القلق والخيبة وتضاؤل مساحات الأمل في سير الأمور إلى وجهة أفضل: هذا ما يشعر به معظم اللاجئين السوريين في دول الجوار السوري، التي تزيد الضغوط عليهم وسط الخيارات القليلة التي يمتلكونها في التحرك في هذا العالم الذي يبدو أضيق شيئاً في شيئاً؛ الأبواب مغلقة، والتشريعات تزداد قسوة، وأوراق السوري تكاد تلتهم الأرض التي يقف عليها.

أنباء الأيام القليلة الماضية كانت غير سارّة للسوريين المقيمين في تركيا، خاصة أولئك الذين لا يحملون بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك)، ذلك بالإضافة إلى القيود الجديدة التي أعلنت عنها السلطات التركية، الراغبة في التعامل بصرامة لتقنين وضع السوريين عموماً، في ميادين العمل والإقامات والدراسة والخدمات الطبية. وكان موقع الجمهورية قد فصّل في مقال سابق خريطة الوضع القانوني للسوريين في تركيا، وأنواع الإقامات التي يمكن بموجبها البقاء في تركيا، إضافة للعقبات التي تواجه كل فئة، غير أن التوجه الرسمي التركي الجديد سيرسم واقعاً آخرَ لتواجد السوريين، الذين يدركون في كل يوم حقيقة ارتهانهم لتغير القوانين والمزاج العام، وغياب الصيغة القانونية الواضحة والدائمة الضامنة لحقوقهم كلاجئين. 

وقد أفاد مركز الغوطة الإعلامي بأن السلطات التركية رحّلت عن أراضيها 26 مواطناً سورياً، جلّهم من مهجري دمشق وريفها، ونقلتهم إلى عفرين، وذلك بعد توقيفهم في منطقة إسنيورت في اسطنبول وتعرضهم للتعنيف والضرب من قبل الشرطة، ثم نقلهم إلى السجن الذي ضمّ 150 سورياً، تم نقل معظمهم إلى الولايات التي أخرجوا منها الكيملك.

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعلن قبل أيام أن الخدمات الطبية لن تُقدم مجاناً بعد الآن للسوريين، وسيتعين عليهم دفع مبالغ مالية لدى مراجعة المشافي والحصول على الأدوية. مضيفاً أن الدولة التركية ستعمل على سياسية «تشجيع السوريين على العودة إلى بلادهم»، فضلاً عن «ترحيل مرتكبي الجرائم»، دون تحديد نوع الجرائم التي يمكن بموجبها ترحيل السوري، ما قد يُنذر ببقاء الباب مفتوحاً أمام اجتهادات السلطات التنفيذية.

وتلا تصريحات أردوغان تلك اجتماعٌ لوزير الداخلية التركية سليمان صويلو مع نشطاء وإعلاميين سوريين في اسطنبول، كشف فيها عن حزمة قرارات أوسع بحق السوريين في تركيا، تشمل حاملي الإقامات السياحية وقطاعات العمل المختلفة.

وأفاد نشطاء حضروا الاجتماع بأن وزير الداخلية التركي أشار إلى أن بلاده سترحّل من لا يحملون بطاقة الكيملك إلى خارج الحدود، فيما ستوقف إجراءات نقل الكيملك إلى اسطنبول أو استصداره فيها إلا في حالات خاصة غير محددة تماماً، وصفها بالحالات الإنسانية، فيما ستعيد من يحمل كيملك من خارج اسطنبول إلى الولاية التي أصدرها منها، وستشدّدُ إجراءاتها ضد عمليات تزوير الأوراق والوثائق.

وأشار النشطاء إلى تأكيد صويلو على أن تركيا ستتخذ الإجراءات اللازمة بحق العاملين دون استصدار إذن عمل، وبحق المؤسسات التي تُشغّلهم، عازياً ذلك إلى «وجود عمال أجانب أكثر مما هو مسجل رسمياً، بسبب العمل غير القانوني»، ومشيراً إلى استغلال المعارضة التركية لذلك «تأجيجاً لمعاداة الأجانب بهدف تحقيق مكاسب سياسية»، بحسب وصفه.

وأوضح الناشط عدنان الحسين، الذي حضر الاجتماع، أن هناك مسائل أُثيرت بخصوص حاملي الإقامة السياحية «الإقامة قصيرة الأمد»، حيث أن مدير إدارة الهجرة التركية الذي شارك في الاجتماع أيضاً، قال إن إدارته «ستستفسر من حاملي هذا النوع من الإقامات عن الذي يفعلونه في تركيا» لدى التقدم لتجديدها بعد مرور سنة على صدورها، دون أن يوضح ما إذا كان التجديد سيتم وفقاً للإجابات على هذه عن الأسئلة، ودون أن يذكر الشروط اللازمة لهذا التجديد. كما وعد مدير الهجرة برؤية ما إذا كان العمل على إصدار إقامات سياحية أطول أمداً من السنة الواحدة ممكناً، وأشار إلى أنه سيتوقف إصدار أذونات السفر من وإلى اسطنبول بالنسبة لحملة الكيملك، إلا للحالات الاستثنائية.

