منذ بدء الخليقة والحجاب على رأسي، حتى اعتقدت أن المرأة عندنا تجيء إلى الدنيا والغطاء على رأسها.
لم يكن الحجاب بالأمر العسير ما دمت جزءاً من مجتمعي، فهو رمز إسلامهم، إسلام العادة والتقليد والثقافة، وأحياناً إسلام التدين. إنه المرآة التي تعكس حياة كل منهم، ما لونه وما شكله وما مدى نصاعته: أبيض بقطعتين لفتيات دمشق الصغيرات؛ وملون منقوش للشابات اللواتي يحاولن إبراز أنوثتهن بألوان صاخبة وأشكال متعددة؛ و«إيشارب» أبيض للنسوة المدينيات الملتزمات؛ وأسود حالك يغطي الذقون ويحجب أشعة الضوء عن مرأى نسوة الأرياف؛ ورث مهترئ للبائسات الفقيرات وما أكثرهن.
أن تفكر محجبة منا بحجابها، توقيته، لماذا وضعته، هل تحبه… كل هذه تساؤلات تثير سخرية من لم يُفرض عليها حجاب أو احتجاب. هؤلاء لا يعلمن عم أتحدث أو ما إذا كان الأمر بهذا السوء فعلاً. أما عند المحجبات، وسواء احتجبن قسراً أم طواعية، فهي تساؤلات أشبه بالانتحار لو كانت علنية.
لم أحبه يوماً، وكنت أشعر بالغيرة من صديقاتي الصغيرات عندما أدعوهن للّعب خارجاً فيربطن شعورهن بسرعة ويخرجن، فيما أنهمك أنا لنصف ساعة في محاولة وضعه بمنظر لائق يراعي طفولتي. هذا مع أني كنت أشعر أني الأكبر منهن دوماً بسببه. فقد كان بالفعل، كما كنت أراه، قبيحاً.
ربطتني به علاقة سيئة بسبب مشاعري التي كانت تعتريني فجأة بعد وضعه. كان جدالي سابقاً يتلخص بأني لا زلت صغيرة ولم أكمل 12 سنة، وكانت الردود صارمة: «لكنك تبدين أكبر من عمرك»، حتى كرهت عمري ونفسي. كانت ردوداً قاسية ولكن باردة وساخرة، واثقة باستحالة تحقُّق منالي، تخترق مسامعي كسهام مشتعلة؛ كانت أشبه بـ«نقطة على السطر»، «كلا» تعلن نهاية أي حديث حول الموضوع، إن جرى حديث أصلاً.
كالعديد من العائلات الدمشقية المحافظة، لم يكن لعائلتي من متنفّس اجتماعي سوى حلقات المساجد، فرحت أنشغل بعلوم الدين أكثر فأكثر، وأتعلم خطر التفكير بخلع الحجاب نهائياً، وأقضي أوقاتي بين قريباتي عند الأنسة هاء، والتي كغيرها من آنسات المدرسة تحيطها هالة قداسة ما. أذكر الطالبات والآنسات الباقيات عندما كن يقلن لها: «عم يشعّ نور من وجهك! ربي يكرمنا مثل ما أكرمك». لأكسر المسافة بيننا، اقتربت منها مرة:
«ممكن سؤال؟».
«إذا ضمن الحدود، تفضلي».
لم أعرف أي حدود وقتها. قصدت سؤالها عن وجهي وكيف يمكن أن يشع نوراً مثل وجهها، فقالت أن علي الالتزام بالحجاب، «فلا يرى وجهك مخلوق سوى محارمك وزوجك مستقبلاً». بدأت بذكر مفاتني – بحسب تعبيرها – وبالإشارة لآيات قرآنية وأحاديث نبوية حول عقوبة من لا تلتزم الحجاب، وأنه لن يقبل الزواج مني تقيّ صالح. كانت النهاية تشبه ردود عائلتي المعتادة حول النار والله الشديد العقاب، لأكره بعدها ارتياد الحلقات بعد أن شعرت بمؤامرات عائلتي مع الآنسة هاء الرامية لإقناعي بالحجاب.
حجاب مودرن
في ظل محاولات الجميع إقناعي بأن بإمكاني كمحجبة ممارسة ما يحلو لي، بات الحجاب أيضاً موضة يمكنني فيه مجاراة العالم ومواكبة أحداثه المتسارعة. بل إننا أصبحنا نرى عروض أزياء للمحجبات، فعارضة الأزياء الصومالية حليمة عدن ظهرت بأحدث إطلالة لها في مجلة سبورتس إلوستريتد وهي ترتدي البوركيني، وعلقت: «الحجاب لا يمنع من الحياة».
