قبل بضعة أشهر، في اسطنبول، روى أحد الأصدقاء تفاصيل محاولة سرقة تعرّض لها، وفشلت بفضل لحظة فائض انتباه عجائبية جعلته يمسك حقيبته في اللحظة الأخيرة، منقذاً نظارتيه الطبية والشمسية، ومبلغاً من المال، وشاحن موبايل، وجواز السفر، «كينونتي»، قال ذلك الصديق جائلاً ببصره في وجوه الحاضرين باحثاً عن نظرات رعب مُتعاطف، مكرّراً الكلمة الشاعريّة بحسٍّ درامي مُعلّب، وإن مفهوم: لو خسر جواز سفره فأقل الاحتمالات سوءاً هو «الشنططة» بين المخافر، ثم مراحل انتظار -تقصر بتناسب عكسي مع عدد مئات الدولارت التي يستطيع دفعها- للحصول على جواز سفر جديد من دكّان الجزّارين المُسمّى قنصلية الجمهورية العربية السورية في اسطنبول.
اكتشفتُ لاحقاً، خلال إحدى جلسات القفز (غير) المفيد من صفحة إلى أخرى على الويب، وجود قواميس لتشرح رمزية جواز السفر في مواقع تفسير الأحلام: حلمتَ أنه ضاع منك قبل السفر؛ اكتشفتَ أنَّ من يظهر في صورته ليس أنتَ؛ سُرق منك؛ .. إلخ. بالإمكان الاستعانة باليوميات السورية للمقيمين في دول اللجوء لإضافة خيارات أخرى: دفعتَ مبلغاً هائلاً لتجديده في دمشق تحت وعد أنه سيكون بست سنوات بدل سنتين (كونك مطلوب و/أو لم تقم بالخدمة الإلزامية) ولم يحصل؛ أو اكتشفتَ في مطارٍ ما أن جواز سفرك «غير نظامي» بالكامل؛ أو أنّ جواز سفرك من إصدار الائتلاف؛ أو، ببساطة شديدة، أنك مضطر لتجديده خلال الأشهر المقبلة، وبالتالي تخصيص مئات الدولارات لأجل ذلك، و تأجيل أي فيزا أو تجديد إقامة أو أي مُعاملة أخرى تقتضي جواز سفر صالح.
إذاً، نعيش، نحن السوريون، في «حلم» تُفسّره مؤسسات الأبحاث وجحافل مستشاري صنّاع القرار بالدرجة نفسها من العلمية والمنطقية التي نجدها في مواقع تفسير الأحلام.
للعلاقة مع جواز السفر السوري فصولٌ أكثر تعقيداً بدأت بعد الثورة، فقبلها لم يكن الوضع بهذا السوء. وهنا أبلع ريقي لأتشجع وأقول إن الرمزية التاريخية لجواز السفر، أدبياً وفنياً، مُبالغٌ فيها بعض الشيء، ليس فقط في سوريا والعالم العربي، بل في العالم الثالث عموماً. هناك نتاج أدبي وفني من أشعار وأغانٍ عن جواز السفر وبزوغ الفجر على طوابير السفارات وغيرها من رمزيات الهجرة والفراق والشوق، والمُعاناة بحثاً عن مستقبل أفضل، رمزيات مُعاناة لا أودّ أن أبخسها حقّها، لكنها -أبلع ريقي مجدداً- تشبه عادة الطبقات الوسطى في الانشغال بمراقبة صرّتها. هاجس الهجرة والسفر بحثاً عن حياة أفضل يخصّ أناساً يمتلكون كلفة التحضير للهجرة، أو السفر للدراسة، أو التجارة، أو على الأقل قادرون على استدانتها. هجرة معتّري سوريا في الثمانينات والتسعينات والألفينات المبكّرة، إلى لبنان للعمل في الباطون والزراعة وحراسة البنايات وغيرها، لم تكن بحاجة لجواز سفر. الوعي المُطابق يقتضي توقّع رمزية أكبر لدفتر العسكرية، أو دفتر العائلة، أو إخراج القيد. دفتر العائلة أخذ نصيبه من الإبداع اليساري الملتزم بفضل ارتباطه ببونات السكّر والرّز، ولا أريد الاقتراب من البطاقة الشخصية لأن «الهوية» و«سياساتها» محتقنة في الفترة الأخيرة. ولا علاقة للأمر بتفتيش الأمن السياسي عن الهويات الشخصية خلال سنوات الثورة الأولى للتأكد من أنها غير «مطقوقة»، وأنّ أصحابها ليسوا «عراعير».
