كانت سوريا من أوائل الدول العربية التي دخلت إليها العروض السينمائية وأُقيمت فيها دُورُ عرض، حيث شهدت مدينة حلب في العام 1908 أول عرض سينمائي في البلاد. عندها دخل مجموعة من الأجانب، لا تُعرف جنسيّاتهم على وجه الدّقة، إلى الشمال السوري عن طريق تركيا، وعرضوا ما قال الحلبيّون عنها «صور متحرّكة عجيبة بواسطة آلة متنقّلة تتحرك فيها الصور أفقياً». وكانت هذه الصور عبارةً عن فيلم جرى تصويره وإنتاجه في ألمانيا. غير أنّ البداية الفعلية للعروض المنتظمة كانت في العام 1912 في دمشق، داخل مقهىً يستثمره حبيب الشمّاس قريباً من ساحة المرجة اسمه «زهرة دمشق»، في موضع بناء فندق سمير فيما بعد. كان الضوء حينها يتولّد من مصباح يعمل بغاز الإستيلين، وكثيراً ما كانت تحدث حرائق بسبب بدائية الأدوات المستخدمة في العرض، وعدم توافرها على الشروط الوقائية التي تمنع مثل هذه الحوادث، كما أنّ أشرطة الأفلام كانت تحتوي على مواد سريعة الاحتراق.
بحلول العام 1916، وبرغم ظروف الحرب العالمية الأولى، بَنَتِ الدولة العثمانية صالة لعرض الصور المتحركة في شارع الصالحية بدمشق، وأسمتها سينما «جناق قلعة»؛ تخليداً لذكرى انتصارها على الأسطول البريطاني في مضيق جناق قلعة الذي يصل البحر المتوسط ببحر مرمرة. وكانت هذه السينما مبنيّة على الطراز الأوروبي، بيد أنّها احترقت بعد شهر واحد من بداية العمل فيها للأسباب نفسها التي أدّت لاحتراق سينما مقهى الشمّاس.
أما في حلب، فقد تأسّست سينما الكوزموغراف عام 1914، ثم تلاها افتتاح سينما الترقي، التي تحول اسمها لاحقاً إلى «الاتحاد والترقي» بعد مصادرة الدول العثمانية لها. كما تبِعَ ذلك في العام 1918 افتتاح سينما «باتيه»، والتي كان مصيرها الحريق أيضاً. بعدها توالى تِباعاً وعلى نحوٍ متسارع افتتاحُ دور العرض السينمائية بفعل تطوّر الأدوات المستوردة والتخلص من عقدة الحريق التي أرّقت المستثمرين في هذا القطاع التجاري الناشئ، حتى بلغ عدد دور السينما في سوريا قرابة 56 داراً خلال ستينات القرن المنصرم.
أمّا مستوردو الأفلام فلم يكن عددهم يتجاوز الخمسة في الفترة ذاتها، وكانوا يستوردون ما يقرب من 450 فيلماً طويلاً، ثلثاها من إنتاج هوليوود، ثم تأتي الأفلام المصرية والأوروبية مجتمعةً لتمثّل الثلث المتبقي.
شهد العام 1963 انعطافةً في حياة السينما السورية بعد انقلاب البعث، حيث أُطلقت المؤسسة العامة للسينما بهدف «توجيه الإنتاج السينمائي في خدمة الثقافة والعلم والقضايا القومية»، كما صدر مرسوم يقضي بحصر استيراد وتوزيع الأفلام بهذه المؤسسة «من أجل الوصول إلى سينما جادّة ونظيفة». ونتيجةً لذلك توجّه المستوردون من القطاع الخاص وأصحاب دور السينما إلى إنتاج وتمويل أفلام سينمائية سورية، في خطوة اعتراضية على حرمانهم من الاستيراد، وكذلك من أجل خلق بدائل للأفلام التي يستوردها البعث.
لم ينل تاريخ نشوء دُور العرض السينمائية في سوريا وطبيعتُها وآليةُ عملها وملّاكُها وجمهورُ العاملين فيها ومرتادوها اهتماماً كبيراً من الدولة أو الباحثين والكتّاب، حتّى أنّ معظم هذه الدور انقرضت بعد سنينَ أو عقودٍ من العمل دون أيّ عملٍ توثيقي يؤرّخ لها أو يصوّرها. وقد بات اليوم عملٌ كهذا، رغم ضرورته، يحتاج جهوداً كبيرة، لا سيّما بعد رحيل كثير من الذين عايشوها، ونُدرة المراجع المكتوبة التي تُعين على عملية البحث.
