في فيلم وداعاً لينين، تستيقظ الأم الاشتراكية الراديكالية من غيبوبتها في وضع صحي حرج، ويعمل أبناؤها على عدم تعرضها لأي صدمة من الممكن أن تودي بحياتها. تحدث الصدمة عندما تخرج من بيتها لتكون في مواجهة مع تمثال لينين منزوعاً من مكانه ومعلقاً في الهواء بطائرة مروحية، لتتبادل التحديق معه، ونكون أمام لحظة درامية سياسية تصور علاقة الفرد بالنصب التذكاري الشخوصي. تكمن الحبكة هنا، في علاقة الغيبوبة الصحية للأم مع نزع تمثال لينين، منعتها الغيبوبة من أن تشهد التغيرات السياسية، وذاكرتها بقيت على حالها بعلاقتها مع النظام الاشتراكي المسيطر على مدينتها. يُحيلنا الفيلم لعلاقة النصب التذكاري بالذاكرة، متخذاً موقع تشكيل الذاكرة الجمعية ودالاً على سيادة وشرعية السلطة المتمثلة في الفضاء العام.

النصب التذكاري هو مركز التقاء المواطن مع إيديولوجيا تسمّم الفضاء العام برمزيات السلطة. وهو يعمل كوسيلة بصرية تزيف شرعية السلطة، مخاطبةً الجمهور أو مُشكّلةً الجمهور نفسه بتشكيلها ذاكرتهم. فنرى الأنظمة السلطوية تعمل على تنصيب التماثيل والنصب التذكارية مباشرة إبان تسلمها السلطة، لتعلن رمزياً بداية جديدة في التاريخ وقطعاً مع ما كان عليه الماضي. هذا الحال نراه عند الأنظمة التوليتارية من لينين إلى ماو.

التماثيل مظاهر رمزية تعمل على تشكيل التاريخ والذاكرة، بالتالي صياغة الهوية المجتمعية السياسية. تكون نقطة التقاء الجمهور برمز الحاكم وعظمته وغموضه، وما بذله من جهد لدفع التاريخ للأمام. فيتم رسم الذاكرة رمزياً بين ماضٍ قبل النصب والسلطة المتزعمة، وحاضرها الذي يظهر كما لو أنه مرغوب من الجمهور. تلك العلاقة ليست دلالة على شرعية السلطة، بل كناية عن مظهر يناسب ما تدعيه السلطة من شرعية. هو يشكل البنية السياسية للفضاء العام وسياسة العرض، مما يجعلنا نرى الشرعية، الجمهور يمشي حول النصب، يذهب الى عمله ويعود إلى بيته مطيعاً لتحديقته ودلالة نفوذه، أو موقع مركزيته في الفضاء العام، ليصبح في الحقيقة أهم العناصر في البنية السياسية للمكان، بينما نظهر وكأننا محبون لرمزيته التي نقابلها يومياً بدون التعرض لها.

إنتاج البنية السياسية للفضاء العام: بين الأداء المكاني والاستعراض الزماني

في سوريا، عملت السلطة على تماثيل شخوصية تجسد الحاكم، هي استعراض لما تريده السلطة من صورتها في الوعي الجمعي. فنرى التمثال شاهقاً ومتربعاً في المركز، يحدق بالأفق ككل القادة، بينما تحدق عناصر مخابراته بالمشاة حوله. هو يفرض سياسة عرض معاكسة لسياسة العرض التقليدية، فيكون التمثال هو المؤدي الرئيسي في عرض مستمر، لكن هذا المؤدي يحدد أين يقف الجمهور، ويحكم سلوكيات أجسادهم، ورمزيات الحركة والنظر. هذا المنحوت، الثابت الصارم، يُعيد إنتاج سياسة فضاء المدينة مستنداً على رمزيات نفوذه، ليكون البشر الديناميكيون بطبيعتهم جزءاً من عرض فضاء المدينة، بينما التمثال الجامد هو المؤدي والمراقِب لحركتهم المباشرة والرمزية.

