لا يتشابه ما يبحث عنه السوريون القدماء في وجوه السوريين الجدد، فلكل تجربة وماضٍ خصوصية، إلا أن السورييين القدماء عموماً في هذه المدينة يشتركون في شيء: خيبتهم حين تحدق عيونهم الهائمة في وجه السوري القادم بعد 2011. في كثير من الأحيان، تحكم قصتُهُم الأولى علاقتَهم معه، قصة خروجهم الأول من سوريا ومدى قسوته وما تركه من ندب على الروح. ما يتشارك به الجميع على السواء، قدماء وجدد، هو ارتباكهم في تعريف سوريتهم ضمن الحيّز العام، مع بعضهم وفي عيون الآخر الغريب، بعيداً عن سوريا وعن مدنهم الأولى، ولا تبدو القضية السياسية كافية لتعريف كهذا. والقدماء هم من ابتعدوا منذ عقود عن سوريا، عرفوها بما يكفي قبل الثمانينات، وامتحنوا البلاد الأوروبية بما يكفي. أما الجدد فهم شباب أو أقل شباباً، عاشوا معظم أعمارهم في سوريا حتى 2011. القدامى يُجيدون الكثير في أوروبا، وقد عرفوها في حقبٍ أكثر ازدهاراً وأقلّ شحاً مما هي عليه الآن، درسوا وعملوا فيها، فيما الجدد يصارعون ليمسكوا بخيط استقرار في أوروبا شحيحة وأكثر فأكثر عداءً، في بلاد يمكن العيش فيها سنوات دون الاضطرار إلى إتقان لغتها، كما هي سمة العالم على العموم، نعيش فيه كطحالب خفيفة دون جذور، سريعة التنقل، أو كأكياس نايلون خفيفة الطيران والرمي. «الشأسمة» العجيبة الغريبة – «الشِسمَه» كائن ناتج عن تجميع أشلاء وأعضاء ضحايا كثيرين، خلقه أحمد سعداوي في فرانكشتاين في بغداد-، التي عُجِنا بها هي نحن. قد تشبه أعمال فرانسيس بيكون بتنافرها، رغم رائحة قمر الدين وحلاوة الجبن الأثيرية المنبعثة من اجتماعاتنا، ولكنها نحن.
يتجنب «رافع» السوريينَ والمناسبات التي تجمعهم، والوافدينَ منهم من زمن ليس ببعيد، كمن يتجنب أسباب الأنفلونزا، وهو المنحاز للانتفاضة منذ انطلاق شرارتها الأولى. بالمناسبة، هو صادقٌ جداً في انحيازه، صادقٌ إلى درجة أنه كرَّسَ جُلَّ طاقته وعمله وإنتاجه لموضوع الانتفاضة الشعبية، ثورة الكرامة في سوريا. المشكلة أن الوافدين الجدد يحيلون إلى اللجوء وضحايا اللجوء، وهي مواضيع لا تليق بتلك الانتفاضة الكريمة، ولا يليق به بطبيعة الحال أن يقترب مما يشوه صورة تلك الملحمة في مخياله، وربما ما يشوه صورة سوريا متخيلة طوباوية ليست موجودة إلا في ذهنه، صورة عن السوري العادي القبضاي الشجاع ابن البلد، «العادي» لكن الكريم، المُترفّع عن الوضاعة، «العادي» ولكن الذي يُرضي حاجات «رافع» الهوياتية في علاقته مع بلادنا. الاقترابُ أكثر يعني احتراق تلك الأوهام، ومواجهة سماجة وغلاظة إنسان سوري عادي، عادي بدون مزدوجات هذه المرة. «رافع» لا يحتمل أن يُذكّره السوري المُستجدّ بما طرأ على البلد من أحداث جديدة وأكثر جدة، لا يحتمل أن يرى أثر الاستبداد المديد على «كاركتر» السوري من مواليد الثمانينات، أي بعد خروجه هو من سوريا، أو من مواليد أكثر شباباً. توقُ «رافع» إلى السوري الكريم المُتخيّل لا يعادله قوةً سوى ألمه المتعلق بذاته وبعلاقته التي يريدها نديّة مع هذا المكان الأوروبي، والسوريُ الوافدُ هو مرآة قاسية تعكس ذلك الألم، خاصة إن لم يكن في أدائه المعيشي واللغوي والتحصيلي على قد المقام. والوافدُ الجديدُ قاسٍ لأنه يُقرّبُ ما ابتعدَ عنه رافع، الوافدُ الجديدُ شديد القسوة لأنه يحتّم أن نبتعد مرة أخرى عن الفضاء الذي بات يذكر بإلحاح بسوريا. كثيرون، أفراداً وجمعيات سورية، يرفضون أن يكون اللجوء واللاجئون ثيمة معلنة للعمل، أو لـ«إفِنت» أو محاضرة. اللجوء يلطخ أناقة الثورة المتخيلة. أدب اللجوء، أو الأدب بصفته سورياً، ينبغي أن يُحتقَرَ لأنه يؤطر الأدبَ والكونيَّ من الأدب، وقد يضع على قدم المساواة ذوي الذائقة الرفيعة المتعوب عليها أمثال «رافع» مع سواه من المشتغلين بالفن والأدب والشعر، لذا تهفو نفسه نحو مرجعيات وأسماء أجنبية أكثر فأكثر، في ذلك ما يشبه وسادة الأمان، منعاً من أن يهبط ويتكسّر على أرضية قاسية. ينسى أصحاب الذوق الرفيع أحياناً أن سوريا المسكينة الخيّرة كانت في السنوات الأخيرة زاداً لجميع المشتغلين بالثقافة دون استثناء، شاؤوا أم ترفّعوا. تلك العلاقة السرابية بسوريا هائلةُ العنف في الحقيقة. أن تنزع شرعية وسحر ما بين يديك، لتظلَّ تُلاحِقَ الأبعد، هو تكرار للعبة نزع الشرعية التي عرفها كل سوري في ظل نظام سياسي لئيم يبث القيح والقرف من الذات ومن النظير، من السوري الآخر، في نفس كل فرد. وكأن «الآخرية» التي نَعرِفُ بواسطتها ذواتنا هي في حالتنا أنفُسُنا، في شطط شبه فصامي. السوريّة التي ينبغي أن نلاحقها دون الإطباق عليها خوفاً من الخيبة والانكسار، تجعل «رافع» مُتطلّباً في كل شيء، من نفسه ومن الآخرين، من سوريّته ومن سوريّتهم، حتى وجد نفسه في النهاية وحيداً. وحيداً تماماً. هل سنجد أنفسنا بعد عشرين عاماً في منافينا أسيرين، مثل «رافع»، لسوريا طوباوية غير موجودة؟
تُصرُّ «عفاف» من جهة مقابلة ألا ترى في اللاجئين، وهي التي أصبحت قبل ثلاثة عقود لاجئة، إلا ضحايا لا يمكن أن يتجاوزوا شرطهم كضحايا. تُصرّ أن تعتبر كل سوري عاش في ظل النظام السوري خلال العقود الماضية، بالتعريف، منهكاً، مضطهداً، غير متعلم، غير حاصل عل أي مكتسب فكري أو ثقافي، ولم يحصل كذلك على أي مكتسب اجتماعي و اقتصادي، معتّر، جائع… إلخ. وهي لا تقبل دعوات اللاجئين إلى الطعام أو السهرات بسهولة، فهم لاجئون ولا ينبغي أن نُثقلهم بما لا حمل لهم به، وبالمناسبة هي صادقةٌ في تعاطفها الشديد مع لاجئي بلدها الأم، سوريا، ولا توفر أي عون تستطيعه لتساعدهم، ولكنها تُدهَش إن رأت لاجئاً يتقن لغة البلد المضيف مسبقاً؛ كيف يمكن أن يتحصَّلَ سوريٌّ على علم عالٍ إن لم يكن يستند على واسطة في سوريا الأسد؟ كيف يمكن لسوري آخر أن يخرج ويدخل إلى سوريا دون مشاكل أمنية؟ لا بدَّ أنه مهادن للنظام، إن لم نقل حليفه ومناصره. كيف يمكن أن تكون سوريا أثناء غيابها الطويل إلا سوريا الأسد، إن لم يكن الأمر هكذا فهو شديد القسوة، ولن يُبرِّرَ خيارها بالخروج من سوريا قبل ثلاثين عاماً، هي التي خسرت وطناً. هؤلاء القدامى المريرون من المنفيين السوريين متواطئون مع النظام الأسدي في مقولته عن «سوريا الأسد» ورغبته في «سوريا متجانسة» من حيث لا يدرون. ما زلتُ مصدومة من جلسة حوارية دارت في المدينة الأوروبية عينها، على إثر سقوط الغوطة الشرقية عام 2018، ذُكر أثناءها أن من بقي في الغوطة وسوريا على العموم، ما عدا إدلب، هم الأقليات ومناصرو الأسد! في تلك الجلسة لم يعترض أحد من السوريين