يتم تفعيل آلية التحييد الإنسانية «Humanitarian Deconfliction» خلال الحروب والنزاعات عبر الأمم المتحدة، ووظيفة هذه الآلية الأساسية هي منع استهداف المنشآت المدنية الحيوية مثل المشافي والمدارس ومحطات المياه، عبر تحديد مواقع هذه المنشآت من قبل الجهات المشغلّة لها ومشاركتها مع مكاتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، التي تشاركها بدورها مع أطراف الصراعات لتجنب قصف أو استهداف تلك المنشآت.

وتُستخدم هذه الآلية في عدة مناطق من العالم، مثل أفغانستان واليمن والصومال. في اليمن مثلاً، هناك أكثر من خمسة وعشرين ألف منشأة مشتركة في هذه الآلية، وقالت مصادر مطلعة للجمهورية إن فعّالية هذه الآلية هناك هي التي شجّعت على توسعة قاعدة البيانات فيها إلى هذا الحد.

تُطبّق هذه الآلية في سوريا منذ العام 2014، وتم تحديثها بداية العام 2018، إلا أن الحكاية هنا مختلفة تماماً، ذلك أن استهداف العاملين في المجال الإنساني والطبي كان ولا يزال أحد الاستراتيجيات الرئيسية للنظام السوري، ولذلك تواجه آلية التحييد الإنساني تحدياً كبيراً يجعلها غير قادرة حتى اللحظة على تقديم أي فائدة للعاملين في المجالات الإنسانية والطبية في مناطق مثل إدلب، التي تتعرض المنشآت المدنية فيها للاستهداف بشكل مباشر وممنهج، ما جعل عدد المنشآت المشتركة في هذه الآلية في عموم سوريا لا يتجاوز الألف.

وتقوم آلية التحييد الإنساني على مشاركة المنظمات المدنية العاملة على الأرض بيانات المنشآت التابعة لها، بما يشمل موقعها والغرض منها وكافة التفاصيل المتعلقة بها، مع مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة «OCHA – أوتشا»، الذي يقوم بدوره بمشاركة هذه المعلومات مع كل الأطراف التي تمتلك قوات عسكرية في سوريا مثل روسيا والولايات المتحدة ونظام بشار الأسد. فإذا ما أرادت منظمة طبية مثلاً إشراك مستشفى تتبع لها في إدلب في هذه الآلية، فإنها تقوم بمشاركة هذه المعلومات مع مكتب الأوتشا التابع للأمم المتحدة في مدينة غازي عنتاب، الذي يشرف على العمل في الشمال السوري، ويقوم هذا المكتب بإرسال تلك المعلومات إلى مكتب الأوتشا في دمشق، الذي يقوم بدوره بمشاركة المعلومات مع الجانب الروسي حتى يتم تجنيب تلك المستشفى أعمال القصف.

هذا من الناحية النظرية، إلا أن الوقائع على الأرض تختلف كثيراً عمّا يمكن توقعه من هذه الآلية التي قدمت خدمات مهمة في عدة مناطق من العالم، إذ لم تخفّف آلية التحييد تلك من نسبة الاستهدافات، حتى بالنسبة للمنشآت التي شاركت مواقعها مع مكتب الأوتشا. وقد ازدادت مخاوف العاملين في القطاع الإنساني والطبي بعد ارتفاع وتيرة المعارك والقصف في إدلب منذ أواخر شهر نيسان الماضي، إذ طال القصف بشكل ممنهج المشافي والمنشآت المدنية في المحافظة والأرياف المحيطة بها. وإذا كان صحيحاً القول إن روسيا تعرف إحداثيات هذه المنشآت سلفاً على الأغلب، باعتبار أن معظمها منشآت عامة معروفة المواقع، إلا أن كثيراً من الناشطين والعاملين في الحقل الإنساني يعبرون عن مخاوفهم من أن هذه الآلية ربما تساعد روسيا في معرفة الأهداف بدقة أكبر.

الدكتور محمد كتوب، مدير قسم المناصرة في الجمعية الطبية السورية الأميركية (سامز)، قال للجمهورية: «هناك مخاوف لدى الكوادر الطبية في إدلب حول أن هذه الآلية لم تفشل في حمايتهم من القصف فحسب، بل إنها قد تكون سبباً باكتشاف النظام والروس لمواقع مراكز طبية لم يكونوا على علم بها. على سبيل المثال، لدينا مستوصف الزربة بريف حلب الجنوبي، الذي يقدم خدماته لبلدة صغيرة هناك؛ كنا قد بدأنا العمل به عام 2017، وشاركنا موقعه من خلال آلية التحييد الإنساني في شهر أيلول/سبتمبر عام 2018، ثم تمّ استهدافه في شهر أيار الماضي خلال الحملة للمرة الأولى منذ إنشائه، رغم أنه بعيدٌ عن خطوط القتال، وبعيدٌ حتى عن مواقع تركز قصف النظام في ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي، وهكذا فإنه لا يمكن تصوّر أن استهدافه قد تم بالخطأ في مثل تلك المنطقة. هذا الاستهداف المباشر الذي تعرض له المستوصف هو مثالٌ على ما يمكن أن يكون استخدامَ الروس والنظام الفعلي لتلك المعلومات التي تتم مشاركتها معهم».

