على الرغم من أن حزمة العقوبات الأميركية الحالية على إيران، التي فرضتها إدارة ترامب على مراحل منذ تراجعها عن الاتفاق النووي، هي الأقسى والأكثر مساساً بقطاعات اقتصادية إيرانية حيوية، إلا أنّ أسلوب العقوبات الاقتصادية الذي تستخدمه واشنطن اليوم ضدّ طهران ليس جديداً في العلاقة بين الطرفين، بل إنه يعود إلى المرحلة الأولى التي أعقبت قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، ثم تطوّر منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، بعد خروج إيران من مستنقع الحرب مع العراق وتنامي قدراتها ومشاريعها وطموحاتها.

وشهد العام 1995 أوامر تنفيذية صدرت عن الرئيس الأميركي بيل كلينتون، تحظر على الشركات الأميركية الاستثمار في الغاز والنفط الإيرانيين. كما أقرّ الكونغرس عام 1996 قانون العقوبات على إيران وليبيا، ثمّ تبع ذلك جملة من العقوبات المتلاحقة أقرّها وصادق عليها كلّ من البيت الأبيض والكونغرس، شملت في العام 2008 قطاع المصارف، واستهدفت في العام 2010 إمدادات الوقود الإيراني. غير أن وتيرة هذه العقوبات تزايدت خلال فترة حكم باراك أوباما، وساهمت، إلى حدٍّ بعيد، في إجبار إيران على أن تكون أكثر مرونةً تجاه المطالب الدولية المتعلّقة بالبرنامج النووي، في مقابل مرونة أميركية ومساعٍ أوروبية داعمة لمسار المفاوضات، لينتج عن هذا توقيع الاتفاق النووي الشهير بين إيران ودول 5+1 في العام 2015.

إزاء هذه العقوبات المُتكرّرة، والتي أدّت إلى تعطّل العلاقات المالية والتجارية لطهران بحكم النفوذ الاقتصادي الأميركي الكبير، وسيطرة واشنطن على الاقتصاد العالمي، وقدرتها على تقديم مُحفّزات أو توجيه تهديدات للدول كي تلتزم بالعقوبات، كانت إيران دوماً مُضطرّةً لتكييف اقتصادها والحفاظ على استقراره في مواجهة العقوبات وتبعاتها، لا سيّما الهزات الكبيرة التي تطال العملة الإيرانية والقدرة على التصدير والاستيراد والحصول على القطع الأجنبي وإجراء التحويلات المصرفية وشراء المواد الأولية، ومن هذا المنطلق اتّجهت أنظار طهران إلى أسواق كبرى تحتاج كميات كبيرة من النفط أو السلع الإيرانية الأخرى من ناحية، وقادرة على التعامل مع العقوبات الأميركية أو غير مُكترثة بها، كالصين وروسيا والهند، من ناحيةً ثانية، مقابل أن توفّر طهران لهذه الدول مزايا تنافسية على صعيد الأسعار وتسهيلات النقل والتأمين وآجال وطُرُق الدفع.

في الوقت نفسه كانت إيران تُصدّر منتجاتها إلى دول جوارها وحلفائها الإقليميين، وهذا النوع من الصادرات لا يمكن أن تضبطه الجهة المُعاقِبة، كما لا يمكن أن توقفه، فهو لا يمرّ في مياه دولية أو في مناطق خاضعة لغير سيطرة الدولتين المُستوردة والمُصدّرة، وكانت كُبرى هذه الأسواق بالنسبة لطهران هي العراق وكردستان العراق وأفغانستان وباكستان وتركيا والإمارات، كما باتت قطر مؤخراً مستورداً بارزاً للسلع والخدمات الإيرانية، خاصة بعد حصارها من دول جوارها في الخليج العربي.

خلال فترات العقوبات المتتابعة، كانت الولايات المُتحدة على علم بجميع ما سبق من تعاملات إيرانية، غير أنّها لم تكن تريد تضييق الخناق على إيران إلى مرحلةٍ يصعب معها تقدير ردود الفعل الانتقامية الإيرانية، لكنّ الحال تغيّر مع حِزَم العقوبات الجديدة التي فرضها ترامب، والتي باتت أكثر تشدّداً من أيّ وقتٍ مضى، بهدف جرّ طهران مجدداً إلى طاولة المفاوضات بالشروط الأميركية، ما سيدفع إيران بالضرورة للسعي إلى إنتاج أدوات أكثر نجاعةً ومرونة وسريّة للالتفاف على العقوبات.

المصارف وتحويل الأموال

تتجه إيران في تعاملاتها المصرفية إلى دول آسيوية مثل تايوان منذ العقوبات الأميركية التي طالت البنوك الأوروبية المتعاملة مع البنوك الإيرانية، والتي أدّت لفرض غرامات على هذه البنوك وصلت قيمتها إلى 16 مليار دولار، لكن يبدو أنّ الأمر لم يعد سهلاً كما كان، فاتجهت طهران اليوم نحو توظيف شركات الواجهة من أجل إنجاز هذه العمليات، حيث كشف بيان لوزارة الخزانة الأميركية في آذار/مارس الماضي أنّ طهران تحايلت على العقوبات المالية التي قيّدت من قدرتها على الحصول على الدولار عن طريق شركات واجهة في دول عدة؛ منها تركيا والعراق، إذ كانت هذه الشركات تشتري الدولار لإيران وتنقله على شكل مبالغ نقدية يحملها أفراد عن طريق المطارات، في رحلات الدرجة الأولى أو رجال الأعمال أو عبر الحدود البرية.

هذه الشركات التي تعمل لحساب إيران كثيرة، وتنتشر في دول عديدة، تقوم بتأمين القطع الأجنبي وتنقله إلى إيران عن طريق شبكات معقدة من الصعب تعقبها، وبعض هذه الشركات يتم إنشاؤها لغرض مُحدّد ولفترة زمنية قصيرة، ثمّ يتم حلّها ما أن تنتهي من تنفيذ الهدف الذي أُسّست لأجله.

ولحل مشكلة نقل الأموال الناتجة عن تصدير النفط بطرق غير نظامية، فإنّ إيران تسعى مؤخراً لتصديره إلى دول حليفة لها أو إلى عملائها المعتادين بهدف التخزين، على أن تبيعه وتتقاضى أثمانه في مرحلة لاحقة تجد فيها طرقاً آمنة لتهريب ونقل الأموال من خلال آليات تحويل سريّة، أو بانتظار أن تُخفَّف العقوبات الأميركية أو يجري التوقيع على اتفاق جديد.

النفط

واحدة من الآليات الإيرانية المتبعة اليوم هي طرح النفط الخام في البورصة الداخلية، وبيعه لشركات محلية غير مشمولة بالعقوبات أو غير معروفة، لتتمكن هذه الشركات من تصديره إلى دول هي أساساً متواطئة مع إيران في قضية العقوبات. كما تشير معلومات إلى أنّ إيران تنقل نفطها إلى العراق ليُصار إلى خلطه مع نفط عراقي والحصول على مزيج مُختلف عن النفط الإيراني ثم تصديره على أنّه نفط عراقي، كما أن طهران افتتحت في شهر أيار/مايو الماضي مكتباً لشركة النفط الإيرانية في العراق.

لا شكّ أن السيطرة الإيرانية على مفاصل الدولة العراقية تبقى هي النافذة الإيرانية الأبرز للتحايل على العقوبات وتأمين القطع الأجنبي، وعلى سبيل المثال، فإن حاملة النفط التي أُوقفت في جبل طارق مؤخراً، ورغم أنّها إيرانية وكان من المفترض أن تصل إلى مصفاة بانياس النفطية في سوريا، إلا أنها تحمل أوراقاً تدل على أنها قادمة من العراق. كما تربط بعض التقارير قضية العملة المزورة من الدينار العراقي، التي انتشرت في الأسواق العراقية، بالاستراتيجية الإيرانية للحصول على القطع الأجنبي، إذ يؤدّي ذلك إلى تراجع الثقة بالدينار، ما يضطر البنك المركزي العراقي إلى ضخ كميات مضاعفة من الدولار لتعزيز مكانة الدينار، ليتم شراء هذه الكميات عن طريق شركات واجهة وتهريبها براً إلى إيران، وتتهم بعض الأطراف جهات في الحكومة العراقية بتسهيل حدوث ذلك.

ولأنّ تكلفة استخراج النفط في إيران ليست مرتفعة، فإن طهران لا تتردد بالإنفاق على نقله برّاً وتهريبه عبر الجبال الوعرة والحدود البرية مع باكستان وأفغانستان، أو عبر نقله إلى كردستان العراق ومن ثمّ إلى ميناء جيهان التركي لتصديره. وتدفع إلى تعزيز هذا الخيار التوترات الأميركية التركية المرتبطة بصفقة شراء منظومة إس 400 الروسية، ومجمل التقارب التركي الإيراني الحالي، لا سيما إذا ما نظرنا إلى المكاسب التي سيحصل عليها الجانب التركي من ذلك.

