وجد الفنانون أماكن عرض افتراضية، صارت بديلاً في أحيان كثيرة عن صالات العرض الاعتيادية، مثل موقع  إنستغرام الذي صار معرضاً مفتوحاً لعدد غير محدود من الفنانين من كافة أنحاء العالم، يشاركون من خلاله أعمالهم الفنية أو الصور الفوتوغرافية التي يلتقطونها. ويجد محبو فن «الرسم التوضيحي»، أو الإيلستريشن «illustration»، في الانستغرام كماً كبيراً من الرسوم التوضيحية التي قد يصعب علينا أحياناً التأكد من اسم الفنان الذي أنجزها، لكن في أحيان أخرى تصبح أعمال الفنان مميزة بشخصية محددة أو نمط معين، يجعلنا نميز مباشرة هوية العمل وصاحبه. ومن أمثلة ذلك الرسوم التوضيحية التي يرسمها الفنان الإسباني جون كورنيلا، الذي يرسم قصصاً مصورة قصيرة تتصف بشدة فجاجتها وسوداويتها، وكذلك رسومات الفنانة الفرنسية سيسيل دورمو أيضاً، التي تُعنى بشكل خاص بقضايا النساء وتسخر من القيود المفروضة عليهنّ.

ويمكن تعريف الرسم التوضيحي بأنه الرسم المرافق للنص الأدبي أو المقالة أو القصة، ووظيفته هي إيضاح فكرة ما أو تقريبها إلى خيال القارئ بشكل مرئي، والتوقف عند جزئيات من الحدث الأكبر. وهو يختلف عن الرسم التشكيلي، لأنه ينطلق من النص المكتوب، في حين أن الرسم التشكيلي ينطلق من فكرة يكون للفنان حرية التعبير عنها. كذلك يختلف الرسم التوضيحي عن التصميم الغرافيكي، مثل تصميم اللوغو والإعلانات، ذلك أن التصميم الغرافيكي هو أحد حلقات الوصل التي تخاطب من خلالها الشركات أو المؤسسات فئة من المستهلكين، وعادةً ما يكون مكثفاً ومقتضباً، في حين يستفيض الرسم التوضيحي في شرح لحظة ما من القصة، أو تفصيل معين فيها.

وقد استفاد الرسم التوضيحي من التطورات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي كغيره من مجالات الحياة، وبعد ما كان مترافقاً مع قصص الأطفال أو القصص القصيرة المصورة، أصبح يمكن أن نجد لوحات تنتمي إلى عالم الرسم التوضيحي، وتنتج المعنى الخاص بها في الوقت نفسه، بحيث يصبح من الصعب تمييزها عن لوحات الفن التشكيلي، لا سيما وأن كثيراً من فناني الرسوم التوضيحية يستخدمون الكانفاس والألوان والطرق التقليدية في الرسم، ولا يعتمدون على برامج الرسم والتصميم الرقمية.

يوجد كثيرٌ من المشاركات لفنانات وفنانين سوريين في مجال الرسم التوضيحي، يحاولون التقاط صور يومية اعتيادية وتحويلها إلى لوحات تشرح نصوصاً مرفقة بها، أو تجسد حالات شعورية. وبالإضافة إلى العلاقة مع عنصر النص، باتت كثير من الرسوم التوضيحية تحمل في ذاتها معنىً اجتماعياً أو تصريحاً سياسياً. وفي هذا السياق تشاركنا الرسامة ديمة نشاوي تجربتها في مجال الرسم التوضيحي، وهي تحمل شهادة الدبلوم في علم اجتماع، إلا أنها طورت تجربتها الفنية بشكل ذاتي ومستقل أولاً في مجال الرسوم المتحركة، الذي عملت فيه منذ عام 2007. وبعد أن انتقلت إلى بيروت حيث تعيش الآن، وجدت في الرسم التوضيحي  إمكانية أكبر للتعبير عن المشاعر التي صارت تعيشها بعد الثورة والحرب.

