سمور،

تذكرين أنكِ نضَّدتِ مقالاتي الأولى بعد ارتباطنا، قبل أن تُعلِّميني الكتابة على الكمبيوتر. فاجأتُ نفسي بسهولة خيانة القلم، وصرت أكتب مباشرة على الشاشة بعد افتراض رومنسي من طرفي عن التعلق بالقلم والورق. كنت أعود إليك كل حين: أين الشدّة؟ أين القوسان المعقوفان؟ لماذا إضاءة الشاشة خافتة؟ معلمتي كانت صبورة على المتعلم المتذمِّر. كنتِ تقرئين المقالات قبل إرسالها للنشر، وتُثنين عليها. بعد حين صرت أكتب دورياً، مرة في الأسبوع على الأقل، ولم أعد أعرض عليك المواد قبل إرسالها. بين حين وآخر نتكلم على مقالة أكتبها أو أرسلتها للتو، فتطلبين أن تَريْ المقالات قبل إرسالها أو وقت إرسالها، وأعد، ولا ألتزم إلا لمرة أو مرتين قبل أن تعود حليمة إلى العادة القديمة. كنت أعلل نفسي أنك سترينها بعد يومين أو ثلاثة في كل حال. لزوجك الذي كان غارقاً في الغالب في أفكاره، كانت الكتابة عملاً يجري في عُزلة وعلى انفراد، فعل كلام موصول مع النفس؛ والإيقاع السريع، اللاهث بالفعل، الذي وجدت نفسي منضبطاً به طوال سنين كان يتركني مستنفر الأعصاب، لا أكاد أفرغ من شيء حتى أبدأ بشيء آخر. مرّ وقت، تذكرين يا سمور، أني كنتُ أكتب مادتين كل أسبوع. أمّنَ لنا هذا دخلاً كريماً، لكن حين أنظر إلى تلك السنوات اليوم، يبدو ذلك الإيقاع مثل دخول طوعي إلى الحبس. مرة قيل شيء بحضور بكر عن وقت خروجي من السجن، فردّ متهكماً: ليش ياسين طلع من السجن؟ كان هذا تلخيصاً مكثفاً لواقع الحال. 

خلال سنواتنا كلها معاً، كنتِ شريكة في حياة لا تكاد تفيض عن الكتابة إلا نحو الصداقة. كنتُ جريدة أو أكاد. وكانت الجريدة جريدتك. كانت المشروع الذي أردت له أن يثمر. وغير الجريدة، كان أصدقاؤنا نوعاً من سورية مصغرة، وغير قليل منهم كانوا أزواجاً من حبيبين شابين، أحبوا علاقتنا وحياتنا، وكانوا في بيتهم في بيتنا.     

سورية الصغيرة هذه تشتّتت في كل مكان مثل سورية الأكبر. لكن في شتاتها، أهلها يفتقدون الغائبة، ويتفقدون شريكها حين يحدث أن يغيب قليلاً. 

لم أقل لك من قبل يا سمور أني انفلتُّ من إيقاع الكتابة الدوري، فلم أعد الجريدةَ التي كنتُها منذ الخروج من دمشق قبل ست سنوات ونيف. ثم لم أعد إلى الكتابة في جرائد منذ نحو عامين. 

ولم يكن مر وقت طويل على بداية توقفي كجريدة حتى غبت عني، أنت صاحبة المشروع. كنت لتديرين جريدة ناجحة في سورية أقل فظاعة من سوريتنا، يا سمور. بنشر أقل، وليس بالضرورة بكتابة أقل، أحب أن أوجه لك ما أنشر اليوم من مقالات ورسائل وخواطر. «جريدة سميرة» هو اسم جامع لمواد تنشر في الجمهورية

تذكرين يا سمور أني أصدرت منفرداً ثلاثة أعداد من نشرة شخصية كان اسمها «قنطرة» بين أواخر 2000 وربيع 2001، وقت كنت أنت تعملين في مكتب جريدة الخليج في دمشق. أظن أنك نضدتِ بعض مواد تلك النشرة التي ساعد في إخراجها وطبعها في حينه صديقان شابان متحابان، تفرّقت سبلهما لاحقاً. هل تذكرين أني قلت في أول إصدار لها إن المقصود بـ«قنطرة» أن تسهم في الوصل بين جيلين، وبين طورين من العمل العام في بلدنا، وإن لم تخني الذاكرة فقد قلت كذلك إنها قنطرة بين شكلين من العمل العام لمحررها. «جريدة سميرة» هي قنطرة إليك، أنت الغائبة البعيدة عني، الأقرب من كل قريب. 

إلى القارئ

النصوص التي تنشر في «جريدة سميرة» هي مواد في الجمهورية، تستأنف بعد توقف مؤقت نشراً شبه دوري. أرجو من وضعها تحت عنوان «جريدة سميرة» أن يعطيني حرية في المواضيع وفي الأسلوب، وفي المساحة. لن تكون سميرة الموضوع الحصري لمواد هذه الجريدة، لكن أرجو لحضورها فيها، المباشر وغير المباشر، كحافز وكمخاطب وكموضوع أو غائب، أن يعطي هذه النصوص خصوصية تميزها.

ومن وجه آخر تستجيب نصوص «الجريدة» لحاجتي إلى مخاطبة امرأتي المغيبة بطرق مختلفة. كانت سميرة هي الغائبة التي تناولتها مقالات كتبتُها عنها وعن قضيتها، مع شريكتها رزان وشريكيهما وائل وناظم؛ ثم كانت سميرة هي المتكلمة في كتابها: يوميات الحصار في دوما 2013؛ ثم المخاطبة في رسائلي إليها. في هذه الجريدة، سميرة هي الرمز المُحال إليه، الحاضر دوماً بقدر ما هو غائب. 

لسميرة قضية عامة، لا تنفصل بحال عن رزان وائل وناظم. القضية واحدة. لكن سميرة شريكتي، وهي قضيتي الشخصية من حيث أني شريكها الناجي، وهي محور تفكيري في قضايا متنوعة ومعيار حكمي في شأنها. لا أفكر في سميرة ولا أتذكرها، هي معي في كل وقت، وأنا هي في غيابها.