أظهر سوريون كثر، من توجهات إسلامية على وجه الخصوص، غضباً عدوانياً جارفاً تجاه كل سوري أعلن ارتياحه أو سروره بنتائج جولة إعادة انتخاب رئيس بلدية اسطنبول، التي فاز فيها أكرم إماموغلو مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، على حساب بن علي يلديرم مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.
وقد استخدم هؤلاء الغاضبون عتاداً خطابياً متنوعاً، حضرت فيه الاتهامات بخيانة الثورة السورية، بالاستناد إلى مقولة أن أردوغان وحزبه هم حلفاء الثورة الوحيدون في تركيا؛ وحضرت فيه الاتهامات بالكفر والإلحاد و«العلمانجية»، بالاستناد إلى مقولة أن أردوغان وحزبه تيار إسلامي، وبالتالي فإن جميع الانتقادات الموجهة له تنطلق بالضرورة من موقع كاره للقوى الإسلامية؛ وحضرت فيه الاتهامات بنكران الجميل، باعتبار أن أردوغان هو من استقبل ملايين السوريين في تركيا، ويقتضي الوفاءُ الوقوفَ إلى جانبه.
لكن من أكثر الأفكار حضوراً في قلب هذا الغضب، كانت الفكرة التي تقول إن خسارة أردوغان وحزبه للانتخابات دليلٌ على أنه حاكم ديمقراطي، رداً على كل اتهام له بأنه صاحب توجهات تسلطية أو دكتاتورية. ذلك أنه، بحسب أصحاب هذه الفكرة، لا يخسر الحكام التسلطيون الانتخابات، بل يمنعون إجراءها أصلاً، أو يزوّرونها إن أُجريت. وقد استخدم كثيرون هذه الفكرة بنبرة ساخرة، معتبرين أنهم يفضحون تناقضاً في خطاب خصومهم، وأنهم يكشفون عبر هذا التناقض عن دوافع أخرى، غير الانحياز للديمقراطية، في مواقف الفرحين بهزيمة مُرشّح العدالة والتنمية.
ولكن هل يخسر حكام تسلطيون الانتخابات؟ الجواب ببساطة هو نعم، بل أكثر من ذلك، إن فكرة تداول السلطة عبر الانتخابات وُجدت أصلاً لمواجهة الحكام التسلطيين والتيارات ذات التوجهات التسلطية؛ هذا مبرر وجودها، أنها أداةٌ تُستخدم من أجل لجم مطامح الديكتاتوريين وأصحاب المشاريع الاستبدادية، وإعطاء الشعب إمكانية إزاحتهم عن السلطة دون اللجوء إلى العنف وسفك الدماء.
ولا يخسر الحكام التسلطيون الانتخابات فقط، لكنهم يربحونها في أحيان كثيرة، دون أن ينفي هذا عنهم صفة التسلط والديكتاتورية. ولدينا أمثلة فاقعة على أشخاص معادين للديمقراطية، وصلوا إلى السلطة عبر انتخابات لم يتحدث عن تزويرها أحد، من بينهم من نجح بعد انتخابه في قيادة تراجع هائل عن كل ملامح الديمقراطية في بلاده، مثل فلاديمير بوتين، ومن بينهم آخرون لا تخفى ميولهم التسلطية على أحد، لكن تقاليد الديمقراطية راسخةٌ في بلادهم بحيث يُستبعد أن يتمكنوا من النيل منها والاستئثار بالسلطة، مثل دونالد ترامب.
خلاصة هذا الكلام، أن خسارة زعيم للانتخابات في بلده لا تصلح في ذاتها دليلاً لنفي الاتهام بالتسلطية عنه، لكن استكمال هذا النقاش غير ممكن دون التمييز بين الديمقراطية باعتبارها صفة لأنظمة حكم، وبين الديمقراطية باعتبارها توجهاً لدى أفراد أو تيارات سياسية. فعندما تكون الديمقراطية وصفاً لنظام حكم، يكون المقصود أن هذا النظام يقوم على التداول السلمي للسلطة عبر الاحتكام لصناديق الاقتراع، وعلى ضمان حرية الاعتقاد والتعبير والعمل السياسي بشكل متساوٍ لجميع المواطنين، باعتبار أن هذه الحرية هي الضمانة الوحيدة لنزاهة الانتخابات.