المهمّة تزداد تعقيداً حين نحاول الحفر في تاريخ دُور السينما في مناطق شرق سوريا، إذ لم تحظَ هذه المنطقة بالدراسة على مختلف الصعد لأسباب عديدة: منها بعدها عن الحواضر المدينية، وتراجع حضورها وتأثيرها في المشهد السوري، فضلاً عن قلة اهتمام السلطات والباحثين بها. لذلك نقصد من هذا النص تسليط الضوء على سينما القاهرة في مدينة الميادين، كمحاولة أولى لكتابة تاريخها، دون أن تتوافر لدينا أيّ مراجع تُعيننا على ذلك. إنّما سعينا إلى إجراء عدد من المقابلات مع أشخاص من المدينة، وحاولنا معهم استجداء الذاكرة بهدف جمع أكبرِ قدْرٍ من المعلومات عن هذا المكان ومقاطعتها للوصول إلى نتائج معقولة. ونحن على يقين أنّ ما نقدمه هنا يحتاج البناء عليه وإثراءه بشهادات أخرى تعطي صورةً أدقّ عن هذه السينما، مع إدراكنا لصعوبة ذلك في ظلّ نزوح جلّ أهالي المدينة وتبعثرهم الجغرافي وعدم القدرة على التوصّل إلى أماكن إقامتهم أو التواصل معهم.
سينما فؤاد
في مطلع الخمسينات من القرن المنصرم، وعلى الضفة الغربية لنهر الفرات، أُنشِئت دار السينما الأولى والوحيدة في الميادين، الواقعة على بعد 45 كيلومتراً جنوب شرق مدينة دير الزور. لم نتمكّن من تعيين تاريخ دقيق لبداية عمل السينما، لكن غالباً ما ربط الشهود الذين تحدّثنا إليهم تلك الفترة بأحداث مفصلية من حياتهم بقصد الوصول إلى تاريخ تقريبي، فاستقرّ أغلبهم على أنّها افتُتحت بين عامي 1952-1953. يقول العم أبو القاسم: «أتذكّر أنّ أخي الأكبر كان عسكرياً في الخدمة الإلزامية، ونتيجة إتقانه للكتابة قضى خدمته في الميادين نفسها ككاتب بدءاً من العام 1952، وقد ذهب لحضور فيلم في السينما من بطولة أسمهان، رفقة قائمّقام الميادين الذي ينحدر من جبل العرب، وكان ذلك في بداية عمل السينما. وحدثت مشكلة بين أحد الحضور المخمورين والقائمّقام عندما أقدم المخمور على التغزّل بأسمهان ومن ثمّ شتمها، وما زلت أتذكّر الحادثة التي رواها لي أخي وغالباً كانت أواخر العام 1952».
يُجمع من تحدّثنا إليهم على أنّ ملكية العقار الذي بُنيت عليه السينما بجانب الحديقة العامة بالمدينة تعود للحاج شاهر الفريح، وقد تحوّل اليوم إلى محالَّ وشُقَقٍ سكنية، غير أنّ المستثمرين الذين بنَوا السينما وجلبوا أدواتِها وشغّلوها بدايةً هم آل لولي، بحسب ما يقوله أبو القاسم، وهم أسرة مسيحيّة من مدينة دير الزور. وقد أطلقوا عليها اسم سينما فؤاد نسبةً إلى فؤاد لولي، وكان لهذه الأسرة عدد من دور العرض السينمائية في منطقة الجزيرة، منها سينما دمشق في الحسكة التي كان يديرها شفيق لولي، فضلاً عن سينمات للعائلة نفسها في كل من دير الزور والقامشلي والبوكمال وربّما في مناطق أخرى.
