عندما أطلق مؤيدو النظام شعار «طائفتي سوري» عام 2011، بات الشعار ملاذاً يستتر به المؤيدون الطائفيون، الذين يبررون موقفهم بالخوف من أي تغيير يأتي عبر الآخر الذي يكن لهم الكراهية، كما يفترضون. كان هدف أصحاب الشعار، المقترن غرافيكياً بصورة بشار الأسد، إطلاق تهمة الطائفية سلفاً على كل من لا يؤيده، وإظهار الاحتجاجات السلمية كخطر يهدد التعايش الطائفي، أو اللُحمة الوطنية، التي يمثلها، بمفهومهم، رئيسٌ أقليٌّ متزوج من طائفة الأكثرية، حريصٌ على المحاصصة الطائفية فيما يتعلق بالوزارات والمناصب ومقاعد مجلس الشعب بين «الجميع»، إرضاءً لهم، وضماناً لعدالة توزيع التهم بالفساد وتدمير البلد بين الجميع.
بعد هذا الشعار وأشباهه، ازدادت الحساسية لدى هؤلاء من أي تصريح حول طوائف سوريا، فصارت مجرد تسمية الطوائف بأسمائها بالنسبة لكثيرين إعلاناً عن «طائفية» المتكلم، وأمراً يبرر للآخرين المؤيدين تخوينه والمزاودة عليه والشجار معه والتحقيق في خلفياته، أو الصمت المرتاب في أفضل الأحوال. وإذا أخذتهم العزة بالوطنية، يمكن أن يكتبوا تقريراً للأجهزة الأمنية حول الشخص الذي تجرأ وقال «سنّي» و«علوي» في زمن الـ «طائفتي سوري». يُستثنى من هذا الارتياب تلك الأحاديث الآتية في معرض تأكيد اللُحمة، من قبيل:«أنا علوي وصديقي سني وصديقي الثالث درزي والرابع مسيحي. ننسجم معاً بلا حدود ونحن نشرب المتة»؛ مثل هذا الحديث مطمئنٌ، فقط، إذا كان صادراً عن مؤيد، أو عن رمادي فخور بعدوانيته تجاه علائم التدين الإسلامي، السُنّي تحديداً.
قبل الحرب، كان مثل هذا الحديث بالنسبة للعلويين العاديين، غير المتنفذين، مثيراً لدعابة لا تخلو من حساسية، لكن الأمر كان أقل إثارة للشبهة في ظل نظام يمثل الغالبية الساحقة منهم، ويبدو حكمه مستمراً بهدوء ظاهري لا يستمد أسبابه إلا من «هدوء» الشعب. لذلك، كانت تمر شخصيات في الدراما لرجال أمن متحدثين بلهجة قرى الساحل دون أن يعترض أحد علناً، ربما لاقتصار الأمر على بعض المسلسلات الكوميدية التي كانت تتناول سوريي المنطقة الشرقية مثلاً بالقدر ذاته من السخرية، كما في المشهد الشهير من مسلسل بقعة ضوء للرجلين اللذين ركبا الطائرة المتوجهة إلى دير الزور معتقدين أنها كندا، فضلاً عن تصوير نماذج في مسلسلات للتاجر الحلبي «النسونجي»، والشرطي الإدلبي الذي يسيء معاملة زوجته، والنسوة الشاميات المؤمنات بالخرافة والدجل، وغير ذلك من النماذج التي تُظهر حالات موجودة واقعاً، بغض النظر عن انتمائها لمحافظةٍ ما، أو لريفٍ أو مدينة.
عموماً، يصعب تحديد ما إذا كان هذا التصوير تنميطاً أم لا، فبعض النكات أو الانطباعات المتداولة بين السوريين عن بعضهم بعضاً ربما وصلت جزئياً إلى التنميط، وجاء عدد من المسلسلات معززاً الأمر عبر استخدام هذه الأنماط كثيمات شائعة بين الجمهور، وبالتالي جذبه أكثر، وإقناعه بأنها، أي المسلسلات، تعبر عن واقع الحال.
