يشكّل الضغط الأميركي المتزايد على الوجود الإيراني، في الآونة الأخيرة، أحد أهم عناصر إدارة الصراع الإقليمي والدولي في سوريا، إذ تدخل في هذا الإطار عمليات عسكرية واستخباراتية تقوم بها إسرائيل والولايات المتحدة، وتحركات دبلوماسية تقودها واشنطن مع موسكو، للوصول إلى صيغة اتفاق بين الطرفين لإنهاء وجود طهران العسكري في البلاد، أو ربما الحدّ منه على الأقل.
ويعود بدء التوسع الهائل للوجود العسكري الإيراني إلى مطلع العام 2012، عندما بدأت ميليشيات مدعومة من إيران بدعم قوات النظام في مواجهاتها مع الفصائل والمجموعات التي تشكلت في المدن والبلدات السورية لمقاومة أعمال القمع، وعندما بدأ ضباط من الحرس الثوري الإيراني بمساعدة النظام ودعمه وتقديم المشورة له. ومنذ ذلك الوقت، احتفظت القوات والميليشيات الإيرانية بحضور كبير داخل الأراضي السورية، وسيطرت على مواقع عسكرية ومدنية، واحتكرت إدارة بعض الأحياء والبلدات من الناحية الأمنية، كما تجذرت ضمن أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، لتصبح بذلك أحد القوى الرئيسية المسيطرة على البلاد، وإن كان ذلك باسم نظام بشار الأسد.
ويتخذ النفوذ العسكري الإيراني المباشر في سوريا أشكالاً ومستويات مختلفة؛ فقد يتمثل بالسيطرة الإيرانية المباشرة على قواعد عسكرية في البلاد، أو بالمشاركة بشكل مباشر في المعارك، وغالباً ما يكون ذلك عبر قوات تابعة للحرس الثوري، وتحديداً فيلق القدس الذي يدير قائده قاسم سليماني ملف الدعم العسكري للنظام السوري بشكل مباشر، إلا أن عدة حالات سجلت انخراط قوات عسكرية تابعة للجيش الإيراني نفسه في معارك على الأرض السورية، مثل معارك ريف حلب الجنوبي في عام 2017 التي شاركت فيها قوات خاصة تابعة للجيش الإيراني تعرف باسم أصحاب القبعات الخضراء (اللواء 65).
وتسيطر إيران اليوم على عدد من القواعد العسكرية، أهمها مطار دمشق الدولي، حيث يدير الحرس الثوري جزءاً منه لاستقبال المقاتلين وتنسيق الدعم اللوجستي للميليشيات الإيرانية المتواجدة في سوريا، بالإضافة إلى نقل الأسلحة المتطورة تقنياً مثل الصواريخ دقيقة التوجيه من إيران إلى ميليشيا حزب الله عبر سوريا. وتعرّضَ المطار نتيجة ذلك إلى عدة ضربات إسرائيلية، وقد نقل تقرير نشره موقع المدن معلومات تفيد بأن الروس وصلوا إلى اتفاق مع الإيرانيين لوقف إرسال الأسلحة المتطورة إلى ميليشيا حزب الله عبر المطار، والانتقال تدريجياً إلى استخدام مواقع أخرى متفرقة لتخزين هذه الأسلحة وتنظيم عملية نقلها، واستخدام مطار شراعي في منطقة الديماس غرب دمشق إلى حين تطوير مطار خاص بالإيرانيين في سوريا.
الموقع الثاني الذي يسيطر الإيرانيون عليه بشكل مباشر، هو مطار T4 أو «التيفور»، الذي يحمل رسمياً اسم «قاعدة التياس الجوية». ويقع هذا المطار وسط سوريا شمال مدينة تدمر، ويضم وحدات من الحرس الثوري تدير عمليات الطائرات من دون طيار الإيرانية في سوريا، كما أن هذا المطار يعد موقعاً متقدماً للإيرانيين في البادية السورية، خاصةً مع سيطرة موسكو شبه المطلقة على مدينة تدمر صاحبة الموقع الاستراتيجي. وتعرّض هذا المطار لعدة ضربات إسرائيلية، فيما وجّهت حكومة نتنياهو خلال العام الماضي اتهامات تفيد بأن طائرات من دون طيار استهدفت مواقع في الجولان المحتل، وتمّ التحكم بها من ذاك المطار.