بقيت السينما مملوكةً لآل لولي حتّى نهاية ستينات القرن الماضي، بحسب أبو القاسم، إلى أن باعوها لأحد رجال الأعمال من مدينة دير الزور اسمه عبد الرزاق العايش، المعروف في المحافظة باسم الحاج رزّوگ، والذي كان يملك الكثير من المقاهي والمقاصف والمطاعم ودور السينما، بالإضافة إلى استثمارات أخرى متنوّعة داخل دير الزور وخارجها. وكان الحاج رزّوگ يُوْكِل مهمّة تشغيل السينما إلى موظّفين من أبناء الميادين، والبعض منهم عمل فيها لعقود حتّى ارتبط اسمهم بها. كما قام رزّوگ عند شرائه للسينما بإجراء توسِعة وتصليحات، خصوصاً في القسم الشتوي منها، كما غيّر اسمها ليصبح «سينما القاهرة».
سينما القاهرة
استطعنا الوصول إلى تصوّر نسبي للسينما عن طريق المهندس غسان عليوي الذي عايش السينما في مرحلة مبكّرة من شبابه، وكذلك من خلال السيد أكرم عيد الذي عمل فيها منذ عام 1967 وحتى 1979، وكانت السينما مؤلّفة من قسمين؛ شتوي وصيفي.
القسم الشتوي يتألف من صالة وطابق ثانٍ هو البلكون (كان يُطلق عليه أهل المدينة اسم لوج بدلاً من بلكون). يبلغ عرض الصالة 15 متراً، أمّا طولها فيتراوح بين 40 و50 متراً، يشغل منها البلكون مساحة تقارب الثلث، ويحتوي على عشرة صفوف من الكراسي. يقول غسان عليوي: «كانت الكراسي معقولة من حيث الجودة وقابلة للطي، كما كانت تحمل أرقاماً حتّى يجلس كل شخص على الكرسي المخصص له بموجب الرقم المدوَّن على تذكرته، وكان يرافق العاملُ في السينما الواصلين بعد إطفاء الأنوار إلى الصالة ليدُلَّهم على مقاعدهم بواسطة مصباح كهربائي صغير، ولم تكن الصالة مجهّزة بمعدّات للتبريد، ولكن رغم أن الحرارة مرتفعة في الميادين والجلوس في السينما كان لا يُحتمل خلال فترة الانتقال من فصل الشتاء لفصل الصيف، إلا أن الناس كانوا يذهبون إليها في ذلك الزمان».
أمّا القسم الصيفي فقد كان في الهواء الطلق، ويتألّف من قسمين أيضاً: فسحة سماوية طولها 20 متراً وعرضها 15 متراً، يُطلّ عليها قسمٌ ثانٍ هو السطح، وقد اختلفت طبيعة الكراسيّ فيها مع مرور الزمن، فهي حيناً كراسيُّ من القش منفصلةٌ عن بعضها، أو مقاعد من الصاج متصلة ببعضها كما هو الحال داخل القسم الشتوي. كذلك يختزن رعد الرحبي في ذاكرته مشهداً لأماكن الجلوس في الصالة الصيفية من السينما حين كانت عبارة عن مصطبات إسمنتية.
ويتذكّر أكرم عيد أنّ القسم الأرضي من الصالة الصيفية «يتّسع لـ200 كرسيّ من القش، فيما يستوعب السطح 50 كرسيّاً». ويرى آخرون تحدّثنا إليهم أنّ القدرة الاستيعابية قد تكون أقل من ذلك. وفضلاً عن القسمين الصيفي والشتوي، كانت السينما تحتوي على شبّاك للتذاكر وغرفة للمَبيت.
الأفلام المعروضة والتسعيرة وأوقات العرض
يقول أكرم عيد إنّ السينما «عرضت جميع الأفلام العربية والأجنبية التي كانت تصل إلى دمشق من مختلف التصنيفات، حيث كانت تُرسل إلى دير الزور في أكياس يحوي كلّ واحد منها خمسة أفلام، هي أشرطة دائرية أشبه بالبَكَرات المغلّفة بصحن، وجميع هذه الأفلام كانت بالأبيض والأسود، فلم تكن السينما حتى تاريخ إغلاقها تعرض أفلاماً ملوّنة، ومن أهم الأفلام التي ما تزال في ذاكرتي السلام والحرب، وZ الذي كان من أبرز الأفلام السياسية، بالإضافة إلى أفلام عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش».