وكما تختلف الأنظمة التسلطية عن بعضها بعضاً بحسب أساليب ومقادير العنف والترهيب التي تستعملها للبقاء في الحكم، وبحسب الفئة التي تمسك بالسلطة والأسس النظرية التي تبني عليها حكمها، كذلك تختلف الأنظمة الديمقراطية عن بعضها بعضاً بحسب مقادير الحرية والمساواة التي تتيحها لمحكوميها. وفي كل الأحوال، يبرز دائماً سياسيون من أصحاب التوجهات الديمقراطية، فينجحون أو يفشلون أو يذهبون إلى السجون أو يتم قتلهم، ويبرز سياسيون من أصحاب التوجهات التسلطية، فينجحون أو يفشلون، يفشلون عبر الانتخابات فقط عندما تحتفظ آليات الديمقراطية الإجرائية بفعاليتها.
في الأنظمة الديمقراطية، تتصارع التيارات السياسية على السلطة سلمياً، وليس ثمة ضمانات بأن لا يتمكن تسلطيون من إقناع أكثر من نصف الناخبين بالتصويت لهم، ولأن التسلطيين يسعون غالباً إلى تأبيد سلطتهم، فإن ما يتكفل بلجم مساعيهم تلك هو النظام الديمقراطي نفسه، وليس أهواء هؤلاء التسلطيين وآراؤهم وآراء شركائهم الشخصية.
باستخدام ما تتيحه الدساتير من آليات لتعديل القوانين، وتعديل الدساتير نفسها، وباستخدام التجييش والتحريض ووسائل الإعلام وشبكات العلاقات الاقتصادية، يسعى تسلطيون في أنظمة ديمقراطية كثيرة إلى الاستئثار بالسلطة تدريجياً، فيحدث أن يتمكن المجتمع من إيقافهم عبر الآليات الدستورية والديمقراطية السلمية، ويحدث أن لا يتمكن، لتنفتح البلاد بعدها على جولات من العنف، أو يتواصل مسار التراجع عن الديمقراطية، وصولاً إلى نظام حكم استبدادي.
وبالعودة إلى المثال التركي، يبدو واضحاً أن ثمة مساراً مديداً من التراجع عن الديمقراطية، تدلّ عليه علامات كثيرة أبرزها التضييق على حرية الصحافة وتداول المعلومات، والاعتقالات والمحاكمات السياسية التي طالت عشرات الصحفيين والحقوقيين والنشطاء والسياسيين، والتعديلات الدستورية التي أفضت إلى تركيز معظم السلطات في يد رئيس الجمهورية. لكن هذا المسار يتعثر اليوم على يد ناخبين أتراك اختاروا أن يقفوا في وجهه عبر صناديق الاقتراع، وهو ما لا يمكن أن يكون إلا مثاراً للارتياح بالنسبة للديمقراطيين الرافضين للسلطوية من أي نوع.
أما عن بقية العتاد الخطابي الذي استخدمه سوريون يدافعون بشراسة عن الرئيس التركي، فإن النقاش حوله يطول جداً، لكن ثمة ملاحظة لا يمكن أن تخطئها العين فيه، وهي أن الديمقراطية بالنسبة لأغلب أصحابه صناديق اقتراع فقط، أما حرية الاعتقاد والقول فهي خارج المعادلة بالنسبة لهم. ولكن ما الذي تعنيه صناديق الاقتراع دون حرية الاعتقاد والقول؟ لا شيء طبعاً، مجرد ديكور مبتذل ينتهي إلى أن يكون أشبه باحتفالات تجديد البيعة للقائد الرمز.