يعيش في مصر قرابة 130 ألف لاجئٍ سوري مسجلين لدى الأمم المتحدة، في حين تشير تقديرات الحكومة المصرية إلى أنّ عدد السوريين المقيمين على أراضيها يزيد على 500 ألف نسمة، وينتشر القسم الأعظم من الشريحتين المتوسطة والفقيرة في مدينة 6 أكتوبر بالقاهرة، في حين يسكن قسم كبير من شريحة الأغنياء ورجال الأعمال ضمن مساكن فاخرة في مدينة الرحاب شرق القاهرة، بالإضافة إلى وجود تجمعات للسوريين في القاهرة والإسكندرية والشرقية ومناطق أخرى من البلاد.
وتنتشر بين فترة وأخرى دعوات تحريضية ضدّ السوريين وأعمالهم وأموالهم في مصر، مُستندة إلى أرقام ومعلومات غير دقيقة، كما يواجهون اتهامات بوجود صلات تربطهم بجماعة الإخوان المسلمين أو بأنّهم يدينون بالولاء للرئيس المصري الراحل محمد مرسي، لا سيّما أنّ قسماً كبيراً من السوريين وصلوا إلى مصر خلال فترة حكمه القصيرة. كما تشير تقارير صحفية إلى احتمالية وقوف النظام السوري وراء بعض الدعوات التحريضية ضدّ السوريين في مصر، بغية الضغط على رجال الأعمال ودفعهم للعودة إلى سوريا واستثمار أموالهم فيها.
وعلى الرغم من أنّ الدعوات التحريضية ضدّ السوريين وأعمالهم لا تجد أصداء إيجابية في الشارع المصري، بل غالباً ما تواجه بحملات استنكار شعبية مصرية مضادّة، فإنّ هنالك مزيجاً من الخلط وإطلاق الأحكام العامة على طبيعة الوجود السوري في مصر والشرائح الاجتماعية التي ينتمون إليها، إذ أنّه ليس صحيحاً أنّهم جميعاً من أصحاب رؤوس الأموال أو أنّهم راكموا ثروات منذ قدومهم إلى البلاد، فالقسم الأكبر منهم يعيش ظروفاً حياتية لا تختلف عن ظروف عموم المصريين. ويعيش 54% من السوريين في مصر تحت خط الفقر، كما يبلغ المعدل العام للبطالة في صفوفهم 20%، وذلك بحسب دراسة للأمم المتحدة بعنوان توفير فرص العمل يُحدث الأثر المنشود، نُشرت عام 2017.
طبيعة الأعمال السورية
إنّ غياب المخيمات وانتشار السوريين في التجمعات المدينية أسهم إلى حدٍّ بعيد في انخراطهم في الحياة المصرية على مستويات متعدّدة، وتحديداً على صعيد التجارة والأعمال، وبات المصريون يتعاملون بشكلٍ يومي مع العمالة السورية أو مع مشاريع سورية صغرى وصغيرة ومتوسطة، تتمثّل في المطاعم ومحلات بيع الحلويات والأقمشة والملابس الجاهزة وصالونات الحلاقة ومحلات صيانة الكمبيوتر والمحمول التي غالباً ما يملكها ويديرها ويعمل فيها سوريون من الشرائح المتوسطة، غير أنّ هذه المشروعات التي تُقدّم خدمات وسلعاً استهلاكية مباشرة لا تشكّل كامل الحضور السوري في السوق المصرية، بل ثمّة أنواع أخرى من الأعمال الاستثمارية يملكها أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة.
وتشمل المشروعات السورية الكبيرة معامل للنسيج والملبوسات والصناعات الدوائية البسيطة والأغذية والمعلّبات والصناعات التحويلية، فضلاً عن الصناعات الكيميائية ومعامل الإسفنج والورق والصناعات البلاستيكية والأثاث والمفروشات وشركات تكنولوجيا المعلومات وصناعة البرمجيات ومراكز التدريب المهني والأكاديمي، وهنالك تقديرات بأنّ 80% من المعامل السورية التي افتُتحت خارج البلاد منذ العام 2011 تركّزت في مصر.
مزايا وتحديات الاستثمار السوري في مصر
أهم ما يميّز الأعمال الاستثمارية السورية أنّها تمكّنت من ضخّ 800 مليون دولار في السوق المصرية على شكل استثمارات جديدة، كما أسهمت بنقل كفاءات وخبرات تقنية في قطاعات معيّنة إلى السوق المصرية، لا سيما صناعة النسيج، مما ساهم في إنعاش هذه الصناعة وتحسين قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية. وبحسب تجمّع رجال الأعمال السوريين في مصر، فإنّ أكثر من 30 ألف رجل أعمال سوري يعملون في البلاد، كما أسّس السوريون 818 شركة في الأشهر التسعة الأولى من عام 2018 وحدها.
كذلك ساهم المُنتَج السوري في مصر في زيادة ميزان صادرات البلاد والقطع الأجنبي الوارد إليها، كما ضخّ رجال الأعمال السوريون أنفسهم كميات من القطع الأجنبي في الأسواق، ورفعت المنتجات والخدمات السورية من الروح التنافسية لدى المستثمرين والصناعيين المحليين، وانعكس ذلك على طبيعة المُنتَج المُقدَّم للمصريين على صعيد الجودة والسعر.
بالمقابل، هنالك بعض التجار المصريين الذين تأثّروا سلباً جرّاء الحضور السوري، خصوصاً أولئك الذين عجزوا عن المنافسة، أو الذين يملكون قدراً أقلَّ من الحرفية مقارنةً بالسوريين في مجالات معيّنة، لا سيّما المطاعم والأعمال المهنية.