سألنا باقي الشهود الذين تحدّثنا إليهم عن الأفلام التي ما زالوا يتذكرون أنّهم حضروها، وكانت الإجابات بأسماء الأبطال لا بعناوين الأفلام، وأبرزها أفلام كمال الشناوي وفريد شوقي وأم كلثوم وأسمهان وإسماعيل ياسين وطرزان ومارلين مونرو وشارلي شابلن، وكذلك أفلام هندية وأجنبية ومصرية كثيرة لا تحتفظ الذاكرة بعناوينها أو أسماء أبطالها على وجه الدقة.
ويروي العم أبو القاسم أنّه بعد العام 1959، حين جرى لأوّل مرّة عرض الفيلم المصري حسن ونعيمة، من بطولة سعاد حسني ومحرم فؤاد، كان موظف السينما المتأثّر بالفيلم ينادي بالواقفين على شباك التذاكر أنّ من كان اسمه حسن واسم زوجته نعيمة فدخولهما مجاني. إلا أنّ العم أبو القاسم يَعيب على السينما حينها غياب الأفلام التي وصفها بـ«الجادّة والملتزمة»، واقتصارَها على الأفلام الاستعراضية والراقصة والغنائية، على الرغم من أهميّتها.
أمّا أوقات العرض فقد كانت تُقسم إلى فترتين أو حفلتين كما يسميها أهل البلد؛ واحدة عند العصر وثانية عند المغرب، في حين تتواصل العروض دون انقطاع بدءاً من التاسعة صباحاً وحتى الثانية عشر ليلاً في أيام الأعياد.
وبالنسبة لتعرفة الدخول فقد اختلفت مع مرور الزمن وتغيُّر القوّة الشرائية لليرة، حيث بدأت عند 5 فرنكات، ثمّ ارتفعت إلى 7 فرنكات، ومن ثمّ نصف ليرة وانتهت عند 12 فرنكاً، في حين كانت تسعيرة البلكون في القسم الشتوي دوماً أعلى بفرنكين من التسعيرة العادية في حال لم يكن البلكون مخصّصاً للنساء. وهي مبالغ كانت بمتناول الجميع حينها، كما يقول الشهود، لذا لم يكن يترتب على ذلك عناء مادّي كبير يحول دخول السينما حتّى بالنسبة للأطفال.
وكان بعض الناس ينتظرون إلى حين الانتهاء من «المناظر» التي تُعرض في بداية كل فيلم، وهي عبارة عن مقاطع ترويجية لأفلام أخرى، حتّى يدخلوا؛ وبذلك يقلّ سعر التذكرة بمقدار فرنكين. كما يمكن الدخول إلى السينما في أيّ وقت من ساعات العرض، حيث تنخفض القيمة كلّما مرّ وقت أطول على بداية الفيلم.
الأمر الظريف في سينما القاهرة أنّ البعض حتى يكون بِوُسعِهِم الجلوس أينما يريدون لمشاهدة العرض، أو حين تكون الصالة ممتلئة ويتعذّر عليهم إيجاد مقاعد فارغة، كانوا يجلبون معهم «تنكة» يجلسون عليها. فكان يسأل قاطع التذاكر الزبون «تنكتك!؟»، فُيجيب «والمة» أي موجودة. ويروي العم أبو القاسم ضاحكاً أنّ أهل مدينة دير الزور كانوا يتندّرون بتلك العبارة على أهل الميادين، كما يستفيد أصحاب التنَكات من تسعيرة مخفّضة، مقدارها «جيكية» على أكثر تقدير، والجيكية لفظ كان يُطلق على فئة الربع ليرة.
جمهور السينما
لعلّ هذه هي النقطة الخلافية الأبرز بين جميع من تحدّثنا إليهم، ويبدو مردّ ذلك تفاوت الأعمار بينهم، وبالتالي اختلاف الظروف والحالة الاجتماعية التي عايشوها، ويمكن القول إنّ جمهور السينما في مرحلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي كان مختلفاً عن جمهورها في الفترات اللاحقة.
