عود وغيتاران ومُغنيّة، من بلاد مختلفة، ومدارس موسيقية متباينة، عزفوا مقطوعات موسيقية، وذلك بعد قراءة شعرية مرفقة برسوم كوميكس احترافية. محتوى بصري وسمعي مختلط، يُعزَف لجمهور مختلط: كان هذا نتاج عمل مكثف لمنحة إقامة «مَرّ» الفنية لهؤلاء الفنانين، تم تقديمه أواخر أيار الماضي في مدينة اسطنبول التركية.
وقد حاول القائمون على منحة «مَرّ» الفنية إعطاءها اسماً يحمل بعداً رمزياً، فهو يعني بالفرنسية الحبل أو السلسلة أو الوثاق الذي يربط السفينة بالمرسى، وبالعربية تحمل اللفظة في أحد معانيها هذا المعنى نفسه، ومن خلال هذه المنحة، يتم تقديم مكان لتعريف الفنانين ببعضهم بعضاً، وإقامة ورشات عمل مشتركة، تؤدي إلى خلق أعمال مشتركة، وتنتهي بعرض هذه الأعمال على الجمهور.
يريد القائمون على هذه المنحة إعطاء الفنانين اللاجئين في المنافي، وتحديداً في تركيا ولبنان وفرنسا، فرصة للتعرف على العاملين في الوسط الفني في أماكن إقامتهم، من فنانين وتقنيين ومخرجين، وذلك بهدف إتاحة الفرصة أمامهم لفتح آفاق جديدة، كانت حواجز اللغة والعمل لتحصيل لقمة العيش وصعود الخطاب العنصري تسدّها، وتضيّقُ الخيارات أمام العاملين في مجال الفن، الذي يؤمن كثيرون بأنه «لا يُطعم خبزاً»، وأنه يجب أن يكون على هامش عمل آخر يستطيع الإنسان من خلاله أن يُعيل نفسه.
الفن هنا، إذن، كعادته، هو وسيلة للتقريب والتواصل، وتجاوز محاولة إثبات إمكانية العيش المشترك، إلى إثبات أن فتح الأبواب الموصدة هو سبيلٌ واضحٌ وممكن إلى خلق الجمال والفن وإحياء التراث المشترك، كما أنه أيضاً أداةٌ للتأكيد على المساحات المشتركة، التي تسعى معاول ضيق الأفق إلى تجاهلها وطمسها، في خضم جهدها الحثيث لحفر الخنادق وبناء المتاريس بين البشر.
هذه هي النسخة الثانية من المنحة، وشارك فيها في اسطنبول الفنان السوري عماد حبّاب برسوم مستمدة من نصوص لطلال بوخضر، ومن المفترض أن تتحولَّ رسوم عماد ونصوص بوخضر إلى رواية مصوّرة بعنوان «غيوم صلبة». وخلال العرض أيضاً، أقام كل من عازف العود السوري علاء الخطيب، وشقيقته بيداء الخطيب، وعازف الغيتار كوينتين بوفير، وعازف الغيتار الكهربائي أوميت آيدنلك، حفلة موسيقية، امتزجت فيها الموشحات بتقاسيم العود وموسيقى الفلامنكو وموسيقى الجاز. وقد تمّ تجاوز الاختلاف الكبير بين هذه الأنماط الموسيقية في العرض، الذي وجد صيغة لخلق الانسجام بين هذه الآلات والمدارس، وإن كان يمكن تجاوز بعض الهفوات الصغيرة بمزيد من التدريب المكثف.
كلير زرهوني، واحدة من المسؤولين في مهرجان كورنر إن ذا وورلد، وهو الشريك المحلي للمنحة في تركيا والذي يرعى نشاطات فنية دورية، تقول في حديث للجمهورية إن «مشروع مَرّ بدأ في 2017، وكان من تصميم وإخراج حمّانة أرتيست هاوس في لبنان، وكان مهرجان كورنر إن ذا وورلد الشريك والمنسق للمشروع في تركيا. ويقدم هذا المشروع منحاً للفنانين التي يتم اختيار مشاريعهم في كل من فرنسا ولبنان وتركيا»، مضيفةً أن كل شريك محلي في المنحة يختار عدداً من المشاريع، ويتم توزيع المنحة على الفنانين عبر الشركاء المحليين بناء على ذلك.
وقالت زرهوني إن الهدف من المشروع كان في الأساس «تقديم مكان في كل من هذه البلدان الثلاثة للفنانين في المنافي، يمكّنهم من العمل لفترة معينة، للبحث وإنتاج جزء من أعمالهم، إضافة لتعريف الفنانين بالعاملين في الوسط الفني في الأماكن التي يقيمون فيها، لإنشاء علاقات تمكنهم من التخطيط لمشاريع مستقبلية إن أرادوا»، مشيرة إلى أنهم يحاولون مواصلة العمل مع الفنانين حتى بعد انتهاء المنحة من خلال مشاريع مهرجان كورنر إن ذا وورلد في تركيا أو شبكة معارفه: «لانا شميط على سبيل المثال، هي راقصة كانت قد شاركت في نسخة المهرجان الماضية، وهي الآن تتحضر للذهاب إلى فرنسا، بهدف المشاركة في ورشة عمل للرقص المعاصر هناك. ما أريد أن أقوله أن منحة مَرّ فتحت المجال أمام الشركاء المحليين للتعاون وتبادل الخبرات والتجارب، بحيث لا يقتصر التعاون مع الفنانين على وقت المنحة والعروض، ونحن نعمل على استمرار البرنامج مستقبلاً لزيادة المشاركين وتطوير فكرة المنحة بهدف توسيعها».
من جهته، يقول الفنان عماد حبّاب للجمهورية، وهو رسام سوري مقيم في اسطنبول، إن المنحة «عرّفتنا على المكان الذي تواجد فيه فنانون من جنسيات مختلفة، وكان هذا فرصة لمعرفتهم عن قرب ومعاينة أعمالهم. وكان هناك أيضاً فنانون مسرحيون شاركوا في مهرجان كورنر إن ذا وورلد بعروض أداء، وكانت العروض جميلة للغاية».
وأضاف حبّاب أن العمل الذي قدمه مع الكاتب طلال بوخضر «من المفترض أن يتحول إلى رواية مصورة بجهود القائمين على المهرجان، حيث تم العمل على جزء منها خلال المنحة، وسيستمر حتى انتهائه»، لافتاً إلى أن نصوص بوخضر «لها عمق نفسي وفلسفي، وتتمحور حول الاغتراب والحالات النفسية اليومية لمن يعيش في مدينة غريبة».
وأشار حبّاب إلى أن المنح من هذا النوع «توفر الفرصة للوصول على معارف يملكون اهتمامات مشتركة في المدينة التي يُقيم فيها الفنان، ما يساهم في زيادة شعوره بالألفة، وتمكينه من مشاركة الأفكار والصعوبات مع الآخرين»، لافتاً إلى أنه العمل مستمر على الرواية، التي تم تقديمها والترويج لها رغم اكتمال جزء منها فقط خلال فترة المنحة.