بالإضافة إلى تلك المواقع، يمتلك ضباط الحرس الثوري حضوراً بارزاً في أغلب القواعد العسكرية الكبرى للنظام، مثل مطار حماة العسكري ومطار النيرب في حلب وجبل عزّان بريف حلب الجنوبي، بالإضافة إلى قواعد منطقة الكسوة العسكرية جنوب دمشق، التي تضم مستودعات أسلحة تعد جزءاً من عملية نقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان، والتي تحوي أيضاً مقرات قيادة وتحكم تدير العمليات وانتشار الميليشيات في جنوب سوريا.
كما أن هناك وجوداً واسعاً للمستشارين الإيرانيين في غرف العمليات الرئيسية بمدينة دمشق، والتي تنسق عمليات القوات التابعة للنظام في عموم سوريا، مثل غرفة العمليات الرئيسية في هيئة الأركان، وغرفة عمليات الميليشيات العراقية في حي الشاغور، التي بقيت على الرغم من التراجع في الوجود الظاهري لتلك الميليشيات في مدينة دمشق، وفي ذاك الحي تحديداً.
المستوى الثاني للوجود العسكري الإيراني في سوريا، يظهر من خلال حضور الميليشيات الأجنبية، التي استقدمتها طهران إلى البلاد للمشاركة في القتال إلى جانب قوات النظام. وتم تشكيل أول ميليشيا عراقية في سوريا عام 2012 تحت اسم لواء أبو الفضل العباس بحجة حماية المراقد المقدسة في البلاد، ولاحقاً انضمت أعداد كبيرة من الميليشيات العراقية التي تشكّلت بعد تأسيس الحشد الشعبي في العراق، وأخرى كانت تمتلك حضوراً هاماً في العراق قبل ذلك، مثل ميليشيات حركة النجباء وعصائب أهل الحق. وإذا كانت الميليشيات العراقية هي الأسرع نمواً، إلا أنها لم تكن الوحيدة، فقد تم توثيق مشاركة ميليشيا حزب الله اللبناني في مساعدة النظام على اقتحام المدن والبلدات منذ بداية 2012، ليتحول هذا الوجود إلى العلن في العام التالي، ويتسلم حزب الله قيادة عمليات عسكرية كبيرة في البلاد مثل الحملة على مدينة القصير جنوب غرب حمص، والعمليات العسكرية التي استهدفت منطقة القلمون على الحدود مع لبنان. وخلال الأعوام التالية، خاصةً مع ارتفاع التوتر حول حلب، برزت جماعات مسلحة شكلّها الحرس الثوري الإيراني من اللاجئين الأفغان في إيران، الذين تم تحويلهم إلى ميليشيا تحمل اسم «فاطميون».
للميليشيات العراقية حضور مهم حول مدينة دمشق وضمنها، وكانت قد أخلت خلال الأشهر الماضية منطقة فنادق حي البحصة في قلب العاصمة، إلا أنها تحتفظ بوجود كبير حول مقام السيدة رقية في دمشق القديمة، كما تُعد بلدة السيدة زينب جنوب شرق العاصمة مركزاً رئيسياً لها. كذلك تسيطر ميليشيات عراقية ومختلطة (تضم سوريين وأجانب)، على أحياء كبيرة شرق مدينة حلب، أبرزها لواء الباقر، الذي ينخرط إلى جانب حركة النجباء وتشكيلات أخرى تدعمها إيران، في منافسة ضارية تتصاعد إلى عمليات قتالية في كثير من الأحيان، مع الميليشيات والقوات المدعومة من موسكو في المدينة.
ويمتلك حزب الله سيطرة شبه تامة على مناطق بعينها مثل القصير ومحيطها غرب مدينة حمص بالقرب من الحدود مع لبنان، بالإضافة إلى سيطرته على المناطق التي احتلها في القلمون الغربي، ورغم تراجع حضوره في المدن والبلدات خاصةً بعد انسحابه من أحياء في مدينة يبرود في القلمون، إلا أنه لا يزال يسيطر على المواقع الاستراتيجية في المنطقة مثل طلعة موسى أعلى قمة في سوريا بعد جبل الشيخ، ومنطقة الجرود التي تفصل سوريا عن لبنان.
كما أن حزب الله بدأ يدير في الآونة الأخيرة، عدة مواقع عسكرية كانت تابعة لقوات النظام في الجنوب السوري، تحديداً في المنطقة الفاصلة بين محافظة السويداء ومحافظة درعا، من بينها مطار الثعلة العسكري، وكتيبة الدفاع الجوي في السويداء، وتعد هذه المواقع أحد أبرز القواعد المتقدمة التي تسيطر عليها إيران من خلال حزب الله، بالقرب من الحدود مع الجولان المحتل.