يرى القاص رعد الرحبي (69 عاماً) أنّ السينما في طفولته «كانت حالة ثقافية في المدينة يرتادها الناس من مختلف الأعمار، ومن الجنسين، حيث لم يكن قد دخل التلفاز بعد إلى المدينة، وكانت هذه السينما بالإضافة إلى المقاهي الموجودة على ضفة نهر الفرات هي المتنفَّس الوحيد للرجال، فيما لم يكن أمام النساء والبنات ليرفّهنَ عن أنفسهنّ سوى السينما وجلسات فَتْل الشعيرية وتحميص البرغل التي كانت تتحول إلى حلقات غنائية. كما كانت السينما مشواراً للعائلة مجتمعة، ولم يكن هنالك مكان آخر للترفيه العائلي سوى البساتين في موسم الخسّ خلال فصل الصيف في جوٍّ أشبه بالكرنفالات.
نتيجة ذلك يقول الرحبي إنّ «حضور النساء في السينما كان قويّاً وعلى مدار السنة؛ لعدم توافر وسائل ترفيه أخرى، وكان لهنّ مدخل خاص، ويُخصَّص لهنّ السطح في فصل الصيف والبلكون في فصل الشتاء، ولم تكن تحدث أيّة مشاكل أو مضايقات في السينما نتيجة حضورهنّ، بسبب علاقات التوادّ والقربى التي تربط بين أهالي المدينة، والذين لا يتجاوز عددهم خمسة آلاف نسمة في الخمسينات».
ويُضيف الرحبي أنّ الأهالي «كانوا يفضّلون ذهاب الأولاد الصغار رفقة قريب أو أخٍ أكبر، أو أن تتشكّل مجموعة من أولاد الحارة تذهب مجتمعة، وبدورهم كان الشباب يذهبون سويّةً لقضاء أمسية في السينما، غير أنّ هذا الطقس الشبابي اختفى في ثمانينات القرن العشرين، وقلّ الاهتمام بالذهاب إلى السينما مع توجّههم بشكلٍ أكبر نحو الكتاب وانكفاءهم عن دُور السينما، لا سيّما في ظلّ توافر التلفاز الداخل حديثاً إلى الميادين».
من جانبه، يقول أكرم عيد إنّه في الفترة التي عمل بها في السينما بين 1967-1979، كانت السينما «دائماً كومبليه؛ في القسمين الرجالي والنسائي، وكان حضور النساء واضحاً ومستمراً طوال العام»، بينما يخالفه الرأي غسان عليوي، ويرى أنّ حضور النساء خلال أيام السنة العادية لم يكن كبيراً أبداً، وكانت هنالك «معارضة شديدة من قبل الأهالي لذهاب بناتهنّ إلى السينما، لكنّ هذا الوضع يتغيّر خلال الأعياد، حيث يكون هنالك عروض مخصّصة للنساء فقط، وتكون دورية للشرطة حاضرة على باب السينما قبل نصف ساعة من العرض، ولا تغادر حتى تعود آخر بنت إلى بيت أهلها».
فضلاً عن العروض العامة، كان هنالك عروض مخصّصة لطلاب المدارس، وبأسعار مخفّضة، وهنا يتذكّر العم أبو القاسم أنّه حين كان مدرّساً في ابتدائية الحسين بالمدينة «اشترى الطلاب بطاقات داخل المدرسة عن طريق نقابة المعلمين، ولم يكن الأهالي يمنعون أولادهم من الذهاب، إلا إذا حال دون ذلك الفقر، وكان حينها الفيلم عن فلسطين، وقالوا إنّ عوائده ستذهب تبرّعات للفلسطينيّين». ويضيف أبو القاسم أنّ الأمر نفسه يتكرّر بين فترة وأخرى وفي جميع المدارس، ولكنّ «الأفلام التي تُباع بطاقاتها في المدارس كانت منتقاة وجادّة، ومختلفة عن الأفلام التي تعرضها السينما عادةً».
عن أجواء السينما وطبيعة التنظيم يقول أكرم عيد «إنّ المشاكل لم تكن موجودة، غير أنّه كان يحصل فوضى وتَدافع عند فتح الأبواب، ممّا يضطرني للتعامل بحزم مع بعض الزبائن، لا سيّما حين يكونوا مراهقين، وقد كنت أُضطرُّ أحياناً لحمل عصا بيدي». أمّا غسان عليوي فيقول: «بعض المراهقين في الثمانينات كانوا يقصدون السينما، خاصّةً في أيام العيد، بغرض التدخين، حيث الأضواء مطفأة ولا يستطيع الناس تمييز بعضهم البعض، وكثيراً ما كنت أشاهد الآباء يقفون على باب السينما ليعاقبوا أولادهم عند خروجهم من السينما، إذ كانوا يعتبرونها مكاناً موبوءاً يُفسد تربية الأولاد ويعلّمهم التدخين وسوء الخُلُق».