يعني ذلك فيما يعنيه نقصاً في الشرعية، بل إن وظيفة الإكراه والخوف تصبح هي مصدر الشرعية، والتمثال حدثاً استعراضياً رمزياً لخلق وهمها. يمكننا صياغة مقاربة بين التجمهر في المسيرات في علاقتها مع المكان، والتماثيل في علاقتها مع الزمان. الجمهرة في الأماكن العامة، مثل المسيرات الحاشدة، لم تحفزها محفزات الشرعية، بل حرّكها الخوف والإجبار، وتم تصويرها بتجييشها ذاك مظهراً من مظاهر الشرعية والعلاقة الطبيعية مع السلطة. أما في المشهد الزمني، فنبدو وكأننا نمضي أجيالاً تدور حول التمثال المقدس ذاته، وكأننا مطيعون مشرّعون لوجوده، لا مجبرون متماثلون مع سطوة رموزه زمنياً في ذاكرتنا.

منتجو سرديات التاريخ: التمثال كمدلول تاريخي

الضريح أو التمثال في فضاء المدينة هو عكس المتحف وممتلكاته، فالتاريخ في المتحف يُحفظ كماضٍ، يوضع خلف الزجاج، أما في النطاق العام فالتاريخ هو للتمجيد الدائم لماضٍ محدد، واستحضار له ليكون تشديداً خطابياً يومياً، يعمل على صناعة الوقت الحاضر كامتداد لوقت محدد بالتاريخ في سرد واحد لا غير. يعمل النصب هنا كأداة بروباغاندا تستهدف الذاكرة، وتعرّف ما يجب أن نتبناه من فواصل بين الحقب وحوادث محددة من الماضي صاغت حاضرنا، لينتج بنية سردية وحيدة. في هذا الجانب، اشتُهر السوفييت بقوتهم في البروباغاندا، من السينما الى بوسترات الشوارع، أما عن نُصُبهم التذكارية فنراهم قد نصبوا تماثيلهم ضمن معايير الحركة التكعيبية-المستقبلية الروسية، ليكون البُعد الفني مقحماً بالتشكيل، فيأتي الدعائي ممثلاً في السياسي الرمزي وفي الفني، وهو ما يناسب الخطاب الوحيد المسموح في الاتحاد السوفييتي المتعلق بثورة أكتوبر وما نصت عليه.

كان التمثال في سوريا يتجسد بشخصية الحاكم، ونادرأ ما نرى تماثيل لشخصيات مثل صلاح الدين الأيوبي أو يوسف العظمة، مع فقدان الأخيرَين لهالتهما التاريخية بعد فقدانهما أي رمزيات ممتدة إلى الحاضر. هم غير مرتبطين بالحاضر السياسي، فنحدّق بنحوتاتهم المفرّغة من الرمزية، وكأنهم يقعون في تاريخ بدون سياق. هذا التجريد من الهالة، كنتيجة لهيمنة رمزية تمثال الحاكم وهالتها المزيفة، التي لطالما ارتبطت بسياق تاريخي، يحتوي تحولات وانعطافات كان القائد المجسد يزعم أنه صاحب الفضل فيها.

أنتجت السلطة في سوريا معاني خطابية ترمز لامتداد قداسة وبطولة القائد المستمرة. كانت مصادر هذه المعاني تتمثل في أحداث تاريخية حديثة، مثل الحركة التصحيحة والثورة على الإقطاع، أو شعارات مرتبطة بتهديد ماضٍ مستمر للحاضر، مثل معاداة إسرائيل المهددة لأمن الوطن. هذه الأحداث عملت كمصدر لمعانٍ ورمزيات ترسخت لتكون قبل-عقلانية، لا تمر في عملية عقلية، بل شبه بديهية، تسعى لتقديس الحاكم وتأمين طاعتنا الدائمة له خوفاً وكرهاً، أو انخداعاً بهذه المعاني ذات المرجعية التاريخية.

يعتبر بيير بورديو في كتابه الرمز والسلطة أن السلطة الرمزية هي سلطة بناء الواقع، وأنها تسعى لإقامة نظام معرفي. يعزز التمثال المنصوب طويلاً التحكم بالخطاب السياسي وإنتاجه المعرفي عنا وعن تاريخنا، فيقوم بتعزيز تلك الانعطافات التاريخية ويربطها بصرياً بشخصية الحاكم في مرمى وعينا اليومي. التمثال مسؤول عن تعزيز سردية تاريخية وحيدة في ذاكرة المجتمع، ومُنشَأ كعلامة فاصلة في التاريخ، ومثابر على إحضارها كعلامة فاصلة، او كإنجاز رمزي مستمر من الماضي للحاضر. التمثال هو رمز ما ينص عليه خطاب السلطة من معانٍ سياسية عن الماضي، وهو ذو تأثير على هوية الحاضر وأفق المستقبل.