على الرغم من أن رسومات نشاوي بدأت في مجال القصص المتحركة للأطفال، إلا أنها الآن صارت تتوجه للبالغين بشكل خاص. وقد نجحت في إيجاد نمط ونسق فني يميز أعمالها، إلا أن الجانب الآخر الذي طورته راح يتجاوز الالتصاق المباشر بين النص والرسم المرافق، وينتقل إلى مستوى جديد من العلاقة مع النص، مبينة على فهم المعنى والتقاط الإحساس المشترك، انطلاقاً من إحساسها بالمسؤولية تجاه ضرورة الوصول إلى التمثيل البصري الأفضل الذي يتناسب مع أفكار كاتب النص أو المقال. وتصبح هذه المهمة أصعب عندما يتناول النص حكايا أناس آخرين، وهنا تؤكد نشاوي على ضرورة إيجاد علاقة تآخٍ مع النص، بدلاً من الترجمة البصرية للنص المكتوب.

© ديمة نشاوي
© ديمة نشاوي

بالإضافة إلى ذلك، تكشف رسومها عن إحساس عال بالجماعة والبنية الشعورية المشتركة لفئة واسعة من السوريين القلقين والمتعبين من واقع الحرب واللجوء، كما أن كل  شخصية من شخصيات لوحاتها يولد منها فردٌ آخر، طفلٌ أو رجل، ويمتد الشعر ليصبح مدينة، غابة، أو سحابة مطر، ليكشف عن ذاكرة مخبأة لا تريد لها أن تتلاشى. ذلك عدا عن أن الشخوص في لوحات نشاوي تبدو معلقة في لحظة زمنية فاصلة بين وقوع الحدث ولحظة استيعابه، وكأنها محاولات ذهنية لاستيعاب الغياب والموت واللجوء.

© ديمة نشاوي
© ديمة نشاوي

أيضاً من عالم قصص الأطفال، ومن مجال أكاديمي بعيد عن الفنون هو الأدب الانكليزي، برزت الرسامة هيا حلاو في مجال الرسم التوضيحي لقصص الأطفال. ورغم أن الشخصيات في لوحاتها متشابهة إلى حدٍّ ما في ملامحها الخارجية، كونها تعتمد على  تقنية «الخطوط البسيطة» التي تستخدمها نفسها في رسم قصص الأطفال، إلا أنها تتمايز من خلال التعبير الشعوري الذي تجسده. وقد اختارت حلاو نسقاً لونياً، سواء في قصص الأطفال أو اللوحات الموجهة للكبار، يعبّر عن القلق الطفولي وبحثه عن أجوبة لأسئلة تبدو بسيطة، إلا أنها أسئلة وجودية ترتبط بإدراك الفرد لذاته، وبعلاقته مع البيت والعائلة والوطن.

وانشغلت حلاو في السنتين الأخيرتين بالتركيز على البورتريهات، وتقول لنا: «ما أردته فعلاً هو أن أنقل وجوه الحرب، الملامح الشاحبة، المرعبة أحياناً، الجنونية أحياناً أخرى. ما زلتُ أحاول أن أصل إلى تعبير أو وجه يلخص ما شعرتُ به خلال السنوات التسع الماضية». ويبدو ذلك واضحاً في المجموعة الأخيرة التي أنجزتها حلاو، وهي مجموعة من البورتريهات لوجوه الناجين من الحرب، تجسد الندبَ الخفية التي تركتها في أنفسهم، واختارت في رسومها خيطاً ناعماً يلتف على أعناق شخصياتها، يُشعرهم بالاختناق والموت البطيء الذي يبدو محتموماً. وهي تؤكد أن مجمل الرسوم التوضيحية التي ترسمها علاجٌ ذاتيٌ بالدرجة الأولى، يساعدها في التعبير عن ذاتها وفهم ما خلقته سنوات الحرب واللجوء في داخلها.

