قالوا لي إنّ لديّ سرطاناً في اللسان. هكذا. لا أعلم كيف ولا هم يعلمون. وبعد إجراء بعض الفحوص المتطورة من مناظير وأشعة وتشكيلة أوسع في الداخل والخارج، وجدوا أيضاً كتلة في حنجرتي. «اللي بيبحث عن ربو بيلاقيه»، هذا هو شعار أطباء السرطان عموماً. رحتُ أفتلُ مشافي حلب الواحد تلو الآخر، الرازي، سلوم، الجامعة، السلام… لم يعتب عليّ واحدٌ منها.

وبعد الحيرة والفراغ اللذين رأيتهما في أغلب وجوه الأطباء البهلولية، وبعدما أكلني الشك، وبعدما أصبحتُ أشعرُ بالسرطان نفسه يخدِش لساني وحنجرتي عند كل لقمة طعام أو ماء، يبعصني في نومي وفي صحوتي، رحتُ أنقلُ شعوري المفعم بالسيميائية والتحضير لجنازتي إلى مرافقيَ الروحي، «الأبونا»، مدير الجمعية الإغاثية التي تطوعت فيها ومن ثم عملت، الإنسان الوحيد الذي جعلني أؤمن بانعكاس وجه الله (إن وُجِد) في البشر. وبعد أن أصبته بعدوى الخوف من فقداني، المهم حينها، وعدني بأنه سيساعدني بأن أقوم بإعادة الفحوص والتحاليل الطبية في مستشفى «فندق الرب» (أوتيل دْيو) في بيروت، وهذا في حال استطعت الخروج من حلب. فحلب الغربية، كما سمَّوها، كانت محاصرة في تلك الفترة من قبل قوى المعارضة بمختلف تسمياتها، مما جعل الحركة منها وإليها، ووصول البضائع بأنواعها أمراً بالغ الصعوبة، ناهيك عن القذائف العشوائية، «هواوين الحرية» كما كان أهالي المنطقة الغربية من المؤيدين يحبون تسميتها، وهي بصدق لم تُصب هدفاً عسكرياً واحداً بشكل فعّال على حد علمي – مبنى الأمن السياسي في منطقة السليمانية المكتظة بالسكان، على سبيل المثال، هطلت عشرات أو مئات القذائف حوله ولم تخدشه، مكتفيةً فقط بإيذاء البيوت والأهالي من حوله.

رقص هاتفي على عودِ ترتيلة «يا حيف»، ورمقني أبي شذراً وهو يمضغ ملعقة مجدرة البرغل خاصته. ومن دون تردد فصلتُ الاتصال بخنصري كي لا يتلوث الهاتف، وكي أتابع الغوص في صحني، وإذ به يعاود الرقص، فشغّلتُ السپيكر ورددت. «معك تلت ساعة وبتكون قدام المخفر اللي جنب بيتك، قدرنا بقدرة قادر ندبرلك محل بالطيارة العسكرية الرايحة على الشام اليوم، وبعدها بتطلع بتاكسي لبيروت لتعمل الفحوص الطبية المطلوبة. لا تخبّر حدا على الخالص، بعرفك علّاك، بتشوفني بانتظارك قدام باب المخفر». أنهى الأبونا الاتصال، وثَبَتَ الزمن في وجهَي أمي وأبي، فيما بقيَت لقمة المجدرة تنتظر المضغ في فم والدي.

أطلقنا النفير العام. أخبرتُ أخي وصديقيَّ المقرّبان، فأتَوا جميعاً إلى منزلي بسرعة الريح (بلا معنى)، وراح كل واحد منهم يبحث عن اختصاصه. أصدقائي يرشقون الكلاسين والجرابات خاصتي في الحقيبة، أخي وأبي يُعدّان بعض الدولارات وينسّقانهم في كيس نايلون – لا أفهم علاقة النقود بأكياس النايلون! أمي تطوي وترتّب ثيابي وتحضّر لي مؤونة من سندويشات الزعتر والجبنة والخيار، وأنا أضع الأغاني وأرقص مثل المعتوهين.

