«سلام… طمنيني عنك؟ أنا صرت بلبنان»، كانت هذه الكلمات قد وصلتني قبل أسبوعين عبر رسالة واتس آب حوالي الساعة العاشرة ليلاً؛ كنتُ مستلقية على ظهري، فعدلتُ جلستي فوراً وأرسلتُ له: «الحمد لله على سلامتك»، مع وجه الإيموجي المبتسم الذي حلَّ مكان عينيه قلبا حبّ.

ليس فقط الحمد لله على سلامته، بل إن سلامته هذه كادت تجعلني أطير من الفرح، لأنه واحد من الأشخاص الذين تركتهم خلفي في درعا بعد أن غادرتُها في قوافل التهجير، وقد كنتُ قلقة جداً عليه، لأنه كان واحداً من مقاتلي الجيش الحر في إحدى بلدات ريف درعا، وشارك في أغلب المعارك التي شهدتها جبهات حوران من شرقها إلى غربها، ثم كان واحداً من آخر الذين وضعوا بنادقهم جانباً في الاجتياح الأخير لأرياف درعا الخارجة عن السيطرة، والتي تمكن النظام والروس من بسط سيطرتهم عليها صيف 2018 بالعنف التدميري الهائل، ومعه التسويات المزعومة.

سأعطيه في هذا النص اسم أمجد، ولن أذكر البلدة التي ينتمي لها حرصاً على سلامته، وهو كان قد فضّلَ خيار البقاء في درعا على خيار التهجير إلى الشمال السوري، وذلك بعد دخوله في حالة من التخبط والحيرة بين الخيارين الذين يحملّ كلٌّ منهما كثيراً من المجهول والخطر.

بعد دخولي إلى تركيا في شهر آب 2018،  تواصلت بصورة مقتضبة مع أمجد عبر واتس آب، كنتُ أخافُ أن يشكل تواصلي معه خطراً عليه، أو هكذا كنت أظن، وكانت تدور محادثتنا حول شرح أحوالنا بشكل سريع، ثم نختتمها بأن يوصي أحدنا الآخر بأن ينتبه لنفسه. تالياً،  وتحديداً في أواخر 2018، صار أمجد يطيل الحديث معي، ويسألني إن كنتُ أعرف طريقة يخرج فيها من سوريا، معلناً ندمه الشديد على خيار البقاء في درعا، وكثيراً ما كان يستخدم كلمات مثل: «كرهان حالي… مكتئب شيلا… ذبحتنا الخيانة… يا ريتني متت على الجبهات… والله يلي مات ارتاح».

كثيراً ما كنتُ أسأله عن أسباب كلماته تلك، لكنه كان يقول: «ما بدي أوجعلك راسك… يلي فيكي مكفيكي»، أما حين كنتُ أسأله وبالألغاز عن الوضع الأمني فكان يجيب: «على الله». لكن في ربيع 2019، صارت كلمات أمجد أفضل حالاً، وكذلك وضعه العام بحسب ما كان يؤكد لي؛ كان يطلب مني: «ادعيلي يزبط الموّال يلي براسي»، فأرسلُ له كلمة «يا رب».

إذن، كان «الموّال» الذي في رأس أمجد هو الخروج من درعا ومن سوريا كلها، بحثاً عن حياة أفضل، «فالحياة في بلدته لم تعد تحتمل» كما كان يقول.

تتبعتُ أمجد عن كثب منذ التقيته أول مرة صيف 2015، ورحتُ أصغي له جيداً وهو يحكي ويفضفض لي عن فترات مراهقته التي وعيها على مظاهرات درعا السلمية ضد النظام، مروراً بالفترة التي قرر فيها حمل السلاح مبكراً، وصولاً إلى اعتقاده بأنه صار خبير معارك وسلاح، ليصبح قائد فرقة عمليات الاقتحام في فصيله عندما أصبح في العشرين من عمره.

كثيراً ما كانت تجذبني فكرة أن أكتب يوماً عن تغيرات وتقلبات حياة أمجد، وليس دافعي إلى ذلك هو شخص أمجد فقط، بل لأنه من وجهة نظري يمثل جيلاً غيّرته الحرب والثورة في سوريا وغيّرت مسارات حياته بشكل جذري. لكنني في هذا النص سأترك ما تزدحم به ذاكرتي عن فترات حياة أمجد السابقة، ربما إلى وقت لاحق، وسأكتب فقط في هذا الفترة التي كنتُ بعيدة فيها عنه، والتي قضاها بين لحظة فرض النظام لسيطرته الكاملة على درعا وحتى لحظة وصوله إلى لبنان.

يفضّل أمجد، أو بالأحرى يلجأ مجبراً في مراسلاته معي عبر واتس آب إلى إرسال مقاطع صوتية، فهي تساعده أكثر من الكتابة على شرح ما يريد قوله، خاصة وأنه واحد ممن أدرجتهم الحرب ضمن قوائم الأجيال شبه الأميّة التي بالكاد تعرف الكتابة، ويساعدني هذا بالمقابل على أن استشّفّ من نبرات صوته حاله ومآله. لقد بدا في كلامه مرهقاً، وآسفاً على زمن ما قبل دخول النظام إلى درعا.

