديوهات أو نصوص مكتوبة، بحيث تتشابك هذه العناصر لتولد نسجياً متكاملاً وتنتج من خلاله معنىً جديداً. وقد تطورت فنون الأداء بشكل خاص في الستينات، وكانت تعتبر في وقتها تحولاً ثورياً وجديداً في الفنون، سواء على مستوى الأسئلة التي طرحتها حول جماليات الفن ومعاييره، أو على مستوى علاقة هذه الفنون مع الفضاء الثقافي العام والمعنى السياسي الذي تحمله. ومن الموضوعات المهمة التي يتم التطرق لها في عروض الأداء: الجسد والهوية، والتاريخ الشخصي أو السرديات الصغرى للأفراد، والعنف الاجتماعي المبني على التمايز الجندري أو العرقي.

أشباح المعنى

أشباح المعنى هو بيان أدائي من إخراج التونسي محمد علي لطيف، يجمع بين الموسيقى الحية التي يقدمها عازف التشيلو الفلسطيني فارس أمين، والرقص الذي تؤديه الراقصة الفلسطينية ريما برانسي، والتمثيل الذي يقوم به التونسي مجد مستورة. والمعنى المقصود في عنوان العرض  هو الهوية بصفتها المعنى الذي يحاول المهاجرون الوصول إليه، فإذا كان الهدف دائماً هو الوصول إلى المعنى بصفته اللب والنتيجة التي نبحث عنها، فكذلك هي العلاقة مع الهوية التي نسعى للعثور عليها.

يقدم الممثل التونسي مجد مستورة، الحاصل على جائزة أفضل ممثل في مهرجان السينما في برلين عام 2016، مونولوجاً يلعب في الجزء الأول منه شخصية شاب أميركي يخوض حواراً مع والده، ويجسد فيه الصور النمطية عن الإسلاموفوبيا وتناقضاتها، لينقلب في الجزء الثاني من المونولوج  إلى شاب تونسي يعمل ممثلاً، لكن مشكلته الأساسية هي أنه لا يعرف ذاته، ويتصرف دائماً بحسب ما يختاره له الآخرون. يتركز المونولوج بشكل خاص حول الاستشراق والاستشراق المعكوس، وحول علاقة المهاجر العربي بأوروبا التي «صارت تعرفنا أكثر مما نعرف ذاتنا، وذلك بعد تاريخ طويل من الأبحاث والأفلام والأعمال الفنية التي موضوعها نحن» كما يرد في أماكن متفرقة من المونولوج نفسه.

وتتخذ هذه الأفكار معنىً خاصاً عند سماعها من الممثل، الذي تنطوي في كلامه مفردات الشخصية والنمط والهوية على أبعاد أخرى تتجاوز المعاناة الفردية للمهاجرين، لتعكس أطراً تحدد الموقع الذي وُضِعَ فيه المهاجر التونسي، والتي تشبه حال كثير من المهاجرين العرب، والمهاجرين من جنسيات أخرى أيضاً. ومن أبرز الأمثلة على ذلك في المونولوج، أنه عندما تقدّمَ الممثل لاختبار الأداء من أجل دور في فيلم فرنسي، كانت النتيجة هي الرفض، وسبب ذلك أنه «أبيضٌ أكثر من اللازم ليلعب دور عربي، لكن لغته الفرنسية عربيةٌ أكثر من اللازم ليلعب دور شخص فرنسي في الوقت نفسه»، ليكون هذا مثالاً على الأوضاع التي تطحن هوية المهاجرين العرب وتطالبهم بما هو أحياناً فوق الطبيعة والمعقول.

الممثل التونسي مجد مستورة أثناء أداء العرض
الممثل التونسي مجد مستورة أثناء أداء العرض

يتزامن العرض الأدائي الذي يبدأ مع الموسيقى والرقص، مع عبارات «مانفيستو» تظهر على شاشة جانبية، وفيها جملٌ واقتباسات متفرقة موضوعها الأساسي هو الاستشراق والهوية المتعددة، وهما المحور الأساسي للعرض الذي لا تتجاوز مدته نصف ساعة، والذي استطاع رغم ذلك جذب اهتمام الجمهور، وبشكل خاص أداء الممثل مستورة لمونولوجه بلغة مكثفة، وأسلوب يعبر عن الاضطراب الهوياتي الذي يعيشه الممثل في خضّم بحثه عن المعنى/ الهوية. 