وصلتُ أنا والقبيلة خاصتي إلى المخفر، وإذ بسيارة سوداء 4×4 «مفيّمة»، تحمل صورة بانورامية على الزجاج الخلفي لحافظ وباسل وبشار، تنتظرني. كان ركابها يرتدون بدلاتهم ذات الأوسمة التي لا تتسع لها رقعة الخاكي، وكانوا ينظرون إليَّ من تحت نظارات الريبان وكأنهم يعرفون أنني لا أحبهم! تجاهلتهم بسؤدد. كان الأبونا يدخن السجائر الواحدة تلو الأخرى. أصطفَّ أبي بجانبه وشاركه الماراثون. أمي تتكلم مع شرطة المخفر وتطلق عليهم وابل الأسئلة التي تتعلق بسلامة طريق المطار وطوله ووجود المسلحين وانتهاء «الأزمة» وسحق الإرهابيين، وهم لا يعرفون مَن هذه المرأة ولماذا هي هنا، ولا من قال لها إنّهم يعلمون شيئاً! خرج رئيس المخفر «واسطتي» من العدم وقال لي: «قلّي الأبونا إنك قبضاي، شدّ حيلك وانشالله ترجعلنا معافى». شكرته بوجهي الطفولي، ودّعت أمي وأبي ورفاقي ذوي الوجوه التي لا تُفسَّر والفراغ المحمول في الأعين، وصعدتُ الى السيارة وانطلقت.

صعد رئيس المخفر في المقعد الأمامي بجانب السائق وأجلسَ بقربه كلاشينكوفه ذا الأخمص الأسود، وضعه كما يضع رضيعه في الخدج، وجلست أنا خلف السائق، أحتل أصغر مساحة ممكنة من الفراغ، لا أعلم لماذا، فيما جلست إلى جانبي زوجة رئيس المخفر التي تنوي السفر معي على الرحلة الجوية المرهفة ذاتها، مُمَردِغةً وجهها بما ملكت من مساحيق تجميل (كأنو رايحين على طِلبة). بدأوا بتبادل الأحاديث المعتادة حول انتهاء الأزمة قريباً وتحرير حلب من المرتزقة وشتم الحرية وداعميها. بدأت عيونهم تستشفُّ من وجهي علامات الامتعاض، فشعرتُ بالتهديد، وانخرطتُ كل الانخراط مخرجاً «الشبّوح» الصغير في داخلي للّعلن والتفصحن حول تطرف المعارضة وحول أنه لا توجد معارضة معتدلة، بل لا توجد معارضة إطلاقاً، وكل هذه الفوضى انطلقت من الجوامع، وبأننا نحن الأقليات المستهدفون الوحيدون من «صراع الحضارات» هذا، وما إلى هنالك من الخراء الذي حفظته من كثرة ترداده أمامي في المجالس العائلية.

اتخذت السيارة خط طريق العرقوب. رحتُ أشرد في مشاهد الدمار التي مللنا كسوريين من وصفها لشدة فظاعتها ولشدة اعتيادنا عليها. لا أتذكر تماماً الطريق الذي سلكناه، لكنني أتذكر ملياً ما حصل عندما وصلنا إلى منطقة قريبة من المطار على بعد عدة كيلومترات. قال السائق: «نزّلوا راسكن قد ما بتقدروا، في قنص بالمنطقة هي، مسافة كيلومترين، رح اقطعن بسرعة، لا تخافوا». وكما قال، بدأت أسمع صوت رشقات رصاص تصيب السيارة. لم أصدق، اعتقدتُ أن الصوت من بعيد، ولم أخف حتى أكد السائق هذا الأمر وأجرى التفافة سريعة وعُدنا مسافة نصف كيلومتر إلى الخلف، ثم رَكَن السيارة في كراج كان يعلم بمكانه. أجرى رئيس المخفر اتصالاً هاتفياً بأحدهم واصفاً ما حصل، وقال لنا بصوته الخشن: «لا تخافوا، جاية دبابة تربي هـ الضيعة». وبالفعل، بعد خمس دقائق أتت دبابة كالدبابة! تشبه الدبابة وتتحرك كالدبابة! وأنا وسرطاني بدأنا التحدث مع الله على أنه صديق قديم اشتقنا إليه. دبّت الدبابة أمامنا مصْدِرة صوتاً مريباً عالياً اهتزت الأرض معه، ورسمت خطين غليظين عميقين في الإسفلت، وأدارت سَبَطانتها نحو المنطقة التي وصفها رئيس المخفر بالإرهابية، وأطلقت قذيفتين اهتزت معهما السيارة ونحن وسرطاني وحجابي الحاجز وزوجة رئيس المخفر. شاهدنا دخاناً صدَر من أحد البيوت البعيدة، التي وبدون شك ليست المكان ذاته الذي وصفه رئيس المخفر لسائق الدبابة. المهم، أتى شخص معني بالموضوع وأخبرنا بأن الطريق أصبح آمناً. انطلقنا مجدداً، لا أحد يتكلم مع أحد؛ صمت مطبق.