تستطيع المحجبة في زماننا هذا ارتداء ما يحلو لها من أحدث صيحات الموضة، من جينز ممزق أو ألوان صاخبة، أو من أنواع المكياج. بل إن كثيرات استبدلن الغطاء الكامل بما يسمى «توربان».
التلاعب على حقيقة أن «الحجاب لا يمنع من الحياة» أعتبره ضرباً من ضروب الخيال، نحاول تصوره وفرضه، وتخيل أن عالم للمحجبات لا يتناقض مع الحداثة. «نحن محجبات لكننا نفعل ما تفعله غير المحجبات». ولكن هنا بالذات يسقط الحجاب-المعنى ويفقد خصائصه وقيمته ويبتعد عن هدفه الأساسي، ويتحول إلى ورقة تبرئة من الأخونة أو الإرهاب. لا أعتقد أن ظهور المحجبة المودرن قد يُسقط عنها الصورة النمطية للمسلمة، وهي ليست مضطرة للدفاع عن نفسها بهذه الطريقة، فالمحجبة المودرن بنظر المجتمعات الغربية محجبة فحسب، وتبقى حليمة عدن وجميع مروجات «الوجه الآخر» للإسلام في الحقيقة مروجات لألبستهن وللماركات العالمية، ولسن مروجات للإسلام «المعتدل». ومن جهة أخرى أيضاً، ليست فرصة الظهور بحجاب مودرن بالأمر المقبول بالنسبة لبعض الفتيات في بعض المجتمعات، خاصة المحافظة منها، حيث تقع الفتاة في حالة شد وجذب بين من يقبل حجابها هذا ومن يرفضه.
لنبتعد قليلاً عن جميع هذه التشعبات. الحجاب المودرن قضية إشكالية؛ قد تراه المحجبات منفذاً لممارسة قدر من الحرية وفي الوقت نفسه حفاظاً على هويتهن الإسلامية، وهذا حقهن. ولكن…
أنا خلعت الحجاب لكن لا أزال مسلمة
الآن الفرصة مواتية لاتخاذ القرار. فأنا استطعت السفر خارج البلد، وابتعدت قليلاً عن مجتمعي الذي نشأت فيه. أتمتع بحرية الاختيار إلى حد مقبول، وأستطيع أن أقرر بين حجابي المودرن وبين خلعه.
الخوف سيد الموقف. حواسّي مشغولة جداً، تفكيري مستمر. أحيك سيناريوهات عديدة في رأسي. تَشغل تفكيري الخطوة التي ستلي خلعه وما سيترتب عليها. أفكر بالاشخاص الذين سينالون من سمعتي، وكيف سيعمل البعض على إيذاء والدي أو عائلتي بكلامهم المسموم. وكثيراً ما شغل بالي الله أيضاً؛ أخاف منه، من عذابه، بل أظن أحياناً بأنه يعاقبني إن فشلت في عمل ما لأنني أفكر بهذا الموضوع. كل ما أردته أن أكون من تشبهني حقاً. لا أريد أن أُوضع في قوالب جاهزة.
خلعت الحجاب بعد سنوات، لكني لا أزال مسلمة.
بعد أن أتممت عامي العشرين، وفي منتصفه تماماً. وبينما كان العالم منشغلاً بحروبه وثوراته، كان ثمة انشغال آخر قيد الحدوث: اجتماعات بالجملة، تضم كبار عائلتي، نساءها، صديقاتي المقربات. «من يجرؤ على خلع الحجاب!». حرب وأُعلنت. لا أبالغ. بينما كنت في ثورة داخلية، أجول بين أعماق ذاتي وأبحث في جسدي، في أناي، وأفكر بالمساحة التي على الجميع احترامها، لم يكن أولئك يُقرّون بوجود مسألة شخصية للغاية بالنسبة لي أو مساحات خاصة لي كفتاة.
الكثيرات من صديقاتي قطعن علاقتهن بي بعدما ضغط عليهن أهاليهن، خوفاً عليهن من بث أفكاري (التي من رجس الشيطان) في عقولهن. ثم انهالت علينا الزيارات برفقة المشايخ، حيث انتشر اعتقاد بأني مصابة بأذى أو سحر. وتكومت في غرفتي سيديهات دروس الشيخ راتب النابلسي وغيره. لم يعرفوا أني استمعت لهؤلاء مسبقاً. ولم يتوانَ شاب من ذوي القربى، واصلاً كان أم قاطعاً، عن إبراز حميّته وغِيرته على بنت الملة ودعوته لها للرجوع إلى الدين الحنيف.