النسخة الثانية: أحب هذا العنوان

في هذا العرض عوالم متداخلة يتناسل بعضها من الآخر، نحن الآن في عام 2045، وهي اللحظة الزمنية التي يأخذنا إليها المغربي يونس عتبان، الفنان ومصمم العرض الأدائي. والفرضية في العرض هي أن مخرجةً تصنع فيلماً وثائقياً في المستقبل عن عروض الأداء في المغرب في مرحلة زمنية سابقة، وأحد هذه العروض التي يتحدث عنها الفيلم هي أعمال عتبان نفسه.

من خلال هذه العلاقة المتخيلة بين المستقبل والحاضر، قدم عتبان مجموعة لوحات نقدية عن الفن المفاهيمي وعن فنون الأداء عموماً، وذلك باستخدام أغراض بسيطة حمّلها دلالات مركبة وأنتج منها معانٍ متعددة، مع توضيح يقدمه في بداية استخدامه لكل غرض، كأن يمسك بقماشة البيضاء ويقول متوجهاً للجمهور «هذا هو العمل الفني»، ثم يسكب عليها الماء ويقول «هذا هو السياق»؛ يمسح بعدها الماء المنسكب على الأرض بالقماشة البيضاء ثم يقول بشكل ساخر «هذا هو  الفن الجديد». هذا مثالٌ واحدٌ فقط من سلسلة من المعاني والحالات الراهنة التي اختار عتبان التعبير عنها بأغراض بسيطة، ونفَذَ من خلالها إلى الحديث عن علاقة الفنانين بالأشكال الفنية الجديدة، وانعكاس علاقتهم بأوروبا على الرؤية الفنية لأعمالهم.

يختتم عتبان عرضه بصناعة مجسم  يسميه أشباح الثقافة، يصنعه من الأغراض التي قدّمها وأسَّسَ لمعانيها خلال العرض، وهي طاولة وقطعة حجر وقماشة بيضاء وعلم الاتحاد الأوروبي وخوذة حربية. يبدو هذا المجسم الهجين مخيفاً وغير متوازن، ليكون بمثابة تجسيد نقدي لعلاقتنا مع الثقافة والأشكال الجديدة من التعبير والممارسات الفنية التبسيطية، التي تختزل الأبعاد الأعمق للعمل الفني التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار من أجل ألّا يكون العمل الفني استسهالاً هشاً وركيكاً. 

تحوَّلَ هذا العرض، المترافق مع شرح عتبان باللغة الإنكليزية للأغراض والخطوات، إلى دعوة للتفكير بالأشكال الجديدة للفنون، على نحو لا ينفصل عن الانتماء الجيوسياسي للفنانين، وأيضاً إلى دعوة للتفكير في كيف يمكن أن يخطو العمل النقدي خطوة أبعد من العمل ذاته، في سبيل تطويره، وهو السؤال الذي ينشغل به عتبان كما يشير التعريف بعرضه هذا  في بروشور المهرجان: «كيف يمكن أن يُعاد الفعل دون نسخه؟».

مهرجان الصيف هو واحد فقط من فعاليات عديدة يؤسس لها صندوق آفاق في برلين، وهي فعاليات تتعلق بشكل خاص بالوجود العربي في برلين، وتطرح في مناسبات مختلفة إشكاليات عديدة يواجهها الفنانون العرب في أوروبا، وهي ليست إشكاليات تندرج تحت الصعوبات اللوجستية والتواصل مع الوسط الفني الأوروبي فحسب، بل تتناول أيضاً علاقة الفنانين القادمين من العالم العربي مع الهوية، وكيفية تعبيرهم عن ذواتهم في أوروبا. لكن التحدي الأهم الذي تواجهه مختلف الفعاليات الثقافية، وفنون الأداء تحديداً، هو كيفية استقطاب جمهور أوسع وأكثر تنوعاً، ولا شك أن المواضيع المطروحة تلعب دوراً كبيراً في جذب اهتمام الجمهور المتنوع، لكن الأهم هو تفعيل البعد الاجتماعي لفنون الأداء، وتفعيل بعدها التحرري من المعايير الأكاديمية، وبدون هذا فإن هذه الفنون ستبقى محصورة بالمختصين، ما يفقدها وظيفتها الاجتماعية التي يُفترض أن تكون مهمتها الأبرز.