إذن، إذا كانت احتفالات الثورة والحركة التصحيحية هي من أجل الاحتفال السنوي بالمعاني السياسية وترسيخ الذاكرة الجمعية، فإن التمثال احتفال يومي نقوم به عند مرورنا وطوفاننا حوله لأسبابنا الاقتصادية أو الاجتماعية. إنه النحت الحجري الذي يخاطبنا بالرموز، يُنتجها في وعينا ويوحدنا في ذاكرتنا. يمكن رؤية التاريخ والذاكرة متفاعلَين بوظائف مختلفة، فالذاكرة غير محصنة من النسيان والتذكر، وهي غير واعية بالضرورة للتشويه والتزيف. بينما التاريخ هو السرديات المتراوحة في سياقاتها حسب رغبة السلطة؛ هي عملية إعادة إعمار وعينا. تكون الذاكرة أقرب للحاضر، بينما التاريخ تمثيل للماضي في الذاكرة ويحدده منتجو السرديات. فالتمثال بنصبه لحظة إنتاج سردية جديدة في التاريخ، واستمرار وجوده يعني إحضار السردية الوحيدة يومياً لبناء الذاكرة.

تحطيم التماثيل: سيادة المجتمع على الرمز

التمثال في سوريا شخوصي، لا يأخذ من الماضي ما يمس تاريخ المجتمع. على عكس ما عمل عليه ماو تسي تونغ مثلاً، بأنْ نَصَبَ بوابة تيان آن من إبان تسلمه السلطة، والتي بقيت كأثر من ماضي الصين الإمبراطوري ودلالة على حاضر الصين الجمهوري، فهي من ماضي المجتمع لا ماضي الحزب أو القائد فقط. واستناداً لإميل دوركايم، فإن الرموز أداوت تواصل اجتماعي، وهي تسمح بتبادل وترسيخ المعاني، وقد تمتلك القدرة على إعادة تشكيل النظام الاجتماعي كذلك. وفي سوريا فإن رمز التمثال يرسخ معنى مهيمناً، هو القيمة الرمزية للقوة المطلقة التي يملكها الحاكم عبر التاريخ، لا القيمة الزمنية التي قد ترتبط بماضي المجتمع، وكأن التاريخ بدأ منذ تنصيب الحاكم، ولم يكن للمجتمع تاريخه من قبل. الجماهير مجبرون على تبني صورة تاريخية وحيدة، ترسم واقعهم السياسي الاجتماعي، وتقتحم ذاكرتهم ووعيهم الجمعي. 

كان التحطيم والتشويه مصير نُصُب السوفييت، المتشابهة بخصائص الشخصنة والتقديس في تجسيد السلطة في الفضاء العام. وقد كان لتظاهرات الثورة السورية أن تصادمت مع سطوة المعاني الرمزية لتلك التماثيل ومظاهر تزييف الشرعية. أمسى التحطيم تحطيماً لماضي المجتمع، وبدءاً لإحساس المجتمع بنفسه، وتحرّره من ماضٍ محمّل برموز الإكراه والقهرية، إنما بذاكرة الحاضرين الذين يحاولون تحقيق شروط أكثر إنسانية. كان تحطيم التماثيل في سوريا بمثابة تحقيق للذاكرة والهوية، التي لم تكن هناك سيادة اجتماعية عليها، على عكس قيمة السلطة المطلقة التي عملت لتشكيل ذاكرة واحدة وهوية مجتمعية واحدة، وهي الطاعة لكل ما يدور حول السلطة بسياستها، وبكل ما يدور حول النصب برمزيته الثابتة.

أمضت المناطق السورية وقتاً طويلاً محتفظةً برمزية غياب التمثال من الفضاء العام، ومثَّلَ ذلك النسيان رمزية جديدة عن صناعة المجتمع لواقعه وذاكرته. كانت بقايا الخَلع هي آثار المنسي والماضي، كما مثال تماثيل لينين المخلوعة، فكان حضور الحاكم رمزياً كمنسي مقتول، لا مكان له في الذاكرة المشكلة جديداً، وهو الأمر الذي جاء أكثر حدة لرده على التموضع الطويل في الذاكرة والفضاءات اليومية؛ التموضع الذي احتل الذاكرة السياسية المجتمعية الوحيدة بما يتناسب مع خطاب السلطة المطلقة.