عروض مسرحية وترفيهية وخطابات سياسية
علاوةً على العروض السينمائية المتواصلة طوال العام، كانت سينما القاهرة تحتضن عروضاً مسرحية بين فترة وأخرى، وكانت تحظى هذه العروض بإقبال كبير جداً يتخطّى بمراحل الإقبال على الأفلام، ومن الشخصيات المسرحية التي يتذكر الأهالي عروضهم نهاد قلعي وسعد الدين بقدونس ودريد لحام، وكان هؤلاء ينامون خلال فترة العروض الممتدة لأيام في غرفة كبيرة داخل السينما بسبب عدم وجود فنادق، كما كانوا هم من يقومون بتسعير التذكرة مقابل نسبة لصاحب السينما، وكان القسمان الصيفي والشتوي مجهّزَين بمسارح يمكن العرض عليها. فضلاً عن ذلك، كان هنالك عروض يؤدّيها طلاب صغار وشباب من أبناء المدينة، يغلب عليها الطابع الكوميدي، وكانت عموماً تجري بالتنسيق مع المدارس ويحضرها الطلاب وبعض أهاليهم.
ويقول أكرم عيد إنّه حاول العمل من أجل تقديم عروض هادفة تجسّد الصراع الطبقي خلال مرحلة السبعينات بالتعاون مع الشباب المسرحيين في المدينة، لكن بسبب ميوله الماركسية المحارَبة من قبل سلطة البعث حينها وخوف الناس من التعامل مع الشيوعيين، لم يجد تجاوباً معه.
فضلاً عن المسرح، يذكر أكرم عيد أنّ «حزب البعث كان يستأجر صالة السينما في فترات الصباح والظهيرة لعقد مؤتمرات وأنشطة خاصة به، خصوصاً حين يأتي مسؤولون بعثيّون من خارج المدينة ليُلقوا كلمات على مسامع الناس». كذلك يتذكر رعد الرحبي أنّ السينما «كانت المكان الذي ألقى فيه رئيس الحكومة السورية الأسبق يوسف الزعيّن كلمة أمام المسؤولين والأهالي أواخر الستينات، وكذلك كانت السينما مِنبراً تستخدمه الوفود السياسية القادمة من خارج دير الزور، كما كانت تحتضن مراسم الاحتفال بالأعياد الوطنية كعيد الاستقلال».
صالة السينما كانت أيضاً ملتقىً تُعالَج فيه قضايا الميادين الرئيسية بحسب العم أبو القاسم، والذي يتذكّر لقاءً عُقد في الستينات بين الأهالي ومدير مستشفى إنعاش الريف في المدينة محمود الشعيبي، وجاء الأهالي حينها «ليشتكوا من سوء الخدمات التي تُقدّمها المشفى».
أما الجانب الصيفي من السينما، والذي كان في الهواء الطلق، فقد استضاف عروضاً تحمّل وألعاب قوى أكثر من مرة، تؤدّيها فرق سورية وأخرى كانت تأتي من مصر خلال زمن الوحدة. ويتذكّر غسان عليوي أنّه حضر عرضاً «قدّمة رجل يُدعى شاوي الشدخان، وضعوا على صدره صخرةً كبيرة، ومن ثمّ قام رجلان بتكسيرها باستخدام مهدّات كبيرة، وبعدها استلقى شاوي على لوح خشبي مليء بالمسامير، وراح أحدهم يمشي فوقه ذهاباً وجيئةً، ومن ثمّ نزل الرجل ليضعوا برميلاً فوق صدر شاوي. كانت هذه العروض تستقطب أعداد كبيرة من الناس، خصوصاً الأطفال».