وصلنا للمطار بعد أربع دقائق من الحادثة الهوليودية التي مرت أمام عيني. كانت الساعة حوالي السادسة مساءً، وكان الطقس خريفياً مائلاً للصيف أكثر من الشتاء، والشمس ما زالت نشطة. كان المطار من الخارج مليئاً بالسواتر الترابية، والأعلام المثقوبة. أغلب الزجاج الخارجي للمطار كان مكسوراً، وجميع جدران واجهته الأمامية كانت مبخوشة من الرصاص. صور القائد «الخالد في جهنم» وأولاده الذكور وبدلاتهم ونياشينهم تجدها أينما نظرت، فيما العديد من الجنود يركضون جيئة وذهاباً ويحملون ذخيرة وأشياء لا أعلمها، ينقلونها من مكان لآخر. ترجّلنا من السيارة، وقال لي رئيس المخفر بأنهم سيقومون بتفتيش حقيبتي الآن بجهاز الأشعة، ومن ثم سنذهب لقاعة الاستقبال؛ «ما عليك أن تقول إلا القليل، وأن تلتزم الصمت في أغلب الوقت».

وضعتُ حقيبتي في جهاز الأشعة، دخلت في ظلامه، فرُحتُ أنتظرها بلهفة من الطرف الثاني للجهاز، وفجأة بدأ الجهاز بالجلجلة وبدأ المسؤول عنه يقول لي: «إشفي معك؟ مشط مسدس!!». هنا شعرت بعرق بارد لفظته جميع مسامات جسدي، وأحسستُ أن خصيتيّ دخلتا في جسدي وابتلعتْهما معدتي الخاوية. «سيدي مستحيل هل شي»، قلتُ له. «تعا شوف شو طالع عالشاشة!». أجريت التفافة حول الجهاز واقتربت من الشاشة، التي هي مربع صغير لا يتجاوز العشرين سنتيمتراً طولاً وعرضاً، ألوانها متعددة أبيض وأسود ورمادي! ورحت أبحث عن «مشط المسدس» الذي بحوزتي. أشار مسؤول التفتيش بإصبعه الغليظة على المشط الذي لا أعلم كيف ميّزه عن كلاسيني. صحت: «يا سيدي والله ما بعرف إش هالشي». فتحنا الحقيبة سوية وإذ بـ«هارمونيكا» تلمع في زاوية حقيبتي. قال المجند صادحاً: «صفّيرة صفّيرة!». عادت خصيتاي إلى مكانهما.

دخلنا قاعة الاستقبال، وبدأ الموجودون فيها بالتعرف علينا وتعريف أنفسهم. كان الجو مليئاً بالابتسامات السخيفة والنظرات المتوجّسة. عرّفتُ عن نفسي بأنني أحد مسؤولي الإغاثة في حلب، لكي أحظى بنظرات أقل استعلاءً وأكثر احتراماً، ومن ثم عرّفت امرأة عن نفسها بأنها أخت أو أحد أقارب بثينة شعبان إن لم تخنّي الذاكرة، وعرّف شاب آخر عن نفسه بأنه أحد قضاة محكمة النقض، كما كان هناك عدة كهول يتحدثون اللغة الفارسية بين بعضهم بعضاً، ولم يتجرأ أحد على التحدث معهم أو النظر إليهم. استمرت التعريفات بعضاً من الوقت، ومن ثم قالوا لنا إن الطيارة ستقلع في المساء، عندما ستعتّم العين تماماً. عرفت من زوجة رئيس المخفر التي كانت تجلس بجانبي أننا لن نعلم وقت الإقلاع تماماً كي لا تتسرب المعلومة وينجح الإرهابيون بإسقاط الطائرة! أصبح سرطاني أصغر مشاكلي هنا. قَدِم شخص بثياب عسكرية نحوي وقال لي: «تعا معي أعرفك ع الشباب». ذهبتُ معه، أخذني إلى الطابق الأول، حيث كان مجموعة من الشباب يجهزون العشاء، وهو عبارة عن الكثير من الخبز والمارتديلا والمربى. فُتِحت المارتديلا وقُطِّعت بغطائها الحديدي نفسه، وتم توزيع رغيف خبز لكل شخص مع قطعتين من المارتديلا، وسمّينا بالله.