يقول أمجد: «بالنسبة لي ولعدد من الناس الآخرين، كان الوضع في درعا أفضل حالاً قبل دخول النظام، كنتُ أشعر بالفرح، وبأن لدي حياة لأعيشها»، ثم ترتفع نبرة صوته قليلاً: «لعن الله  تخاذل بعض قادة الفصائل، الذي قتل روح الثورة فينا. لم يقفوا فقط عند حدّ التخاذل في مسألة محاربة النظام، بل قادوا حملة لإقناع عناصر الجيش الحر والمدنيين أيضاً بالبقاء في درعا، وترهيبهم من فكرة الذهاب إلى إدلب، التي ستلقى مصير درعا نفسه ولكن بصورة أكثر عنفاً كما كانوا يقولون. وبالرغم من ذلك، وضبتُ أغراضي في حقيبتي، وخرجتُ لانتظار واحدة من أواخر قوافل التهجير، لكن سيارة ظهرت أمامي فجأة، وخرج منها قائد فصيلي بصحبة عناصر وقادة من الجيش الحر، وراحوا يجتهدون في إقناعي بالعدول عن قراري في المغادرة إلى إدلب، باعتبار أن الضامن الروسي قد وعدهم بأن الجميع سيكونون بأمان، مؤكداً لهم أن محرقة كبرى قادمة إلى إدلب. ثم خطفوا مني حقيبتي وأجبروني على الرجوع معهم».

عندما أرسل أمجد مقاطع الصوت التي يتحدث فيها عن أوراق التسوية، شعرتُ أنه يختنق، أو ربما أنا التي كنتُ أختنق: «لم تدخل قوات النظام بشكل رسمي وكامل إلى بلدتي إلا بعد إتمام عمليات التهجير، وإنهاء عمليات تسليم السلاح الثقيل التي كنتُ حاضراً عليها. بعد أسبوعين تقريباً من دخولها، بدأت عمليات تسليم أوراق التسوية للعسكريين أولاً، ثم للمدنيين. اجتمعتُ مع عناصر من فصيلي وتوجهنا إلى مقر تابع للأمن العسكري، وقفنا وراء بعضنا في طابور، ينتظر كل واحد منا الدخول إلى غرفة التسوية، التي يسجل فيها عنصر من النظام معلومات تتعلق بتاريخ التحاق كل واحد منا بالجيش الحر، مع تحقيق عن المعارك التي اشتركنا بها. يوضح العنصر (المحقّق) لكل واحد منا أن النظام سيتغاضى عن محاسبة أي واحد منا على قتل عناصر من النظام أثناء المعارك، ولكنه لن يغض الطرف عن أي شكوى قد يقدمها مدني ضدنا لأي جهة أو مؤسسة تابعة للنظام».

قلتُ لأمجد: «هذا يعني أن صفحتك سوداء عند النظام، فأنت شاركت في عشرات المعارك، لقد ولدتَ وفي يدك البندقية»، فيردّ: «لا، لا، أخبرتهم إنني التحقت بالحر منذ بضعة شهور،  والمعارك التي خضتها كانت ضد (الدواعش) فقط. وهكذا قال أغلب رفاقي».

يتابع أمجد: «اختلفت كل الأمور بعدها، وبدأت أحس بالتشتت الشديد، وبأنني أعيش في عالم آخر، في بقعة مختلفة من الأرض؛ ماذا يحدث؟ وكيف سأصدق أنني بمأمن من النظام، الذي بدأ ينتهج أسلوب الحيلة معنا لكي ننتسب إلى صفوفه فوراً. مرةً دعاني ضابط في النظام، تعرّفتُ إليه حين دخلت مجموعات المخابرات الجوية إلى بلدتي، دعاني مع أربعة من أصدقائي إلى سهرة في الربوة بدمشق يوم عيد الأضحى. أعطانا طبعاً أوراقاً موقعة من المخابرات الجوية، تخوّلنا المرور على الحواجز الأمنية دون أي سؤال، علماً إننا كنا نحمل سلاحنا الفردي، ونمشي دون هوياتنا أو أي إثباتات شخصية.

في السهرة أفصح  الضابط عن غايته، بعد أن “أحبّنا نحن دون غيرنا”، ورأى فينا عنفوان الشباب كما قال، وبصراحة كاملة أخبرنا أنه يعلم أن هناك قسماً كبيراً من السلاح الثقيل لم يُسلّم للنظام، وأنه يريد بالتعاون معنا معرفة مكانه والأشخاص الذين قاموا بإخفائه، إضافة إلى إخباره عن الأشخاص الذين يضمرون العداء للنظام. بالمختصر كان يريدنا أن نصبح “عواينية”، وبالمقابل سنتمتع بالحماية الكاملة من قبل المخابرات الجوية، وسنحصل على ميّزات مثل حرية التنقل بين درعا وباقي المحافظات».