الدعاية والإعلان
كانت طرق الترويج للعروض السينمائية لسينما القاهرة فريدةً من نوعها؛ أوّلها أن يُجهَّز لوح خشبي بطول مترين وعرض متر واحد، وتُثبَّت عليه بمسامير صغيرة لافتة قماشية يكتبها خطّاطون متعاقدون مع السينما، فيها عنوان الفيلم وأبطاله والفئة التي يندرج تحتها وأوقات عرضه، ثمّ تُلصَق على اللافتة بالنشاء اللاصق صور للقطات مثيرة من الفيلم الجديد، ويطوف رجلان بلوح الخشب هذا في شوارع الميادين وينادون على الفيلم ويشرحون مدى جماله ويحفّزون الناس على الذهاب لحضوره، وذلك بحسب أكثر من شخص تحدّثنا إليهم.
بالإضافة إلى تلك الوسيلة، يقول أكرم عيد: «كانت هنالك المنشورات المخطوطة على ورق مقوّى، بطول 1 متر وعرض 70 سنتيمتراً، نقوم بلصقها على علوّ مترين في الأماكن الرئيسية من سوق الميادين العام، عند الحديقة العامة وأمام طاحونة القمح ومؤسسة الكهرباء ومكتبة البصري وأماكن أخرى يتركّز فيها الناس. كما كانت واجهة السينما مليئة بصور أغلفة الأفلام واللقطات البارزة فيها، وكذلك صور أبطالها، إلى جانب عبارات تشويقية رنّانة لجذب الناس، وما زال ما هو شبيه بهذه العبارات موجوداً على واجهات بعض دور السينما في دمشق وحلب حتّى اليوم ربّما».
إسدال ستائر سينما القاهرة
تَعذّر علينا من خلال المقابلات التي أجريناها تعيين تاريخ دقيق لإغلاق السينما، غير أنّ معظم الشهادات تذهب إلى أنّ سينما القاهرة بقيت مفتوحة حتّى منتصف الثمانينات، كما يرى مَن تحدّثنا إليهم أنّ الإغلاق جاء نتيجة تضافر مجموعة من العوامل: أبرزها الماديّة، حيث تراجع الإقبال على السينما وصارت لا تعود بالربح على أصحابها، سيّما بعد احتلال التلفاز مساحة هامّة على الجدول الترفيهي للناس في الميادين، كما بدأت حركةٌ عمرانية في محيط السينما، جعلت من هدمها واستبدالها بمحالَّ تجارية وشُقَقٍ سكنية أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية.
وهنالك عوامل أخرى تتعلّق بالإهمال الذي لحق بالسينما وعدم تطوير أدواتها ومستلزمات العمل فيها، وأيضاً عدم وجود وسائط عرض الأفلام الملونة، والتي صارت تطغى على المشهد السينمائي أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، مما جعل السينما تقتصر في عروضها على الأفلام القديمة. كما أنّ طبيعة الأفلام، بحسب أكثر من شخص، كانت خالية من الأفكار السياسية والحياتية والمسائل العميقة التي أخذت تشغل بال الشباب في الثمانينات، لذا كان الكتاب أكثر قدرةً على تقديم ما يتوافق مع اهتماماتهم الفكرية والمعرفية ويعمّقها، ولعلّ نتائج البحث الموضوعي في أسباب تراجع دُور السينما وإغلاق دُور العرض وخلوّها من المشاهدين في عموم سوريا كفيل بتقديم إجابات عن الأسباب التي أُغلقت جرّاءها سينما القاهرة.
هنالك حياة ثقافية وفنيّة واجتماعية وسياسية مزدهرة وغنيّة خلال حقبة ما قبل الأسدية والبعثية المصادِرَتَين للحياة العامّة والخاصة، وهذه الحقبة، بوجوهها كافّة، خصوصاً في الأرياف والمناطق الطرفية، ما زالت خاماتٍ لم تُعمَل فيها أدوات التأريخ والتتريث التي تمكّن من تكوين ذاكرة جمعيّة وجماعاتيّة ملوّنة ومتنوّعة، تعكس حقيقة سوريا ما قبل اللون الواحد. وعلى الرغم من صعوبة هذا العمل بسبب نقص المراجع والأدوات البحثية واقتصارها في أحوال كثيرة على ذاكرة الناس، إلا أنّ ذلك شيّق وآسر وضروري، ويستحق بذل الجهود.