وأشارت عدة تقارير إلى تراجع أعداد الميليشيات المرتبطة بإيران نتيجة تراجع الحاجة لها مع انحصار المعارك في مناطق محدودة جغرافياً، لا تتطلب الأعداد الكبيرة التي يترتب عليها أعباء مادية ضخمة، إلا أن التقديرات كانت تقول إن أعداد الميليشيات الأجنبية التي استقدمتها إيران إلى سوريا وصل خلال الأوقات التي شهدت ذروة المعارك إلى حدود الستين ألف عنصر.
المستوى الثالث من النفوذ العسكري لطهران في البلاد، يتمثل في الميليشيات المحلية التي تم تشكيلها بدعم وتمويل إيراني، التي وإن تراجعت أعدادها خلال السنة الأخيرة، إلا أنها لا تزال تمتلك حضوراً هاماً في مناطق مثل بلدتي نبّل والزهراء شمال حلب. كما يبرز مثال ميليشيا الفهود في مدينة حمص، التي يديرها الأمن العسكري بدعم إيراني. وبينما تراجع هذا النوع من الميليشيات في مناطق الجنوب السوري بعد حل اللواء 313، لتحتفظ إيران بوجودها هناك عبر حضور حزب الله فقط تقريباً، إلا أن طهران لا تزال تحتفظ بشبكات علاقات واسعة على الأرض بنتها خلال سنوات الحرب، ستمكنها من حشد أعداد كبيرة من المقاتلين المرتزقة والموالين لها في أي وقت.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إيران تمتلك نفوذاً واسعاً جداً في مناطق أخرى، يعتمد على التواجد المختلط للميليشيات الأجنبية التابعة لها والحرس الثوري المتمثل بفيلق القدس وميليشيات محلية وقوات أمنية أو عسكرية تابعة للنظام لكنها تقع ضمن دائرة الوصاية والإشراف الإيراني، ومن أبرز تلك المناطق مدينة البوكمال على الحدود السورية العراقية أقصى شرق محافظة دير الزور، التي أصبحت بعد انسحاب القوات الروسية منها خلال شهر أيار الماضي تحت السيطرة الإيرانية المباشرة والتامة. وقد أفادت التقارير الصحفية وشهادات الأهالي من هناك عن إشراف الإيرانيين على كافة مجالات الحياة المدنية والأمنية والعسكرية في المدينة، التي تعتبر الممر البري الأساسي للميليشيات التابعة لإيران من العراق نحو سوريا عبر البادية. كما تمتلك إيران وجوداً عسكرياً ونفوذاً واسعاً في باقي مدن دير الزور الأساسية وريفها في المنطقة الواقعة جنوب وشرق نهر الفرات، إلا أن هذا النفوذ متداخل في كثير من الحالات مع الوجود العسكري الروسي الذي حافظ على قوته في مدينة دير الزور تحديداً.
أما في محافظة حلب، فبالإضافة إلى نفوذها داخل المدينة، تمتلك الميليشيات المختلطة وجوداً كبيراً في محيطها، وتحديداً في منطقة الريف الجنوبي الذي حاولت إيران السيطرة عليه مراراً من قبضة فصائل المعارضة، إلى أن سيطرت على معظمه خلال العامين الماضيين. وبوجود الميليشيات المحلية والإيرانية جنوب حلب، بالقرب من نقاط المراقبة التي يتواجد فيها عناصر وضباط من الجيش الإيراني، والتي تم نشرها بعد اتفاق خفض التصعيد في أستانا، فإن هذه المنطقة باتت تعد أحد أبرز مناطق النفوذ الإيراني المختلط في سوريا.
اليوم، وعلى الرغم من تعرض الحضور العسكري الإيراني لضغوط أميركية شديدة وضربات إسرائيلية متكررة، إلا أن النفوذ الذي يُظهر تجذراً في بنية وهيكلية النظام ، بالإضافة إلى حجم القوات الكبير، سيمنع من تغيير هذا الواقع بسهولة. وتساهم العقوبات الأميركية في تقليص قدرة طهران على توسيع نفوذها العسكري نتيجة تراجع وارداتها المالية، إلا أن إيران تظهر قدرةً عالية حتى الآن على الحفاظ على مواقعها الرئيسية في البلاد، ولا يبدو أن أي شيء سيغير ذلك على المدى المنظور. لكن مع ذلك، فإن استمرار الضغوط السياسية والعقوبات قد يأتي بنتائج أوسع على المدى الأبعد، ما قد يجبر طهران على المساومة على مدى وكيفية حضورها الاستراتيجي في سوريا.