يقول تقريرٌ أصدرته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة «الفاو» أواخر العام 2018، إن نحو 5.5 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ويحتاجون إلى شكل من أشكال المساعدات الغذائية، من بينهم ما يتراوح بين نصف مليون وثمانمائة ألف نسمة شمال محافظة إدلب فقط. ولم تصدر حتى الآن تقارير مفصلة حول الإنتاج الزراعي ومستويات الأمن الغذائي في سوريا لعام 2019، إلا أنه بالنظر إلى العمليات العسكرية الواسعة التي ينفذها النظام السوري وحلفاؤه في موسم حصاد القمح والشعير، وبالنظر إلى مجمل الظروف المحيطة بالإنتاج الزراعي في الشمال السوري، فإن أعداد الأشخاص الذين سيعانون من انعدام الأمن الغذائي في أرياف إدلب وحماة وحلب مرشحة للارتفاع هذا العام.
ويشكل ريف حلب الجنوبي الخزان الأكبر لمحاصيل القمح والشعير في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، حيث وصل إنتاج القمح فيه خلال العام 2018 إلى نحو 120 ألف طن، ذلك بالإضافة إلى المزروعات الصيفية العديدة. إلّا أن المساحات المزروعة في هذه المناطق تراجعت بنسبة تزيد على 60% هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة، نتيجة سيطرة قوات الأسد على مناطق جبل الحص وتل الضمان، ونتيجة انعدام الاستقرار في المنطقة، وذلك بحسب المهندس الزراعي خليل الشعّار، الذي قدّر المساحات المزروعة حالياً هناك بما يقارب سبعة عشر ألف هكتار.
تدوير الزراعة
مع اقتراب موسم حصاد القمح والشعير من نهايته جنوب حلب، يستعدّ المزارعون لتجهيز أراضيهم للموسم الصيفي، الذي يُشكّل دورة الزراعة الثانية للأراضي ذاتها، ويتضمن زراعة الذرة البيضاء بالدرجة الأولى، إضافة للقطن والذرة الصفراء وعبّاد الشمس والملوخية والبطاطا والخضار الصيفية، وذلك بعد الانتهاء من الموسم الشتوي الذي تغلب عليه زراعة القمح والشعير والبقوليات واليانسون والبطاطا الشتوية، وذلك بحسب علي حاج ديبو، الموظف السابق في منظمة إيكاردا الدولية وأحد أبناء المنطقة.
ويتوقع ديبو تراجعاً حاداً في الموسم الصيفي المقبل، نتيجة الوضع الأمني غير المستقر جنوب حلب، وتعرض المنطقة للقصف الجوي والمدفعي، خاصة على الخط الممتد من جنوب بلدة العيس وحتى جزرايا.
حرائق مقصودة
تُقدّمُ مشاهد نشر محاصيل القمح والشعير في الساحات العامة، التي تم حصادها قبل نضجها، تصوراً عاماً عن خوف المزارعين من الحرائق التي أودت بمحاصيل كثيرة لهذا العام، والتي شملت ما يزيد عن أربعة آلاف دونم من الأراضي الزراعية في المنطقة، بحسب إبراهيم الحاج، مدير المكتب الإعلامي لمديرية الدفاع المدني في حلب، الذي أضاف أن «الدفاع المدني كان قد سجل 67 نقطة حريق طالت المحاصيل الزراعية جنوب حلب هذا الموسم».
وتتواجد في ريف حلب الجنوبي أربعة مراكز للدفاع المدني، في كل من العيس والزربة وتل حديا والأجز، مزودة بسيارة إطفاء واحدة في كل منها، وقد عملت كلّها على إطفاء الحرائق طوال فترة موسم الحصاد.
ويُحمّل الحاج مسؤولية الحرائق التي وصفها بـ «المقصودة» لقوات النظام، التي استهدفت المحاصيل الزراعية بالقذائف والصواريخ المحملة بمادة الفوسفور الحارق، كما حدث في السادس والعشرين من أيار الماضي في محيط قرى كوسنيا وتل حديا والبوابية، حيث أدت صواريخ الفوسفور إلى حرائق امتدت لعشرات الكيلومترات فيها. ذلك إضافة إلى ما يعرف بالبالونات الحرارية التي تُسقطها طائرات الاستطلاع، والمحملة بمادة الهيدروجين التي تتفاعل مع حرارة الجو ما يؤدي إلى حريق صغير سرعان ما ينتشر في المحاصيل الجاهزة للحصاد. وقد سجل الدفاع المدني إسقاط طائرات استطلاع النظام لهذه البالونات في أربع قرى هي العيس وكوسنيا وبانص والكماري، ذلك طبعاً بالإضافة إلى الحرائق الناتجة عن العوامل المناخية والإهمال مثل رمي أعقاب السجائر وغيره.