ولا تملك المنظمات والعاملون في المجال الإنساني كثيراً من الخيارات في الواقع، فهم معرضون للاستهداف المباشر بشكل مستمر، كما حصل عند استهداف طيران الروسي لسيارة إسعاف كانت تخلي المصابين قرب مدينة معرة النعمان في العشرين من حزيران/يونيو الماضي، مما أدى إلى استشهاد ثلاثة من المسعفين والجريحة التي كانوا ينقلونها من بلدة حيش.

لذلك فإن الأطباء والعاملين في المجال الإنساني بحاجة فعلاً إلى آلية تُحيّدهم على الأقل من الضربات التي تؤدي في النهاية إلى تعطيل عمل منشآت حيوية للغاية بالنسبة للسكان، مثل مستشفى معرة النعمان الذي كان يقدم خدماته للآلاف يومياً قبل استهدافه وتعليق العمل فيه، أو مثل محطة المياه في المعرة أيضاً والتي توقفت تماماً عن العمل، ما أدى إلى قطع المياه الصالحة للشرب عن السكان في المنطقة.

وعلى الرغم من وجود أدلّة تثبت جميع حالات القصف هذه، وغيرها، سواءً بالنسبة للمنشآت المشاركة في آلية التحييد الإنساني أو غير المشاركة، فإن المتابعة الأممية لهذا الملف لم تكن حتى اللحظة على مستوى الحدث، إذ ستؤدي عمليات القصف المباشرة تلك إلى كارثة كبيرة، لأنه بغياب المستشفيات مثلاً، فإن السوريين الذين يعانون من القصف اليومي، والحياة في العراء بالنسبة للنازحين الذين تجاوز عددهم اليوم نصف مليون نسمة، سيكونون من دون خدمات طبية في وقت هم أكثر احتياجاً لها.

يتابع الدكتور كتوب في حديثه للجمهورية: «نحن لا نريد إلغاء هذه الآلية، في الحقيقة نحن نريد تقويتها، أن يكون هناك ضغط أممي أكبر على الروس والنظام لوقف عمليات القصف تلك، لكن إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، نعم، سيعني هذا وفاة هذه الآلية وعدم الحاجة إليها لأنها لا تساهم في حماية المنشآت المدنية والإنسانية».

ضمن الإيجاز الذي قدمه أمام مجلس الأمن نهاية شهر حزيران/يونيو الماضي، أعرب مدير عام مكتب الأوتشا مارك لوكو عن تشكّكه في نجاح آلية التحييد الإنساني في سوريا، نتيجة عدم التزام «أطراف النزاع» وفق تعبيره. وفي الحقيقة، إن تشكّك السيد لوكوك في محله، إلا أنه بقي دون مستوى الكارثة، إذ لا يبدو أن تصريحاته تلك ستساهم في تسريع عمليات التحقيق التي تجريها لجان ووكالات أخرى تابعة للأمم المتحدة، أو ستساهم في فرض مزيد من الضغوط على موسكو التي تبدو مرتاحةً للغاية وهي توجه طائراتها لقصف المستشفيات والمدارس.

لا ترتبط آلية التحييد الإنساني هذه بأي عملية قانونية لاحقة، وبحسب ما قالت مصادر خاصة للجمهورية، فإن أكثر ما يمكن لمكتب الأوتشا فعله هو إرسال تقارير بحوادث القصف على المنشآت المشتركة بالآلية إلى مكتب المبعوث الدولي، الذي قد يوجه أسئلة للروس حول عمليات القصف تلك، وقد لا يفعل. وفي الوقت نفسه، فإن الإطار القانوني لهذه الآلية لا يسمح لمكتب الأوتشا بمشاركة تقارير القصف تلك مع أي من لجان التحقيق الأممية المختصة بسوريا، مثل لجنة التحقيق الدولية المحايدة المستقلة (IIIM) أو لجنة التحقيق المنبثقة عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان (COI)، ما يعني أن هذه الأدلة والمعلومات التي تثبت ارتكاب كل من الجيش الروسي وقوات النظام جرائم حرب مكتملة الأركان، لن تجد طريقها إلى أي مكان آخر سوى أدراج مكتب المبعوث الدولي.

في الوقت الذي يتابع النظام والروس قصف المستشفيات والمدنيين في إدلب وتهجيرهم، فإن وكالات الأمم المتحدة أصبحت عاجزة حتى عن إصدار بيانات تسمّي فيها مرتكبي تلك الجرائم، على الرغم من وجود كامل الأدلة، ما يجعل آلية التحييد الإنساني في سوريا مجرد حبر على ورق، فهي إذا لم تنفع، ربما تكون قد زادت من الضرر الواقع على المدنيين، لأنه بدون الضغط الدولي والأممي بهدف رفع الكلفة السياسية لقصف الروس على المنشآت الإنسانية والمدنيين، لن تقدم مشاركة المعلومات لوحدها أي نتائج.