إعادة إعمار التماثيل: التاريخ بدون فواصل، تأبيد الرموز

تُرك مكان تمثال لينين فارغاً في برلين، حيث كان يرمز لا إلى السيادة بل لفضاء فارغ يعبر عن سيادة مجتمعية غيّرت مجرى التاريخ، فخُلعت الرمزية وتُركت بدون رمزيات جديدة سوى الفراغ الدال على سيادة الشعب وتشكيله هو للذاكرة، تماماً كدلالات خلع التماثيل في المناطق السورية المحررة. لكن تكمن المفارقة برجوع تماثيل السلطة لمكانها في سوريا، بعد سنوات على خلعها من قبل الثوار الذين حطموا المجاز الرمزي السلطوي. يبقى مفهوم الرمزي التقليدي في هذا السياق ليحمل معاني خطابية قديمة، لكن مع دلالات جديدة متعلقة بالحقبة القادمة، ومرتكزة على قيم تقليدية تشير للسلطة قبل تحطيم رمزياتها خلال الاحتجاجات، وأهمها الإكراه الذي دأبت على فرضه سياسياً.

كان انتشار صور إعادة إعمار التماثيل مدعاة مفاجأة وتهكم على السلطة السورية: أنها بعد استرجاع بعض المدن المحررة المدمرة، كان التمثال أول ما حرصت على إعادة إعماره، ليتربع بصرامة وضخامة وسط دمار البيوت وانعدام الحركة السكانية في المدينة. لكن ذلك يغفل أهمية الرموز عند السلطة السورية، فقيمة الرمزي ليست تحديد تاريخ جديد، بل سرد تاريخ بلا فواصل، فإعادة التمثال كانت رسالة استعراضية رمزية: أن المكان دُمر والحرب مرت من هنا لكن السيادة لا تزال باقية أبدية.

لا تكاد توجد محاولة لتطوير علاقة المجتمع بالسلطة تشبه محاولة ماو تحرير البنية المكانية من شكلها الإمبراطوري القديم، فلإعادة رمزيات السلطة دلالات على القيمة السياسية الأولى وهي الإكراه والسيادة المطلقة، وهو ما يتطابق مع خطاب السلطة قبل الاحتجاجات وخلالها وبعدها. ببساطة، تمثل الرموز واستعراضها رغبة من جانب السلطة بتصوير نفسها في وعي المواطنين، بوصفها القاهر الأبدي بدون فواصل معترضة له في التاريخ، وهي الصورة التي ترغب بها السلطة السورية عبر إعادة إعمار التماثيل بين حطام البيوت.

وهكذا يمكن القول إنه لا رغبة في خلق شرعية مزعومة وسياسة عرض وحركة كما في السابق، فالأولى فرض القوة على شكل لاحركة ولا أنسنة للمكان ولسكانه. فلا علامات في التاريخ تشير إلى ما حصل البارحة ومآلات اليوم، فكأن التمثال بقي خالداً، لتتجلى رمزية السلطة القهرية بإفشال محاولات التاريخ للتغير والانتقام في المجاز الرمزي. لا يرمز النصب في هذه الحالة لفواصل التاريخ أو لقطيعة مع الماضي، بل لتواصل ماضي ما قبل الثورة أبداً، وللتاريخ كصيرورة واحدة لا تتضمن أي منعطف أو انقلاب في ديناميكيات السلطة والمجتمع.

ومن باب المقارنة، كان التحطيم الذي حصل خلال الاحتجاجات يعني تحطيم المجتمع لذاكرته القهرية وبنية التمثال الإكراهية. أما إعادة وضع التمثال فوق الخراب ففيه معنى سلطوي لا فكاك منه في بناء الذاكرة في سوريا، وهي رغبة السلطة بأن ترمّز لنفسها في وعي المجتمع وذاكرته بأنها السلطة على الماضي كسردية وحيدة، وعلى الحاضر كوعي وإدراك، وعلى المستقبل بشكل خاص كأبد إكراهي لا مفر منه.

هنا التاريخ مستقر، ونظام الرموز في سكون، يتقدم بشكل سوي بلا تحولات أو محاولات للتحرر من الذاكرة الإكراهية اللاشرعية. لم نذهب في غيبوبة كالأم في فيلم وادعاً لينين، لكن الصدمة تجلت بوقاحة السلطة في إرجاع الرمز على أشلاء السكان؛ كامتداد لما لا نريده من سطوة رمزية في حاضرنا.