بدأنا بتبادل الأحاديث المتعلقة بعائلاتنا وبشوقنا إليها وبالحرب، واكتشفتُ أثناء الحديث أن المجموعة التي أتناول الطعام معها هي صف ملازمين كانوا مشاركين في اشتباكات منطقة الراشدين في حلب، التي انتهت بخسارة النظام للعديد من النقاط، أو المنطقة بأكملها على ما أذكر. وسمعت عدة تذمرات حول معرفة «المسؤولين» مسبقاً بأنهم سيخسرون مواقعهم في تلك المنطقة، وبأنه لم تصلهم الإمدادات والمعدات اللازمة للمعركة ما أجبرهم على الانسحاب وتكبد العديد من القتلى والمصابين. أحدهم قال: «لك بَعَتوا مع كل مجند مشطين روسية لك الله!!». على زاوية المهجع، كما سمَّوه، كان هناك شاب واقف يُجري مكالمة هاتفية، وكانت عيناه تبدوان وكأنهما ستسقطان من وجهه من جحوظهما وتضخمهما، فيما كان السواد يشكل دائرتين عريضتين حولها. قال لي صديقه بأنه مدمن كبتاغون منذ سنتين، وأنه ينام ساعتين في اليوم الواحد، وأنه يعيش على هاتفه ويتكلم مع خطيبته طوال الوقت.

استمر العشاء لمدة ساعة ونصف، وشاركتهم قصتي المَرَضية بعدما أمطروني بالأسئلة المتعلقة عن سبب وجودي في المطار، وشاهدتُ في عيونهم حزنهم على حالهم وعليَّ وعلى الوجود برمته.

انتقلنا سوية للباحة الأمامية للمطار، فأتى شخص قال لي إنه يدعى أبو جعفر، وقف بقربي وأشار بإصبعه إلى علم أسود تراه العين المجردة على بعد عدة أميال وقال لي: «وهي علم النصرة»، وتمتم وبكل ثقة بأنه لا مشكلة في ذلك، ثم أردف أنه أحبني وأن عليَّ أن أصبح صديقه في الرحلة، وأن أمشي بقربه حتى صعودنا للطائرة كي نستطيع أن نحجز مكاناً لنا «متل سرفيس الدائري الشمالي». وأنهى جملته تلك بضحكات عريضة.

أتاني الإيعاز بالذهاب إلى الطائرة، وبدأنا أنا وأبو جعفر بالهرولة تجاهها، أُوقِفنا نحن وكل صف الملازمين، وكل الأشخاص الذين تعرفت عليهم في غرفة الاستقبال، ريثما يصعد الإيرانيون للطائرة. كانت علامات كُرهنا لهم واضحة جداً. من هم؟ ولماذا أتوا؟ ولماذا لا يكلمهم أحد والجميع خائف منهم؟ وهل سيبقون على أرضنا؟ وتفاجأتُ عند اقترابي من الطائرة بأنها ليست طائرة مدنية، بل هي تحمل أسلحة، وتفتح بابها بشكل غريب من منتصفها فينزل وكأنها تتثاءب من فكها السفلي، وفيها محركان يهدران كصوت «هوب-هوب» ضخم. صعدنا إليها، وإذ لا أماكن للجلوس، فجميع الإيرانيين جلسوا مسبقاً على المقاعد الطولية على الجانبين، والنخبة من المسافرين وجدوا أماكن لهم، وفي الوسط ثمة كثيرٌ من الصناديق الخشبية التي كان المجندون يجهّزونها عند وصولي للمطار. قال لي أبو جعفر «بدنا ندبر حالنا، طحاش». صعدنا أنا وأبو جعفر على متن الطائرة، وتقدمنا، وجلسنا على الأرض في مقدمتها، تحيط بنا أسلحة خفيفة وكثيرٌ من الذخائر والصناديق، وبدأ الباب بالانغلاق. استمرت محركات الطائرة بالهدير لمدة ثلث ساعة قبل الإقلاع، ونحن كمخلّل المكدوس فوق بعضنا بعضاً. بدأ بعضنا بترديد الصلوات والأدعية الشيعية التي لم تكن مألوفة بالنسبة لي، وكانت لكنة الإيرانيين واضحة في أدعيتهم ونغماتها الغريبة. أقلعت الطائرة بفعل الصلوات أخيراً.