ويواجه السوريون في الأسواق المصرية نوعين من التحديات؛ الأول يتعلق بطبيعة السوق المصرية والظروف الاستثمارية العامة في البلاد غير المقتصرة على السوريين، ومنها تراجع قيمة الجنيه المصري وأثر ذلك على القدرة التنافسية للمشروعات التجارية نتيجة تزايد أكلاف السلع الوسيطة، وكذلك صعوبة الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالمورّدين الموثوقين والإجراءات القانونية والتراخيص، وعدم القدرة على الدخول إلى مناطق التجارة الحرة المصرية، التي تستبعد الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهي النسبة الأكبر من استثمارات السوريين، كون هذه المناطق مُصمّمة خصيصاً للشركات الكبرى متعددة الجنسيات.
النوع الثاني من التحديات متعلقٌ باللاجئين السوريين، فرغم المهارات التقنية والخبرات في مجال الأعمال التي يمتلكونها، ما زالت تنقصهم الكفاءة والمعلومات عن كيفية التعامل مع بيئة الأعمال في مصر، كما أنهم لا يحظون بفرص الحصول على قروض وخدمات مصرفية تمكّنهم من توسيع استثماراتهم، وهم أيضاً غير قادرين على استقدام عمال سوريين مهرة، تحديداً في الصناعة النسيجية. يضاف إلى ذلك العقبات التي يواجهها أولئك المقيمون في مصر بموجب إقامة لاجئ، وهو ما يمنعهم من السفر إلى الخارج من أجل استيراد مواد أولية أو تسويق منتوجاتهم على النحو الأمثل، ويضع عقبات قانونية في وجه تسجيلهم لشركاتهم.
ولمواجهة هذه الظروف، يقوم قسم من السوريين بتسجيل شركاتهم ومشاريعهم تحت أسماء مصرية، أو بالعمل دون تسجيل قانوني أصلاً، وقد يترتب على لجوء السوريين إلى شراكات مع أطراف مصرية لأغراض قانونية مخاطرة غير محسوبة العواقب، إذ لا يُلمّ السوريون تماماً بالقوانين والأنظمة في مصر، سواء تلك المعتمدة كأعراف في المجتمعات المحلية، أو المعمول بها من جانب الدولة المصرية.
التنازع على رجال الأعمال
تدرك الدولة المصرية أهمية الاستثمارات السورية من حيث الأثر والعوائد والقدرة على تأمين فرص العمل، وقد تجلّى ذلك في افتتاح عبد الفتاح السيسي لمصنع رجل الأعمال السوري محمد كامل صباغ شرباتي، الذي يُقدّر رأسماله بحدود 200 مليون دولار، ويؤمّن ألفي فرصة عمل، ويعمل بطاقة إنتاجية تصل إلى 45 مليون متر قماش سنوياً.
وسبق لوزير التجارة والصناعة المصري طارق قابيل أن تحدث عن نية لإنشاء منطقة صناعية سورية متكاملة لصناعة النسيج، على مساحة 500 ألف متر في مدينة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية، غير أنّ هذه المنطقة لم ترَ النور، ولا يبدو أنّ الحكومة المصرية ما تزال متشجّعة لإقامتها، وقد يكون سبب ذلك أنّ قطاع الغزل والنسيج المصري حكوميٌ في معظمه، ومن شأن هذه المنطقة الصناعية أن تُضرّ بمكانة الشركات المملوكة للدولة.
يراقب النظام السوري أيضاً الاستثمارات السورية في مصر، ويسعى لاستمالة رجال الأعمال هؤلاء حتى ينقلوا استثماراتهم إلى سوريا، وهذا ما دفع عماد خميس إلى استقبال وفد من رجال الأعمال السوريين في مصر منتصف العام 2018، واعداً إياهم بتقديم تسهيلات كثيرة وإشراكهم في إعادة الإعمار، وكذلك بسن قوانين استثمارية جديدة ومنح إجازات استيراد وتقديم قروض ومعالجة قروض سابقة متعثّرة مقابل عودتهم إلى سوريا.
كما يسعى النظام السوري إلى استقدام رجال أعمال ومستثمرين مصريين إلى سوريا، وذلك من خلال تجمّع رجال الأعمال السوريين في مصر الذي يديره رجل الأعمال السوري خلدون الموقع، والذي نظّم زيارة لوفد من رجال الأعمال المصريين إلى سوريا منتصف شهر آب/أغسطس 2017، وتكرر الأمر عدّة مرات مع شركات تطوير عقاري تسعى إلى المساهمة في إعادة الإعمار.
يمكن القول إنّ هناك مستويين من الحضور الاستثماري السوري في مصر، الأول يقوم عليه لاجئون من الطبقة المتوسطة انتقلوا إلى مصر خوفاً على حيواتهم من العنف، وتأخذ استثماراتهم شكل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وهؤلاء هم من سيدفعون ضريبة أي تصريحات سلبية وتحريضية. أما المستوى الآخر، فهو يتمثّل في المصانع الكبيرة التي أسسها رجال أعمال بملايين الدولارات، ويرتبط كثيرٌ منهم بنظام الأسد، كما أنّ لديهم شبكات مصالح وعلاقات مع مستثمرين ومسؤولين مصريين، وهؤلاء يمكنهم ببساطة أن ينقلوا استثماراتهم إلى أماكن أخرى متى شاؤوا.