كان تخصيص أبناء المحافظات السورية بطابعٍ ما محصوراً في معظمه بالمسلسلات الكوميدية، وربما كان هذا سبباً في عدم إثارة حساسيات جمعية واضحة، فالشعب تستهويه الدعابة عموماً، وللحماصنة تاريخ طويل من تقبّل النكات بحقهم، كما يسري نوع من «ديربي النكات» المتبادلة بين كل محافظتين متجاورتين، إلى درجة إطلاق أحكام جارحة في بعض الأحيان، لكن لم يكن الأمر في المجمل يتعدى رد الفعل المتوقع على أي دعابة دارجة، مع محاولة الطرف «المعتدى عليه» فكاهياً الظهور غالباً بمظهر الناضج الذي لا يأبه للنكتة، بل ويضحك من صاحبها متصنعاً اللامبالاة، أو لامبالياً فعلاً. أما مقاربة هذا التنميط في مسلسل غير ساخر فكانت تتم عبر ثنائية الخير والشر، فالتاجر الحلبي الانتهازي تقابله مجموعة من التجار الشرفاء، والشامي الأزعر يقف في مواجهة حارة كاملة تعترض على أفعاله، وهكذا، فلم يحدث بالتالي أن أثار مسلسل جاد حفيظة فئة ما، باستثناء المسلسل السبعيناتي «الجرح القديم» الذي خرج بعض أهل حوران محتجين ضده بعد أن صوّر إمرأة حورانية تستقبل رجلاً تحبه في دارها، فتم إيقاف العرض بمجرد الاحتجاج، وشكّل ذلك خطاً أحمر لم يقترب منه المؤلفون والمخرجون بعدها إلا في مسلسل ينطق بالشامية بوصفها لهجة «بيضاء» توحد السوريين دون تخصيص للدمشقيين.
أما العلويون، فكان التنميط بحقهم قبل الثورة يدور، بين الفكاهة ونقيضها، حول انتمائهم لطائفة الرئيس، بما يعنيه ذلك من سهولة حصولهم على الوظائف والمناصب الأمنية والعسكرية خصوصاً، وما يرافق هذا من ممارسات سلطوية استعراضية مزعجة ومهينة، إضافة إلى تاريخ من ممارسة القهر السياسي، عدا عن التهكم حول باطنيتهم الدينية، وإطلاق شائعات حول قيامهم بطقوس معينة، يحب المتطرفون من عدة طوائف إلصاقها بأبناء الطوائف الأخرى. ولكونهم من طائفة الرئيس، فقد كان التندر حولهم حذراً بالعموم، ومع ذلك كان العلويون يشعرون به متخذين موقفاً يتراوح بين الدفاع والهجوم المضاد وإنكار الامتياز، في انفعالٍ لا يتجاوز ردة الفعل اللحظية من قبل العلوي غير المتنفّذ، ويتجاوزه إلى التهديد وتنفيذ التهديد، من قبل العلوي صاحب النفوذ. لم يخلُ الأمر من استثناءات تمثلت في نقاشات صريحة منفتحة نسبياً مع أبناء الطوائف الأخرى، حيث أظهر علويون رغبة في عدم التمايز عن الآخر، لا لسبب إلا الرغبة في التخلص من شوكة الاستئثار بالسلطة التي تنخزهم في عدة مناسبات، كان آخرها وأشدها وقعاً، الثورة السورية.
لقد أخرجت الثورة الحديث الحذِر من إطار التندر، وساهم التجييش الإعلامي الرسمي في تأجيج حساسية المؤيد العلوي، فبات يقينه المفضل أن الحرب تستهدفه طائفياً، وغدت أي إشارة إلى ممارسة خاطئة من جانب طائفته بمثابة خيانة لـ«الوطن والشهداء»، وأصبحت كلمة «نظام» مدعاة لانتباه مضاعف لغايات وخلفيات المتكلم الذي يصر على استخدام مصطلحات «قنوات الفتنة»، وكلمة «ثورة» مسموحة فقط في سياق التهكم المقفى بكلمة «فورة». أما من يفكر بانتقاد المظاهر المسلحة وتجاوزات أصحابها من مقاتلي الجيش أو الدفاع الوطني في مدينة لا قتال فيها كطرطوس مثلاً، فهو غير واعٍ ولا متفهم للتغيرات النفسية التي تصيب الجندي في ساحة المعركة، والتي تجعله قابلاً للغضب واستخدام السلاح لدى أي استفزاز (صدر هذا التعليق في عام 2015 عن محافظ طرطوس صفوان أبو سعدى في معرض رده على شكاوى المواطنين بشأن إطلاق النار العشوائي في الشوارع)، كما اختفت تقريباً شخصية رجل الأمن العلوي من مسلسلات «الأزمة».