جلسنا أنا وأبو جعفر القرفصاء، لكن بهيئة برج بيزا المائل، مكبوسين كبساً فوق بعضنا بعضاً. ظلامٌ دامسٌ في الطائرة، وأحاديث جانبية خفيفة، وصوت المحرّكَين يفوق الجميع. شاركني فوراً بحنينه لابنته التي احتفلت بعيد ميلادها التاسع منذ يومين، وكيف احترق قلبه لأنه كان مشاركاً عبر شاشة هاتفه السامسونغ. رَبَّتُّ على كتفه والتزمتُ الصمت. أحسستُ بجوع خفيف، فمن عادتي أن آكل عندما يصيبني التوتر. فتحتُ حقيبة الظهر خاصتي وأخرجت دزينة سندويشات الزعتر وكيلو الخيار، اللذين أرفقتهما أمي معي خوفاً من المجاعة الممكنة في أي زمان. قدمت لأبو جعفر سندويشة وخيارتين، فانتشلهم شاكراً، وإذ بملازم آخر لاحظتُ أنه ينظر إلينا بين الظلال، فقدّمتُ له الخيار والزعتر، وبدأنا نحن الثلاثة بقضم الخيار بشكل سوريالي في مقدمة الطائرة، وراح صوت القضم يتحدّى دوي محركات الطائرة. خطير هذا الخيار، له أبعاد كوميدية معرفية دائماً، فلا غرابة في أن يستخدمه عادل إمام في شاهد ما شفش حاجة، وأن يستعمله أحمد الغندور في الدحيّح.

بعد انتهائنا من وجبتنا الخفيفة، بدأنا أنا وأبو جعفر بالحديث عن البلد وحالها. وهنا استلم أبو جعفر زمام الكلام كعادته وأخذ على عاتقه مهمة توجيهي سياسياً كما كان يُفعَل بنا أيام التدريب الجامعي. راح أبو جعفر يشرح لي كيف أن سياسة النظام في قمة السوء، لا بل في قمة الوحشية حتى على الصعيد الداخلي، أي بالنسبة لشعبه ولمطالبهم، حتى وصف النظام بأنه غير آبه بالخسارات التي يتكبدها جيشه نفسُه، وأنه معتمد كل الاعتماد على الإيرانيين (أشار بإصبعه تجاههم بخجل) وعلى الروس. هنا أصابني الذهول واتخذت وضعية الميموزا! لكن سياسته على الصعيد الخارجي أي دولياً ممتازة، استدرك أبو جعفر، قبل أن يبدأ الكلام عن سوريا وارتباطاتها القديمة مع حلفائها، وأن موقع سوريا الجيوسياسي ومحورية سوريا بالنسبة للشرق الأوسط هي أصل البلاء، مشدداً بأنه معارض لهذا النظام داخلياً لكنه لا يخون وطنه. واقترب مني موشوشاً في أذني: «الطَّوَلان ما طالع بإيدو شي». أصابني الدوار هنا؛ ولا أعلم إن كان للخيار يد فيه أم أن التوجيه السياسي كان كافياً. لملمتُ الحديث تحت شعار الغثيان، وتقوقعتُ على نفسي وهديرُ المحركات يحول بيني وبينها. أعدتُ تصنيف أولويات خوفي: هل السرطان أولها؟ هل أخاف الموت؟ هل أخاف حزن أمي عليّ؟ أم أن ما مرَّ معي، ولم يستوعبه عقلي أثناء الرحلة التي من المفترض أن تكون للعلاج، لم ينتهِ بعد؟

هبطت الطائرة حوالي الساعة الحادية عشر، وخرجنا كما تخرج قِطَع السردين من علبها. كان الظلام قاتلاً في مطار دمشق، وما كنت أميز البشر من الحجر. اصطحبني أبو جعفر أنا وصديقه جاحظ العينين (متعاطي الكبتاغون) وأرشدنا إلى ساحة المطار التي علينا المكوث فيها والنوم ريثما تشرق الشمس ونستطيع الذهاب إلى وسط المدينة، فالطريق خطر جداً في الليل كما أسلف البعض ونحن في الطائرة. لاحظتُ أن المدنيين الذين كانوا معنا على الطيارة يُجرون اتصالاً مع شخص فهمت من الحديث أنه سائق تاكسي سيأتي من وسط المدينة ليُقلّهم إليها من المطار، فذهبت وسألتهم إن كان بإمكاني الانضمام، فاعتذروا مني بحجة أنه لا توجد مقاعد متبقية، فهم خمسة أشخاص. وعندما وصل السائق ذهبت إليه وطلبت منه أن يعود مرة ثانية ليُقلّني إلى ساحة القصور، فوافق بشرط أن أدفع له ستة آلاف ليرة، فوافقت وتبادلنا الأرقام.