كنشوة النجاح وتجاوز جميع محطات الخوف والتردد، يلسع الهواء رقبتي، تتدفق ذرات الهواء بين خصلات شعري معلنةً تمردها وتخطّيها ماكان يحجبها عن خلايا جسدي. تعجبني فكرة أن تقع عيناي على عين أحدهم أو إحداهن، كبائع الخضار، كحارس المكتبة، كجارتنا. يعجبني صدامنا وشجارنا، كلانا يعرف هذا. جميع ما يعجز الآخرون عن فعله يدور الآن في مخيلاتهم. أما جارنا المتدين فأتساءل ماذا يدور في رأسه: أن يضعني في زاوية ما ويرجمني حتى الموت مثلاً؟ ليستفيق بعدها من مخيلاته و«يَبرُم» رأسه ويبصق على الارض بصقة انتقام وتشفٍّ.
يرتبط عفاف المرأة «السنية» دوماً بحجابها وبقدر احتشامها. جسدها منقوشٌ عليه شرف الأسرة كلها. جسدها يحمل أعباء الحفاظ على عادات وتقاليد لا يمكن المساس بها؛ يحمل ثقل الدين كله. فالعورة أشبه بحامية تلك المنظومة، ركيزتها الوحيدة، فإن كُشفت هُدم كل شي على رأس تلك المرأة. لطالما تساءلت عن بطولات أجدادنا الغابرة، عن منجزات آبائنا، عن صبرهم على مُرّ الأيام. لا شيء يُستحضر لتمجيدهن سوى مديح القدرة على كبت جماح بناتهن وسَترهم لعوراتهنّ، وسائر التمجيدات التي تطال سحق وإلغاء الإرادة.
يظهر الجانب الديني فقط لتعزيز العُرف، كالتأكيد على نشوز السافرة. فالدين الإسلامي دينُ تكامل، والفرائض عماده. لم يهتم أحد ويسألني مثلاً إن كنت أقيم الصلاة، أو أؤمن بالله أصلاً، فقد كان لخلع الحجاب أثر أكبر في نفوسهم، بما هو إسقاط لرمزهم وعُرفهم وتحدٍّ لذكوريتهم. كان تحطيماً للقيود المجتمعية المحيطة بالفتاة الدمشقية، ابنة العائلة المحافظة، مع إسدال الستار على باقي النصوص والتشريعات. هكذا غدا الحجاب المخلوع سلاحاً يلوَّح به في وجه من تمردت عليه، لتعيش مقهورةً في دنياها وراجيةً أن يخلصها الله من عذاب الآخرة.
أنا اليوم خارجة عن ذاك المسار الذي رسموه لي. لست حجراً ولا لؤلؤةً ولا زمردة. أفتح الأبواب الموصودة وأتساءل دوماً. أبحث عن إجابات مشتهاة. لا أرسم حدوداً وشروطاً لعلاقتي مع الذات الإلهية، متفردةً أنا لوحدي بها. أبتعد عن أي اصطفافات. أرسم هوية خاصة بي، لا علاقة لها بمظهري. أُسدل شعري، أرفعه، أقصه. أنظر في المرآة ولا أكترث أن يُشعّ وجهي نوراً. أشعر بأشعة الشمس تلامس جسدي وتعوض كميات ڤيتامين دال الضائعة. وبينما أنا منهكة في حديثي، تخبرني إحدى قريباتي عن نيتها خلع الحجاب قريباً؛ وأخرى تخبرني عن شجاراتها مع زوجها لأنها سئمت قتامة لون حجابها وتريد تغييره؛ وصديقة ثالثة تحكي لي عن رفض والدَيها قرارها في التحجّب بعد أن وجدت نفسها فيه. وعلى الرغم من جميع تلك التناقضات، تبقى حكاية واحدة تجمعنا: قصص كفاح السوريات وعوالمهن الداخلية السرية؛ السوريات اللواتي لم ولن يرضَين بعد الآن بأن يحول بينهن وبين الخارج الرَّحب أكوامُ قُماش، سواءً أردنَ وضعها أم خلعها. وتجمعنا أسئلة نقف عندها دوماً: متى ستَهزم نونُ النسوة واوَ الجماعات، ومتى ستكسر تاءُ التأنيث الساكنة أنوفَ اللذين يريدون أن يُبقونا مرتهَنات للأعراف والسياسات ومستورات بأغطيتهم الاجتماعية والدينية، ومتى تُمسي حرية الاختيار والإرداة هي الفضيلة، ومتى يتعلمون أن يبقَوا بعيدين عن حيّزنا، عن حيز الأنا المنتهَك دوماً.