رمزية جواز السفر عند العالم الأول من أميركيين وأوروبيين وأمثالهم مختلفةٌ عن الإحالة العالمثالثية للهجرة والفراق والحنين والعذاب، فهي أصغر حجماً بكثير، بل تكاد تكون غير موجودة. الفرنجة قلّما يُهاجرون، بل «ينتقلون إلى دولة جديدة لعيش تجارب مختلفة»، وهم -كما تشير الإحصائيات- أقلّ خروجاً من دولهم أو من مجموعات الدول المرتبطة ببعضها (الاتحاد الأوروبي) للسياحة مما يمكن أن نتخيّل. نسب مئوية هائلة من سكان دول العالم الأول لا يغادرون بلدانهم قط خلال حياتهم. جواز السفر عند أهل العالم الأول يُستخدم شعراً وموسيقى للحديث عن التنوّع (كفرقة الجاز الألمانية التي تحوي عدداً كبيراً من الجنسيات)، أو للبحث المتضامن عن عالم بلا حدود ولا جمارك ولا قيود على السفر. ثمة لعبة تثقيفية موجّهة للأطفال واليافعين، شهيرة نسبياً في العالم الناطق بالإنكليزية وتشبه المونوبولي، اسمها «جواز سفر إلى الثقافة»، وبالإمكان سكب الحِلفان والأيمان على أن واضع الاسم لم يطلب فيزا لدولة ما في حياته.
رغم ذلك، رمزنا الشعري العربي الأهم في هذا المجال، قصيدة محمود درويش «جواز سفر»، لم يكن مندرجاً ضمن ثيمة الهجرة والفراق العالمثالثيين، كما أن مقطعها الأخير، والأشهر، كونيُّ الملامح: «كل قلوب الناس جنسيتي، فلتُسقطوا عني جواز السفر».
للأسف، قلوب الناس ليست أوراقاً ثبوتية مُعترفاً بها في مديريات الهجرة، وإسقاطُ جواز السفر غير مُتاح، إذ أن هناك حاجة لستة أشهر على الأقل من الصلاحية فيه لأي «كينونة» بيروقراطية. الوعي المطابق، اللعين، مرّة أخرى.
حين انشغلت الفلسفة بالتفكير في الجسد، قيل إن تاريخ التطوّر البشري هو ذاته تاريخ محاولة الإنسان المستمرة للهروب من جسده، بمعنى أن يتغلب على حدود استطاعته اللحميّة، وأن يعيش بفضل التكنولوجيا والتقدّم العلمي أشياء وعوالم وخبرات لم يكن ليعيشها بجسده المجرّد. بالبحث عن توازٍ لهذا الكلام، نرى أن تاريخ علاقة الكثير من العالمثالثيين بجوازات سفرهم هو تاريخ محاولات الهروب منها (وهنا نسترجع «كينونة» صاحبنا في بداية النص)، أكان بالحصول على جواز سفر من دولة «نخب أول»؛ أو إقامة دائمة أو مؤقتة تتيح السفر؛ أو إمكانية تجديد التأشيرات. في حالتنا، نحن السوريون، تضاعفت الحاجة إلى ذلك مع اللجوء، وبات الحصول على أوضاع قانونية للجوء، تُخلًصنا من الحاجة لجواز سفر صالح ولتجديده عند انتهاء مدته، أكثر من مجرد حاجة نفسية، بل هي حاجة مادّية أساساً: يكلّف تجديد جواز السفر 300 دولار للانتظار العادي (شهرين أو ثلاثة) و 800 دولار للطلب العاجل (7-10 أيام)؛ يُضاف إلى ذلك ضرورة الرشوة وشراء الأدوار من السماسرة في حالة بعض القنصليات، مثل اسطنبول، وكلفة التنقّل لمن لا يعيش في العواصم، وتعطيل الأعمال والمصالح لانتظار ساعات مطوّلة على الأرصفة. السوريون لا تُشرق عليهم الشمس فقط أمام سفارات الدول التي يودّون الهجرة إليها، كما في أغنية الدومينيكاني خوان لويس غيرّا، بل تُشرق شمس الإذلال اللاهبة عليهم أمام ما يُفترض -على الورق- أنها قنصلية بلدهم.
في اسطنبول، عدا الكلفة الرسمية لجواز السفر، هناك حاجة لتخصيص ما بين 200-400 دولار لسمسار تقتصر مهمته على حجز موعد في القنصلية. ليس كلّ السماسرة سواسية، يحب الزميل صادق عبد الرحمن أن يشرح، فقد تعرّفَ هو على «سمسار آدمي» يقدّم لك النصح النزيه حول نوع الدور الذي يجب أن تحجزه حسب احتياجك البيروقراطي (جواز سفر، إخراج قيد، تسجيل ولادة.. إلخ). يستدرك الزميل العزيز دوماً هذه الإشارة للتفكير بصوت عالٍ حول واقعنا كسوريين، الذي تنفصل فيه الحاجة والمنطق عن القانون إلى درجة أنه بات لدينا «سمسار آدمي» و«مهرّب ابن حلال»، ولو عمّقنا البحث فربما سنجد «تاجر أعضاء بشرية حقّاني».
تتداول وسائل الإعلام دورياً قوائم أقوى جوازات السفر في العالم، وتتنوّع هذه القوائم بحسب معايير التصنيف المتّبعة. ما لا يتغيّر في كل هذه القوائم، عاماً بعد عام، هو أن جواز السفر السوري، الأعلى كلفةً على حامله، يقبع بفاعليته في قعر الوادي بعد جُرف نهاية التصنيف، وكأنه سيزيف مُكسّر الأضلع قد خرج للتو من الفرع 251، مهروساً تحت رأس تمثال ضخم لحافظ الأسد.