وعلى الرغم من أنّه قد سبق للأوروبيين في أيلول/سبتمبر 2018 اتخاذ قرار بمقايضة النفط الإيراني بسلع أو خدمات تقدمها مؤسسات أوروبية، شريطة ألا تحصل إيران على أموال نتيجة ذلك، وإنما على سلع وخدمات من خلال آلية دفع خاصة هي «إنستكس»، التي دخلت حيز العمل بداية العام الحالي، إلا أنّ هذه الآلية لا تلبي طموحات إيران وتقتصر على السلع الغذائية والإنسانية، ومن غير الممكن التعويل على ضمانات أوروبية للاستمرار فيها، لأنّه لم يكن من الممكن تقديمها أصلاً لولا الضوء الأخضر الأميركي. كما أنّ حادثة حاملة النفط التي أوقفت في جبل طارق تبيّن أنّ واشنطن قد انتقلت إلى مرحلة متقدمة من التشديد على طهران رغم قبولها بآلية إنستكس، تجلّت في القدرة على تنفيذ عقوبات أميركية في مناطق الاتحاد الأوروبي، وذلك بصرف النظر عن الجدل الحاصل حول إذا ما كان سبب توقيف الشحنة عائداً إلى العقوبات على النظام السوري أم الإيراني.

أمّا دأبُ «سفن الشبح» الإيرانية على سلك مسارات غير معتادة في التجارة عبر البحار، وكذلك تعطيل تردّدات الأقمار الصناعية قبل تحرّكها لتخفي نفسها خلال عمليات تهريب النفط، فليس بالإمكان التعويل عليه كثيراً، بسبب وجود أقمار صناعية عالية الدقة بإمكانها مراقبة هذه السفن وتتبعها.

الاقتصاد «المُقاوم»

تركز إيران اليوم على قطاعات لم تكن تشكّل جزءاً كبيراً من عائداتها في السابق، وذلك في إطار تنفيذها لخطة المرشد الأعلى علي خامنئي التي وصفها بالاقتصاد المُقاوم، والتي تعتمد على التقشف من جهة، وتعزيز حضور السلع والمنتجات غير النفطية من جهةٍ أُخرى، وفي إطار ذلك تقوم إيران بنقل المواد الغذائية والزراعية إلى أفغانستان ومن ثمّ تصديرها على أنها منتجات أفغانية.

ليس من اليسير على إيران التعامل مع وضعها الاقتصادي الحالي، لكنّ ذلك ليس مستحيلاً إذا ما تمكّنت من الاستمرار في تأمين ما يحتاجه الشعب الإيراني من مقوّمات عيش أساسية، وتعبئته في وجه العقوبات بوصفها تهديداً للشعب نفسه وليس للنظام الحاكم، ومواصلة الإنفاق بالحد الأدنى على ميليشياتها وأذرعها الفاعلة في عدد من دول المنطقة. وبحسب تعبير وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، فإن النظام الحاكم في طهران بات يحمل شهادة «الدكتوراه في العبور إلى ما وراء العقوبات الأميركية»، ومما لا شكّ فيه أنّ العقوبات الحالية على الاقتصاد الإيراني ستعزّز الحاجة إلى التهريب والاتّجار بطرق غير مشروعة، وبالتالي فإنها ستعزز دور الكيان الأقدر على فعل ذلك، وهو الحرس الثوري والمؤسسات المرتبطة به.

ويبقى أنّ السيناريو الأسوأ للعقوبات التي تواجهها إيران حالياً هو العودة إلى ما قبل العام 2015، عندما كان هناك عقوبات أممية مفروضة عليها إلى جانب العقوبات الأميركية، وتم تجميدها بعد مصادقة مجلس الأمن على الاتفاق النووي. ويمكن أن تتم إعادة تفعيل تلك العقوبات إذا ما عزمت طهران على المضي في تنفيذ تهديداتها برفع معدلات تخصيب اليورانيوم، وتمت إحالة المسألة مجدداً إلى مجلس الأمن بطلب من الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو اللجنة المشتركة للاتفاق النووي أو أحد الدول المُشاركة فيه.

في هذه الحالة ستكون عودة العقوبات الأممية تلقائية، لأنّ نصّ الاتفاق النووي والقرار رقم 2231 الذي كرّس هذا الاتفاق ينصّان على أن مجلس الأمن يجب أن يصوّت على «الإبقاء على رفع العقوبات» في حال الدعوة إلى إعادة التصويت، أي أنّه لن يكون بمقدور حلفاء إيران في مجلس الأمن؛ روسيا والصين، منع إعادة فرض العقوبات الأممية، وسيكون الفيتو الأميركي كافياً لإعادة تفعيلها مجدداً.