القدامى على هذه المقولة. سوريا التي نعترض على رؤيتها في عيون المستشرق كبطاقة بريدية لتدمر، يجر فيها السوري حبل الجمل للسائحة الأوروبية، هي بالضبط كذلك في عيون أبنائها من حيث لا يدرون، في عيون «رافع» و«عفاف» على حد سواء، رغم اختلاف المناظير والتجربة. سكّانُ سوريا بدينامياتهم المختلفة والمتصارعة، بشجاعتهم وجبنهم، وأحياناً بخستهم، بمحاولاتهم الجبارة للمقاومة على طريقتهم رغم الكابوس الذي ما يزال قابعاً في دمشق، هؤلاء السوريون غير مرئيين في الحقيقة، هم أقليات دينية وطائفية أو مناصرون للأسد. كانت لحظة 2011 لحظة خرق هائلة في نظرة كل من «رافع» و«عفاف» عن أبناء بلدهما، مجّدها «رافع» ولا يريد أن يرى غيرها، وعادت «عفاف» إلى ما اعتادت عليه، لتخفف من حزنها على فقدها النهائي لبلدها بعد انكسار الانتفاضة الشعبية.
«همسة» امرأة دمثة ولطيفة وعلى خلق عالٍ، تدرس العربية في المدينة عينها، تعرَّفَت على سوريين من لاجئي المناطق الشرقية من فترة قريبة، وذُهلت من «ترتيبهم»، «على الرغم» من أنهم لاجئون. أول مرة ترى «همسة» هذ العدد من أبناء المنطقة الشرقية، أو من اللاجئين السوريين كي لا نسيء النيّة، ربما كانت تتحايل على كل ذلك كي لا تتمعَّنَ في هول المأساة؟
«محمد» فنانٌ استقرَّ في المدينة قبل فترة وجيزة من عام 2011، واجتهد ليخط طريقاً فنياً ما في هذا البلد الصعب. بعد موجة اللاجئين التي تبعت عام 2011، بدأ يتذمر من التسهيلات التي تُقدَّمُ للاجئين، ومن تسليط الأضواء على السوريين، وهو الذي كان يؤدي دور بقعة الضوء في سيرك هؤلاء الأجانب. مضمون الأداء اختلف ويتطلب شيئاً آخر لا يريده، يتطلب «هوية» سورية أخرى متعبة جداً. اليوم، الناس هنا في مدينتنا ملّوا وتعبوا من ثيمة اللجوء واللاجئين، ومن أن الكلَّ يتحدث عنهم، ربما سيهدأ روع محمد، حتى «يجوهر» فنّه دون تهافت يحاكي تهافت اللاجئين؟
في مساري «همسة» و«محمد»، الاستقرار في البلد الجديد تطلَّبَ اجتهاداً وخلفيات وأدوات اجتماعية واقتصادية غير ميّسرة لكل السوريين، وأن يصل الآن الكثير منهم دون الاستناد إلى كل تلك العدة، فيه ما يُخلَّ ببارومترات التمايز الاجتماعي، الرياضة الوطنية الجامعة لعموم السوريين، يتقنونها مبكراً ولهم عيون ثاقبة لسبر الطقوس والإشارات في التمايز، عيون تخترق «الصداري» المدرسية و«بدلات الفتوة»، الموحدة لترى ما وراءها من عُزوة. تشتدُّ فاعلية التمايز الاجتماعي وطقوسه وإشاراته في المنفى، والدالّات كثيرة: الأقدمية في البلد الجديد، والعلاقة مع الآخر، وطبيعة العمل والإلمام والاهتمام بسياسية البلد الحالي، الأمر الذي يعني فيما يعنيه اندماجاً لغوياً، والتمتع بحق التصويت، أي جنسية قوية وجواز سفر جديد، مقتدر وقد المقام. والتمايز كذلك هو خلفية الفرد في سوريا، ليست الخلفية الاجتماعية والعائلية فحسب، ولكن أيضاً درجة التسييس والعلاقة بالشأن العام والدوائر والحقول التي كان يدور بها الشأن العام. وقد تتعلق تفاصيل التمايز أحياناً بمن وصل بحراً ومن وصل جواً إلى أوروبا، والقيمة تختلف بين الحالتين بحسب المقام، قد تكون القيمة للبحر حين تكون المعاناة هي القيمة، وقد يكون الجو هو القيمة حين يصبح المقامُ مقالَ المال والاقتدار.