أما الرسّامة مروى فليون، فهي تروي لنا أنها اختبرت تحولاً في المسار المهني، من دراسة المحاسبة والعمل في المجال المصرفي البعيد كلياً عن الفن والرسم، إلى رسامة تُشارك معنا رسومها التوضيحية على إنستغرام. وعلى الرغم من الجانب الذاتي البارز في تجربة فليون، إلا أننا نجد في الوقت نفسه اهتماماً واضحاً بالجانب النسوي، والقضايا الاجتماعية التي تمسّ النساء، بدءاً من علاقاتهنّ مع البيئة المحيطة والقيود المجتمعية، وصولاً إلى علاقتهنّ بالجسد، والبحث عن الحب والجنس. وبالإضافة للتحديات التي تواجهها، والتنمر المجتمعي الذي تتعرض له نتيجة تطرقها بوضوح للجسد والرغبة الجنسية، تتحدى مروى المعايير السائدة  للجسد الجميل عندما ترسمه مجعداً، أو بشعر أشعث وأسنان مكسرة، مع استخدام ألوان فاقعة تعكس درجة من التوتر والغضب الداخلي الناتج عن تفاصيل ومواقف تتعرض لها النساء في حياتهنّ اليومية.

© مروى فليون
© مروى فليون

© مروى فليون
© مروى فليون

ثمة تشكيك في صواب استخدام مصطلح الفن عند الحديث عن الرسم التوضيحي، بحجة أنه فن «تجاري»، يُنجَز وفقاً للمحتوى المطلوب منه، وعليه تتم عملية البيع والشراء، بالإضافة إلا أنه صار يُستخدم بكثرة  في الإعلانات التجارية للشركات الكبرى، ذلك عدا عن الاعتماد الكبير فيه على برمجيات الرسم وتقنيات الطباعة المتطورة، وهي الحجة التي تجعل كثيرين يستخفّون بالجهد المبذول في الرسم التوضيحي، خاصة مع وجود مجموعة خيارات متاحة في هذه البرمجيات، تسمح بضبط الإضاءة والتدرجات اللونية والأبعاد وغيرها من التعديلات، التي يمكن إنجازها رقمياً، في حين أنها تتطلب جهداً يدوياً ووقتاً أطول في اللوحات الفنية التشكيلية. ذلك بالإضافة إلى أن هناك موقفاً شائعاً بين النقاد والفنانين عند الحديث عن الفنون بشكل عام، والرسم بشكل خاص، ينتقد الرسائل البصرية المباشرة.

ولكن، دفاعاً عن الرسم التوضيحي، سواء تم إنجازه من قبل رسامين هواة أو محترفين، وسواء استُخدمت فيه البرمجيات كما في رسومات مروى فليون أو الرسم التقليدي كما في رسومات ديمة نشاوي وهيا حلاو، فإن هذا النوع من الرسم، وخاصة بوجود البرمجيات المتطورة، أتاح لعدد كبير من محبي الرسم  ممارسة هذا الفن، والتعبير عن الذات والبنية الشعورية لمرحلة استثنائية من حياة السوريين، تماماً كما أتاح فيسبوك لجميع الناس منبراً للتعبير عن أنفسهم بالكتابة. وإلى حد ما، تبدو المعايير النقدية الأكاديمية، التي يتم على أساسها تصنيف فن الرسم التوضيحي على أنه رسم تجاري وأقل أهمية من الفن التشكيلي، معاييرَ متشددة، تؤطر الرسم التوضيحي ضمن تعاريف نظرية تتجاهل أن الوضوح لا يعني المباشرة بالضرورة، وأن محتوى هذه الرسوم يمكن أن يعكس ملامح الفترة الزمنية الراهنة التي ينتمي لها الرسامون، ويكشف في بعده الذاتي عن محاولات لاستيعاب ما جرى خلال سنوات الثورة والحرب.