في العام 2017 ظهر على قناة سما برنامج اليوتيوبر السوري محمود الحمش، شو الكتالوك، والذي طالب علويون على صفحات التواصل الاجتماعي بوقفه منذ الحلقة الأولى، التي تضمنت سخرية طالت السعودية، وطالت أيضاً النموذج النمطي لمرافق إبن المسؤول السوري، والذي يملأ الشارع بضجيج سيارته ثم يتحدث باستخفاف إلى نادل المطعم ويطلب منه قرّوج بروسلي (فروج بروستد). أثارت هذه الكلمة حميّة حرف القاف المقحم في الكلمة، وذي المدلولات المتجذرة في الوعي السوري المعاصر، وأعرب الغاضبون عن «صدمتهم بقناة سما التي أبدعت سابقاً في كشف التزييف والتضليل بحق ما يجري في سوريا»، ووصل الأمر بالبعض إلى اتهام القناة بـ «اغتيال الشهداء» من جديد، فالأمر لهم ليس مجرد «قروج» بل هو نيلٌ من طائفة بكاملها تقدم نفسها على أنها دريئة لحِراب العالم والخاسر الوحيد.
ينسحب الأمر على التعاطي مع مسلسل دقيقة صمت، فإضافةً لما سببته تصريحات الكاتب سامر رضوان حول «احتقاره للنظام السوري»، ورغم إيضاحه أن مسلسله الناقد للفساد هو لكل السوريين، إلا أن حنق هذا الجمهور أتى خصوصاً من اختيار القرية مسرح الحدث، وزيّ شيخها الشبيه بما يرتديه شيوخ الطائفة، وعليه، استشعروا أن الطائفة برمتها متهمة بتصديق الخرافات وكرامات «الأولياء ذوي المعجزات». وبتصريحات رضوان، تبينت لهم المؤامرة كما يعرفونها، ليبدأ الجمهور حملة إنكار ووعيد تُشعر من يقرؤها بأنهم سيتحركون من فورهم إلى مقام «أبو طاقة» ويجعلونه أثراً بعد عين لإثبات أنهم ينبذون الخرافات، ولن يسمحوا بعد اليوم بأي مرور عبر «الطاقة» لتأكيد براءة أحدهم أو ذنبه.
وجاء خبر صحيفة تشرين الرسمية الأسبوع الماضي عن استجرار غير مشروع للكهرباء في طرطوس ليفجر مظلومية جديدة بعنوان عمّم تهمة السرقة على الطراطسة، يقول العنوان «الطراطسة سرقوا 1,416 مليون كيلو واط كهرباء في 6 أشهر». هنا، تنوعت الاعتراضات بين صحة الاستخدام اللغوي للجمع «طراطسة»، وبين صفة التعميم في العنوان، التي اعتذرت كاتبة الخبر عنها بالقول إن مخرجي الصفحة غيروا العنوان دون علمها.
لم يشفع اعتذار الجريدة في اليوم التالي، ولا اعتذار الصحفية نفسها أيضاً، ولا حتى كونها ابنة عم المقاتل في ميليشيا الدفاع الوطني حمزة عليان، الذي تحول إلى أيقونة وانتصار بروباغنديّ للعلويين، لأنه أُردي بالرصاص حال إفصاحه عن طائفته، فانبرت الصفحات والشخصيات العامة الطرطوسية تشتم الصحفية وتطالب بإقالتها، وتتساءل: «لماذا لا يلتفت الإعلام الى شؤون ذوي الشهداء وظروفهم الاقتصادية القاسية» أو «لماذا طرطوس بالذات»، علماً أن الجرائد الرسمية التي تم تقليص عدد صفحاتها تخفيضاً للنفقات حافلةٌ بأخبار «كشف الفساد» بوصفها الوسيلة المتبقية لكسب ثقة السوريين بإعلامهم وبادعاءات الشفافية ومكافحة المفسدين، وهي أخبار تشمل كل المحافظات التي لم تخرج مؤسساتها الحكومية عن الخدمة، فضلاً عن أخبار تمجيد الجيش وقضايا ذويه وما تقدمه لهم الدولة. لكن تبقى الكفة راجحة لمواقع التواصل الاجتماعي التي لجأ إليها المؤيدون كمتنفس بديل عن الإعلام الرسمي فاقد المصداقية. بالتالي، لم يعودوا يقرؤون ما تنشره لصالحهم هذه الصحف التي لا يطالعها إلا من يكتب فيها أو تُلمّعه صفحاتها، فبات لا يصل المؤيدين من هذه الصحف إلا الأخطاء التي تُنعش مظلوميتهم وتقتص لهم من «دواعش الداخل والخارج والإعلام»، على حد تعبيرهم.