وقد جاء التركيز في مجمل هذه القرارات على مدينة اسطنبول، التي خسرها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية مؤخراً، والتي تعرَّضَ سوروين في أحد أحيائها لأعمال عنف قبل أسابيع، جاءت نتيجة تحريض على وسائل التواصل الاجتماعي أعقبَ فوز مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو بساعات. وكانت حملات كهذه تظهر وتتكرر على الدوام في السابق، لكنها باتت اليوم تحتل حيزاً أكبر في الخطاب السياسي والشعبي التركي، دافعة اللاجئين السوريين إلى زاوية أضيق، وخيارات أقل وأصعب.

وكان التضييق على حركة وسُبُل عيش السوريين في تركيا قد بدأ بعد إغلاق الحدود وفرض الفيزا عليهم عليهم عام 2016، ثم راح هذا التضييق يسير في خط تصاعدي حتى الآن، ما يوحي باحتمال استمراره في الصعود مستقبلاً. وكانت معظم الإجراءات المعلن عنها في اسطنبول مؤخراً، باستثناء تقليل الدعم للخدمات الطبية، موجودة فعلاً في السابق، إلا أنها لم تكن تطبق بالصرامة ذاتها التي يتضح أن السلطات التركية تفكر في انتهاجها وفقاً التصريحات الأخيرة، إذ كان يتم اعتقال بعض من لا يحملون الكيملك، وكان يتم ترحيل بعضهم أحياناً، لكن يبدو أن كل أشكال المرونة أو المراعاة ستتراجع أو تختفي بناء على التوجهات الجديدة.

وقد وعد وزير الداخلية التركية بمتابعة عدة نقاط طرحها النشطاء السوريون، حول الجنسية والإقامات السياحية والتحريض الإعلامي والمعاملة السيئة في دائرة الهجرة. ونُوقشت مسألة القنصلية السورية في اسطنبول أيضاً خلال الاجتماع، بعد شكاوي من المعاملة التي يتلقاها المراجعون، وأشار النشطاء إلى أن الوزير وعد بـ«محاربة السمسرة»، مؤكداً عدم قدرة السلطات التركية على فعل شيء داخل القنصلية السورية، بسبب الاتفاقات الدولية.

وتتزامن هذه التطورات في تركيا مع التضييق الشديد المتصاعد على اللاجئين السوريين في لبنان، ومع حالات ترحيل من لبنان إلى سوريا حصلت قبل أيام، شملت عدة سوريين بينهم مجندون منشقون عن قوات النظام، بإشراف الأمن العام اللبناني وفقاً لصحيفة المدن، التي قالت إن أكثر من ثلاثين شخصاً، بينهم خمس نساء، تم ترحيلهم وتسليمهم مباشرة إلى الأمن السوري، ونقلتهم المخابرات الجوية إلى دمشق. كما أنها تتزامن مع موجة كراهية متصاعدة في العالم ضد اللاجئين، ومع تضييقات تشريعية وإجرائية متنوعة عليهم في دول عديدة حول العالم. 

صحيحٌ أن ظاهرة اللجوء السوري إلى دول الجوار جاءت نتيجة بطش النظام وحربه المفتوحة على المجتمع السوري، لكنها جاءت أيضاً نتيجة ضلوع هذه الدول في الحرب بأشكال مختلفة، عبر الجيوش أو الميلشيات أو رعاية اتفاقات التهجير. يدفع السوري وسواه من اللاجئين ثمن اضطراب هذا العالم وجنونه، وهوسه ببيع السلاح وترسيخ حكم الطغاة خوفاً من إعطاء الناس أصواتهم. هناك أطفال ونساء وشبان هربوا من العسكرة، يجدون أنفسهم اليوم مهددين بالترحيل إلى بلادهم المهدومة والمقسمة، بعد أن ذهبوا إلى دوائر الهجرة لتسوية أوضاعهم وعادوا خائبين المرة تلو الأخرى. كل هذا بسبب فشل أو عدم رغبة هذه الدول في تنظيم أوضاعهم والاستفادة من طاقاتهم بشكل مقونن، وانصياع حكوماتها للخطاب العنصري أو مساهمتها في تأجيجه، إضافة إلى رغبة النظام العالمي، الذي رعى مسببات لجوئهم، في طي هذه الصفحة وإلقاء مسؤولياته على كاهل من لا يتحملونها.