يصح أن نقول إنَّ هناك لاجئين سوريين في أوروبا، وفي تركيا بدرجة أقل، خرجوا من سوريا لأنهم يبحثون عن حياة أفضل، ولا يريدون العودة إلى بلاد مدمرة تضيق سبل العيش فيها إلى حد تحطيم كل أمل ورجاء. هذا حقٌ لهم، لا ينكره إلا العنصريون الذين لا يؤمنون بحقوق متساوية لكل البشر، لكن هناك لاجئين آخرين، أزعمُ أنهم الأغلبية، لا يريدون العودة لأنهم لا يريدون الموت، لأنهم يريدون البقاء على قيد الحياة فقط.

الموت احتمالٌ ماثلٌ دائماً في سوريا، سواء في منطقة تشهد عمليات حربية أم لا، إذ يكفي أن يكون المرء معارضاً لأي من سياسات أو أفعال نظام الأسد، أو أن يكون واحداً من أبناء منطقة ثارت على هذا النظام، أو أن يكون في سن التجنيد الإلزامي، كي يشعر بشبح الموت في كل مكان حوله. تشهد على ذلك غارات النظام وروسيا على الأسواق والأفران والمستشفيات في الشمال السوري، ويشهد على ذلك القتل تحت التعذيب في السجون، وسوق الشبّان إلى الموت على جبهات القتال. لكننا لسنا بحاجة إلى هذه الشواهد التي ينكرها النظام وحلفاؤه، ومعهم اليمينيون والعنصريون في كل مكان من الأرض، بل تكفي نظرة على أوضاع اللاجئين في دول الجوار السوري كي تكون دليلاً على هذا.

هل نعرف كيف يعيش اللاجئون في دول الجوار السوري، هل يمكن أن نتخيل ظروف العمل والعيش الجحيمية في لبنان. مئات آلاف السوريين يعيشون بلا رعاية صحية ولا ضمان من أي نوع، محرومون من حق العمل، ومن التنقل ليلاً في مناطق كثيرة، يسكنون خياماً يدفعون أُجرتها من عمل أشبه بالعبودية، بساعات طويلة وأجور زهيدة تقل بكثير عن الحد الأدنى للأجور في لبنان لأن أغلبهم يعملون دون تصاريح عمل. وحتى تصاريح العمل تلك، فإنها محصورة في مهن الزراعة والبناء، ويكلف استخراجها مبالغ كبيرة تشكل نسبة معتبرة من الدخل الذي سيجنيه اللاجئ السوري من عمله. وفوق هذا يتعرض اللاجئون لحملات عنصرية متكررة، شملت إحراق خيامهم والاعتداء عليهم عدة مرات.

مع ذلك، يرفض أغلب هؤلاء العودة إلى سوريا، ويخرج متحدثون وسياسيون لبنانيون يستاءلون بذهول مصطنع؛ لماذا يرفضون؟ جواب هذا السؤال واضحٌ طبعاً، واضحٌ لمن يسألونه قبل غيرهم، لأن شيئاً واحداً يمكن أن يكون أسوأ من العيش في ظروف كهذه، هو الموت. تكفي ظروف عيش السوريين في لبنان لاكتشاف أن احتمال الموت ينتظر هؤلاء اللاجئين خلف الحدود، لأنهم يعيشون بالحد الأدنى في بلد ينقطع فيه كل رجاء وأمل بحياة أفضل، في بلد يأكل أعمارهم وأجسادهم دون أي مقابل سوى البقاء على قيد الحياة. لا مكاسب يجنيها اللاجئ السوري من العيش في لبنان إلا الاحتفاظ بحياته نفسها؛ هل يمكن أن نتخيل سبباً آخر، غير الخوف من الموت، يجعل شخصاً يستمر في العمل 12 ساعة يومياً، ثم يعود لينام مع أطفاله في خيمة، وتزوره في منامه كوابيس عن مرض قد يلم به فيجعلهم جميعاً يتضورون جوعاً.

قد تكون الأوضاع أفضل بقليل في الأردن، لكن انقطاع الأمل والرجاء بحياة أفضل هو نفسه، إذ لا شيء يفعله أغلب اللاجئين السوريين في الأردن سوى البقاء على القيد الحياة. أما في تركيا فقد كان الحال أفضل بقليل سابقاً، ظروف التعليم والعمل كانت أفضل، لكنها راحت تضيق تدريجياً حتى بات أغلب السوريين فيها يشعرون أن حياتهم ليست إلا انتظاراً لشيء لا يعرفونه، فأغلبهم لا يعملون بشكل قانوني، ما يعني أنه لا ضمان صحياً ولا تأمينات ولا معاشات تقاعدية. واليوم مع الإجراءات الجديدة، يقترب الأمر في تركيا بالنسبة لكثيرين من أن يصبح مماثلاً للبنان والأردن، وفوقها تبرير إجراءات الترحيل بارتكاب اللاجئين مخالفات قانونية من قبيل عدم استخراج وثيقة حماية مؤقتة أو العمل بلا إذن قانوني، تبريرٌ تطوع حتى بعض السوريين لتقديمه، وكأن مخالفة بيروقراطية يمكن أن تكون مبرراً كافياً لإجبار المرء على العودة قسراً للعيش مع احتمال المذبحة.

ليس النظام السوري إلا مذبحة متحققة أو احتمال مذبحة ماثلٍ أمام الأعين في كل لحظة، هذا ما تقوله سيرة سنوات الثورة الطويلة، وسيرة النظام خلال سنوات حكمه المديدة التي تقترب من نصف قرن، وسيرة الأيام الراهنة أيضاً، أعني سيرة الأسابيع القليلة الماضية في كفرزيتا واللطامنة ومورك وخان شيخون وكفرنبل ومعرة النعمان وكفروما ومعرة حرمة وجسر الشغور وأريحا وسراقب، وإلى آخر قائمة المدن والبلدات والقرى الذبيحة في ريفي إدلب وحماة، التي تقوم طائرات النظام والطائرات الروسية بقصفها كما لو أنها تريد مسحها عن ظهر الأرض، والتي يواصل أهلها تقديم القرابين العزيزة على مذبح الخلاص من نظام المذبحة.

والحال هذه، فإن المطالبات المتصاعدة بإعادة اللاجئين قسراً إلى سوريا لا تعني شيئاً إلا أن أصحابها يريدوننا أن نعتاد على العيش مع المذبحة، أن نقبلها بوصفها كارثة طبيعية أو قدراً ربانياً لا رادّ له؛ لكن المذبحة ليست كذلك، ولن ينفع شيءٌ في الدنيا في جعلها كذلك. وللمذبحة في سوريا عنوانٌ معروفٌ هو نظام الأسد، ليس هو عنوانها الوحيد طبعاً، بعد أن فتحت مذابحه شهية كثيرين في سوريا وخارجها، لكنه عنوانها الرئيسي وفاعلها الأبرز، وليس تحطيمه شرطاً كافياً لنفيها، لكنه شرطٌ لازمٌ دون شك، بدون تحقيقه سيبقى باب الأمل والرجاء مغلقاً في بلادنا المدمرة.