نقص في المياه وزيادة في الأمراض والآفات
يقول المهندس الزراعي خليل الشعار إن ما يزيد على نصف المحاصيل الزراعية الشتوية قد تعّرضَ للتلف هذا الموسم، وذلك بسبب انتشار الآفات والأمراض الزراعية، وأهمها «الصدأ» الذي طال حقول القمح الطرية، وهو مرض فطري يصيب القمح بسبب زيادة الرطوبة، وكذلك «الشلل والذبول» الذي أصاب حقول الكمّون، نتيجة تقلب درجات الحرارة الكبير خلال فترات زمنية قصيرة، إذ ضربت المنطقة موجات من البرد الليلي الشديد، التي أعقبتها حرارة مرتفعة في النهار.
من جهته، يرى أحمد أبو يامن، وهو أحد مزارعي جنوب حلب، أن العائق الأهم يكمن في نقص الموارد المائية، خاصة للمواسم الصيفية، وذلك نتيجة إيقاف النظام تدفق مياه نهر قويق إلى المنطقة، الذي كان يشكل المورد الأهم لمياه سقاية الأراضي. وكانت سلطات النظام قد أوقفت المضخات الرئيسية المتواجدة بالقرب من مشفى الكندي في حلب منذ العام 2011، ولم تقم حتى اللحظة بتشغيل العنفات التي كانت تستجرّ المياه من نهر الفرات وتروي مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية جنوب حلب، لتصبّ في مُجمّع مياه كبير يطلق عليه محلياً اسم «السبخة»، تتجاوز مساحته مئات الهكتارات.
ولم تنفع الحلول البديلة المتمثّلة باللجوء إلى شبكات ري عبر الآبار الارتوازية في سدّ الفجوة التي خلّفها قطع مياه نهر قويق، وذلك بسبب الأكلاف الباهظة لهذا النوع من السقاية، نظراً لغلاء الوقود وضعف أسعار مبيع المحاصيل.
زيادة في الكلفة وضعف في التسويق وضرائب عالية
تراوحَ المعدل الوسطي لإنتاج القمح في العام الحالي من أربعة إلى خمسة أطنان للهكتار الواحد، أما بالنسبة للشعير فقد تراوح بين طنين إلى ثلاثة، كما يقول أبو مالك، أحد أصحاب الحصادات في جنوب حلب. ويقدّر المهندس الشعار كلفة زراعة الهكتار من القمح المروي بما يقارب مئتي ألف ليرة سورية، مع ارتفاع أسعار البذار والسماد، التي وصلت إلى مئتي ليرة لكيلو بذار القمح ومئة وسبعين للشعير وعشرة آلاف ليرة لكيس السماد الواحد من أنواع ذات جودة متدنية، فضلاً عن المبيدات الحشرية التي تبلغ كلفتها ثلاثة عشر ألف ليرة للهكتار الواحد.
مقابل تلك الأكلاف العالية، لم تقم أي جهة، حتى اللحظة، بطرح أسعار لشراء محصول الشعير في المنطقة، وتركت الأمر معلقاً بيد التجار، بسعر يتراوح بين خمسة وثمانين إلى تسعين ليرة للكيلو الواحد، وهي أقل من الأسعار التي حددتها وزارة الزراعة في مناطق سيطرة النظام ودائرة الزراعة في مناطق سيطرة قسد. فيما أدّى إغلاق المعابر وانعدام التصدير وغلاء أجور النقل إلى لجوء المزارعين لبيع محصولهم في مناطق تواجدهم، أو تخزينه بانتظار حلّ يغطي أكلاف زراعته.
أما بالنسبة للقمح، فقد أعلنت وزارة الاقتصاد التابعة لحكومة الإنقاذ، وهي الجهة المسيطرة على إدارة المنطقة، عن استعدادها لشراء مادة القمح عبر مديرية التجارة والخزن، من خلال مراكز تم تحديدها في كل من مدينة إدلب وسراقب والأتارب وحزانو، وذلك بسعر 135 ليرة للكيلوغرام الواحد من القمح القاسي المشوّل و130 ليرة للدوكمة، وبسعر 133 ليرة للقمح الطري المشوّل و128 ليرة للدوكمة، وقد بدأت باستلام المحاصيل عبر هذه المراكز منذ الأول من حزيران الجاري.