يحرص «عارف»، الشاب الناشط الذي غادر سوريا عام 2014، بأن يُشعِر قدامى السوريين المستقرين في مدينتنا الأوروبية بأنه غير مكترث لكل ما يمثلونه في الحيز العام، فقيمته التي استمدها مما انسكب عليه رعباً وحصاراً وموتاً وبراميلاً لا يمكن لأحد أن يشاركه إياها. النرجسية المتولدة من الاختلاء مع الفظيع مرعبة. لا يجد «عارف» أن هناك نقاطاً مشتركة يناقشها مع الآخرين، ويشعر أيضاً أن تجربته أعطته سلفة طويلة الأمد في المستقبل من حق الإلمام بالحقيقة كاملة، فالفظيع الذي عايشه في المعتقل مثلاً لا يمكن للغة أن تصوغه، إلا مع بعض الأشخاص الذين ذاقوه مثله. من ذاقَ عَرَف. و«عارف» ملول، يملُّ الأحاديث بسرعة ويملُّ الحب ويملُّ الحياة الباهتة التي يعيشها الناس: عمل ومواصلات وأوراق وتعلم لغة… ألوان مائية باستيلية بلا طعم بالنسبة لما عايشه من صخب، حياته الجديدة لا ترفع مستوى الأدرينالين في الدم. مفهومٌ تماماً أن يعتبر «عارف» أن التاريخ الحديث لسوريا بدأ في عام 2011، هو الذي فقد جلّ أصدقائه في الحرب، ومفهومٌ أن يمعن في ترفّعه عمّا يمثله الجيل القديم السوري من المنفيين الأوائل لنظام الأسد، كل قيمة يمثلونها سياسية أو شخصية، فالتجربة الحزبية والسياسية لهؤلاء تجربة سياحية «لايت» نظراً للبراميل التي عاشها هو. شيءٌ واحد لا يملّه، هو الانتقال المستمر من محاضرة إلى أخرى ليحكي عن تجربته.
تسمع «فاتن» أن مدير المعهد العالي للموسيقا والفنون المسرحية في دمشق اقتلع الأشجار المعمرة المحيطة بالمعهد عند ساحة الأمويين، لترك المكان لمقهى استثماري أو ما شابه، فتعلّقُ بعفوية: «يالله… بعد ما طلعنا من البلد انشالله يصير فيها أكثر وأكثر». تتحسّرُ «هادية» على مغادرة الشباب الناشطين والفنانين لسوريا، فالقيمة هناك، القيمة الفنية والسياسية. «هادية» لجأت إلى هذا البلد الأوروبي قبل أربعين عاماً. الكل ينتقد الكل في مسعى محموم لتعريف الذات، وأنا؟ أحاول أن أنهي هذه الخاطرة عن السوريين في مهاجرهم، فانتبهتُ أن النصَّ مليء بالمزدوجات، تشبه ما يفعله إعلام النظام حين يقول «ما يدعى كذا». تتسلل إلى «شأسمتنا» عناصر دخيلة. تباً. من نحن؟