قلتُ لنفسي: إن عاد سالماً فالطريق آمن ببساطة، وإن لم يعد فأبو جعفر وأحاديثه لي بالمرصاد. وبعد خمس وعشرين دقيقة بالضبط عاد، فركض أبو جعفر نحوي وحاول أن يقنعني بالامتناع عن الذهاب والسهر معه حتى الفجر. اعتذرتُ منه وادّعيت بأنني متعب جداً من السرطان (وهو الذي لم يتعبني يوماً، بل علاجه فعل) ونجحت في إقناعه بتوديعي، متمنياً له لقاء ابنته في أسرع وقت. ضمني إلى قامته الطويلة، وأخذ رقمي بسرعة، وقال لي «سأطمئن عليك في كل حين». فتح سائق التكسي صندوق السيارة ووضعت أمتعتي فيها، قبل أن يرمي نكتة بأنني أحمل كبّة متفجرة في حقائبي لأنني حلبي. كدت أبكي من انحلال توتّري لبرهة، فقد كان الضغط النفسي على صدري لا يطاق.

وضعت حزام الأمان فقهقه السائق المنيك من فِعلتي. أرسلت رسالة نصية لابن عمتي تحتوي على رقم لوحة السيارة خوفاً من خطفي أو ما شابه ذلك من أوهام. أتاني الردّ على رسالتي: «يلعن دينك جاية هلق!». كان السائق يقود بسرعة جنونية، وبدأ من دون أعذار بالتحقيق معي حول الثورة وحاجتنا لها، وحول أهمية الحرية، وهل أنا من مناصريها، وكيف أن الحلبية أوغاد لأنهم لم يشاركوا في البداية. كان يهتز مع قهقاته المتواصلة رأسُ كلب اللعبة الملتصقة أمامي، وفجأة لاحظتُ أننا مررنا على حاجز للأمن العسكري ولم يوقفنا، فاستنتجت بأنني تحت المجهر حتى يزلّ لساني وأقوم بالمعالجة الطبية المرتقبة في فرع الأمن 235، وفوراً دعوت الشبّوح الصغير بداخلي ليخرج إلى العلن، فلبّى النداء وأخذ يتبرز هنا وهناك.

أجرى السائقُ التفافة لا تصدق في دوار ساحة العباسيين، التفَّ معها عنقود العنب البلاستيكي المشنوق على مرآة السيارة الأمامية جيئةً وذهاباً. برّرها بأنها منطقة خطرة بالليل. لم يوقفنا أي حاجز على الطريق، إطلاقاً، ولم تُفتَّش حقائبي مطلقاً. كان الذعر ينهش عظامي. وصلنا إلى ساحة القصور أخيراً. كانت عمتي وجميع أولادها وهم في ثياب النوم ينتظرونني أمام محل «شاورما الأغر». تبادلنا البكاء، ورحل سائق التاكسي.

في اليوم التالي ذهبتُ الي بيروت وأعدتُ جميع الفحوص الطبية. قالوا لي بأنه ليس لدي أي سرطان، وبأن التشخيص الحلبي تشخيص خاطىء، وبأنه لا شيء يشوب حنجرتي، وبأن الشيء الذي استُئصِل من لساني هو عبارة عن حُزاز منبسط وليس سرطاناً. لا تسألني ما هو هذا الشيء فهو لا يهمني، المهم أني سليم معافى. بعد سنتين من تلك الواقعة، علمتُ أن تشخيص حلب كان هو الصحيح، وتشخيص بيروت هو الخاطئ.

لماذا كتبت ما كتبت ولماذا تقرأ ما كتبت: أشعر بأن عليَّ أن أزرع لنفسي شجيرة على شكل نص هنا وهناك لكي أثبت وجودي المهدَّد حالياً في هذا العالم، مع وبدون السرطان. لكن دافعي الحقيقي بأن أُلهيك يا من تقرأ(ين) هذا النص عن هذا الوجود، أن أجعلك تبتعد(ين) قدر الإمكان عن نفسك في هذا الوجود، أن أشتّتك ولو لربع ساعة عن التفكير بمشاكلك، ومهمتي أيضاً أن أرسم نصف ابتسامة ما بين هزل واكتئاب على واقعنا. مهمتي أن تشعر، فإن شعرتَ بالأسى عليّ وعلى حالنا، فأنا آسف، وإن لم تشعر فأنا آسف جداً على أننا أصبحنا عديمي إحساس.