كذلك فرضت الهيئة العامة للزكاة، التابعة لوزارة الأوقاف في حكومة الإنقاذ، في تعميم أصدرته في 30/5/2019، «زكاة الزروع» على محصولي القمح والشعير، محددة نِصاب التكليف بـ 672 كيلو غرام للقمح و552 للشعير، بمعدل عشرة بالمئة للبعل و5 بالمئة للمروي.
مساعدات زراعية خجولة
يقول المهندس الشعار إن الوضع الزراعي جنوب حلب يواجه صعوبات كبيرة رغم طبيعة الأرض الزراعية الخصبة بعلاً ورياً، والتي تعرف بـ «سبخة المطخ»، إذ ليس هناك أي مراعاة لظروف المزارعين من قبل أي جهة كانت، سواء الجهات المسيطرة إدارياً وعسكرياً، أو المجالس المحلية في كل قرية وبلدة ومدينة، أو حتى المنظمات العاملة في المنطقة، التي لا تقدم دعماً للفلاحين يساعدهم على زراعة أرضهم وتحسين إنتاجهم إلا فيما ندر، وفي مناطق محددة ولمرة واحدة، الأمر الذي أجبر المزارعين على زراعة محاصيل معينة لقلة تكاليفها وسهولة تأمين بذارها ومبيداتها الحشرية وتصريف إنتاجها، كالقمح والشعير في الشتاء والذرة البيضاء في الصيف.
وتقوم بعض المنظمات، عبر قسم الدعم الزراعي فيها، بتقديم مساعدات للمزارعين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ومنها مؤسسة بناء للتنمية التي قدّمت دعماً صيفياً وشتوياً تضمّنَ بذاراً وأسمدة ومبيدات ومادة المازوت من أجل الري، بالإضافة إلى حملات توعية للمزارعين حول الأمراض والآفات الزراعية، استهدفت قرى الزربة وبرقوم والشيخ أحمد والكماري والبوابية والكسيبية وجب كاس. وقد شمل هذا الدعم 770 مستفيداً للمحاصيل الشتوية في ريف حلب الجنوبي من أصل 2100 مستفيد من كامل المشروع، و937 مستفيداً للمحاصيل الصيفية في ريف حلب الجنوبي من أصل 2719 مستفيد من كامل المشروع، وذلك بحسب فراس الأحمد مسؤول المشروع في المنظمة.
كذلك دعمت منظمة مسرّات الإنسانية جزءاً من المزارعين في قرى البوابية والكسيبية والشيخ علي وعرادة والقناطر وكفر حلب، بمشاريع قمح للعائلات المقيمة بمعدل 50 عائلة في كل قرية، إذ دعمت زراعة مساحة أربعة دونمات مروية لكل مستفيد، يحصل من خلالها على 80 كغ من بذار القمح و100 كغ سماد يوريا و50 كغ سوبر فوسفات، بالإضافة الى 100 دولار كبدل أجور ري، تم توزيعها على دفعتين. كما تمّ إجراء تدريب على الممارسات الزراعية الحديثة، بالإضافة لمشروع «النقد مقابل العمل» لترميم الطرقات الزراعية في القرى المستهدفة بمشروع القمح، حيث تم تشغيل 50 عاملاً لمدة 88 يوماً، أجرة اليوم الواحد 8 دولارات، قاموا خلالها بترميم الطرق الزراعية بمادة البحص، وذلك بحسب سامر الحسن مشرف فريق حلب الزراعي في منظمة مسرّات.
على الرغم من المعارك وتردي الأوضاع في البلاد، كانت مساحة الأراضي المزروعة بعلاً وريّاً في ريف حلب الجنوبي أواخر العام 2016 تزيد على 82 ألف هكتار، وذلك بحسب عمل إحصائي قام به المهندس والخبير الزراعي الاستاذ محمد عيسى الخلف آن ذاك. أما اليوم، وبعد سيطرة النظام على أجزاء واسعة في المنطقة، وتحويلها إلى ساحة عمليات عسكرية مستمرة، وبعد الظروف المناخية والاقتصادية والسياسية والأمنية المتراكبة، فإن مساحات الأراضي المزروعة فيها تناقصت إلى ما دون 20 ألف هكتار، وهو ما يهدد المنطقة بانهيار كامل للأمن الغذائي إذا لم تتغير الظروف الراهنة.