يقول أمجد إنه دخل في شجار مع رفاقه نتيجة هذا الأمر، إذا كان بعضهم يريد أن يوافق على عرض الضابط، فيما كان هو يرفضه تماماً. يقول إنه حذّرهم من المصير الذي قد يلقونه إن امتهنوا “العواينية”، وهو تصفيتهم من قبل النظام نفسه، أو قتلهم من قبل الآخرين. ثم يرسل: «آآآخ بس، يا خسارة دم الشهداء»، وقبل أن أرسل له مُستفسرة عن سبب «آخه» تلك، أرسلَ لي: «استغربتُ قبول بعض أصدقائي العمل مع الضابط، مبررين هذا بأن كل الناس باتت تتعاون مع النظام وأولهم قادة الفصائل. مساكين… مساكين، لقد خدعهم النظام، ثم استمرّ في خداعه وكذبه عندما أبرم عددٌ من العناصر السابقين في الجيش الحر عقوداً مع الفرقة الرابعة والفيلق الخامس في جيشه، ربما خوفاً من الاعتقال، أو أملاً بالنجاة من خدمة العلم، أو بدافع المحافظة على شكلهم وسلوكهم العسكري الذي اعتادوه. وبموجب هذه العقود، يُفترض أن تنحصر خدمتهم في مناطق تواجدهم فقط، لكن بعد شهر واحد فقط نكث النظام وعوده وعقوده، وزجّ بهم على جبهات حماة وإدلب وفي الخطوط الأمامية، وفوق هذا كله دسّ خلفهم عناصر مراقبة تلاحقهم “على الدعسة”، والأنكى من ذلك أن الفترة التي يخدمها عناصر الجيش الحر مع النظام بموجب تلك العقود لا تُحستب من خدمتهم الإلزامية!».

يقول أمجد إن النظام رمى قناعه الملائكي سريعاً، وملّ من اصطناع اللين والتسامح، ورويداً رويداً بدأ يشن حملات اعتقال طالت كثيرين تحت تهم مختلفة. يقول: «انزويت في منزلي كئيباً، أخاف من الحديث حتى مع أقرب أصدقائي الذين تظاهرتُ معهم، ثم وقفتُ معهم جنباً إلى جنب على الجبهات ذات يوم، فالنظام زرع بين الناس رعباً بأنه يسمع حتى دبيب النمل. لقد أصبح الناس يخافون بعضهم بعضاً، بعد أن انتشرت ظاهرة التقارير الكيدية أو الانتقامية، التي استغلّها النظام لممارسة هوايته في الاعتقال، ودون التحقّق من مصداقية التقارير تلك».

لم يتغير ولن يتغير النظام، أحدّثُ نفسي وأنا أستمع إلى المقاطع الصوتية التي يرسلها أمجد، الذي يبدو أنه بعد أن حمل السلاح باكراً وعاش مراهقته ومطلع شبابه في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، راح يشعر بالضيق واستلاب الحرية، ليقرر الهروب من الجحيم: «تضيق الحياة بي، وإلى جانب هذا الضيق الشديد، أصبح الوضع الأمني الصعب يدفعني أيضاً للتفكير بالمغادرة، بعد أن بدأ النظام يُسيّرُ دوريات في النهار والليل، توقف الشباب وتنهال عليهم بأسئلة من قبيل؛ أين تذهب؟ ماذا تفعل هنا؟ لأي فصيل كنت تتبع؟ وقد يتم اعتقال الشاب إذا كان فقط قد نسي حمل ورقة التسوية معه!».

لكن الهرب من النظام لا يتم إلا بمساعدة النظام! هذا ما أخبرني به أمجد عندما سألته عن طريقة وصوله من درعا إلى لبنان: «غادر كثيرٌ من الشباب قبلي عن طريق تهريبهم من قبل ضباط في جيش النظام، مقابل مبالغ مالية كبيرة تصل إلى حدود 1500 دولار. وبالفعل تمكنتُ من التواصل مع ضابط له تجارب ناجحة سابقة في عمليات تهريب لشباب أعرفهم، وقد ساعدني على تجاوز كل الحواجز العسكرية، ثم عبور الحدود عبر تلال وعرة لا أعرفها، وصولاً إلى داخل لبنان».

إذا كان أمجد قادراً على الحركة في درعا بشكل محدود وتحت رقابة النظام الأمنية، وتحت الخطر الدائم بالاعتقال والانتقام منه، فإن مصيره سيكون الترحيل إلى سوريا وتسليمه لمخابرات النظام إذا ما اكتشف الأمن اللبناني وجوده أو أدنى حركة له، خاصة وأنه دخل إلى لبنان دون كفيل وبطريقة غير شرعية؛ هذا ما أخبرني به عندما سألته عن وضعه الحالي، ولذلك فإن لبنان لن يكون محطته الأخيرة، بل سيسعى إلى مغادرته إلى أي مكان وبأي وسيلة. يسألني أن أدعو له بأن «يزبط مواله الجديد»، فأرسل له كلمة «يا رب» مجدداً، ومعها وجه الإيموجي الحزين.