الجدير بالملاحظة أن هذا الجمهور يتداول بشكل طبيعي أخبار الفساد الخاصة بالمحافظات الأخرى، والنكات التي تنمّط أبناءها، والمسلسلات التي تُظهر بعضهم بصورة الفاسد والجاهل والخائن والمغفل، لكنه لم يتحمل تعميماً في عنوان، ورآه فرصة للمزاودة بالتضحيات، وفرصة لاتهام سكان طرطوس من غير أبنائها بسرقة الكهرباء، داعياً إلى تحقيق فوري لمعرفة هوية اللصوص الحقيقيين، في مفارقة جديدة تستحضر صمت هؤلاء عن كل ما ارتكبه النظام منذ آذار 2011، ولا مبالاتهم بمعرفة الحقيقة أو محاكمة المسؤولين الفعليين عما حدث ويحدث.
عند الخوض عميقاً في حديث مع أحد الغاضبين بشأن المواقف آنفة الذكر، لا يبدو صعباً تتبّع منشأ حساسياته كعلوي، إذ يمكن انتزاع الاعتراف الضمني لديه بلا شرعية السلطة التي يحتمي بها، والتي طال أمد حُكمها لبلدٍ أكثر تنوعاً من أن يُحكم على هذا النحو. حتى أن بعضهم لا يجد حرجاً من الإسرار إلى رفاقه بالقول «تّقل على إمك وأبوك بيكرهوك»، لكن القول ينحصر في كونه ملاحظة متذاكية لا تخرج إلى حيز الموقف الأخلاقي الصريح الذي قد يكلف المرء حياته. إنها ملاحظة لتفسير الثورة التي حدثت، لا لتبريرها، بل إن صاحب الملاحظة سيمارس النقد الذاتي في اللحظة التالية، فيذكّر نفسه بالبعبع الوهابي البديل كافتراض حتمي الحدوث. أما القول الصالح علناً في الوقت العصيب فهو «طائفتي سوري»، العبارة التي يشهرها بوجه الآخرين مهدئاً بها حساسياته المزمنة من أفكارهم ومواقفهم منه.
ومع تتالي الخسارات البشرية بين العلويين وغيرهم في جيش النظام وأجهزة أمنه، بلغ الانتصار لتلك الحساسيات ذروته، ففي مواجهة الاتهام بالاستئثار بالسلطة، يردون بإحصاء عدد قتلى الجيش من غير العلويين، مع التذكير باحتفاظهم بحصة الأسد من التضحيات؛ وفي مواجهة اتهام جنودهم ومرتزقتهم بقتل الأبرياء من الجانب الآخر، يركزون على المدنيين في جانبهم ممن قضوا في عدة حوادث، ويوثقون ذلك في صفحة تحمل عنوان «قتلتني الثورة السورية»؛ وفي مواجهة اتهام جنودهم بالسرقة والتعفيش، يذكرون ببؤس الوضع المادي لغالبية قتلاهم وعدم ظهور آثار النعمة تلك، ويشنون هجوماً في المقابل على السوريين اللاجئين «المتنعمين بخيرات أوروبا بعد أن باعوا وطنهم»؛ وأخيراً، ورداً على اتهام بعضهم بسرقة الكهرباء، يرتدون أثواب الشهداء المقتولين بيد إعلام عوّدهم على الإنكار والاستنكار.
القضية تستحضر أيضاً مفارقة أخرى طريفة، فعند كتابة ضبط بحق مواطن لاذقاني لسرقته الكهرباء من جيرانه، اعترض الرجل بشدة على كلمة سرقة، فتم تغييرها إلى «استجرار غير مشروع»، وبدا الرجل راضياً لاستخدام عبارة ألطف تعبر عن فهلوة وذكاء المواطن الحسّاس.