أبدأ الكتابة ويرافقني ألم شدّ عضليّ في الظهر، منذ قليل كنت أمارس بعض التمارين الرياضية التي من شأنها تقوية العضلات وحرق مزيد من الدهون المحيطة بها، فهذا ما تعلّمته في الأشهر القليلة الماضية عن كيفية حرق الدهون بواسطة تقوية العضلات، وهو أمر معروف وبديهيّ لدى كثيرين، لكنني كنت أتجاهله وأسعى لغيره طويلاً!

أبالغ إذ أدّعي أنني من ذوات السمنة المفرطة، قد أكون من صاحبات الوزن الزائد، لكنني دوماً كنت أصنّف نفسي «سمينة». منذ أربع سنوات، وبعد انتقالي لأعيش في اسطنبول، بدأت أتضخّم وأزداد وزناً وكآبةً وكسلاً، عندها بدأتُ أدركُ أنني لم أكن سمينة سابقاً، ولكنني أصبحت كذلك الآن! أذكر منذ حوالي ثمانية أشهر عندما رأيت هذا الرقم على الميزان (98)، كيف أصابتني نوبة ضحك هستيرية! أعتقد أنني تجاوزت هذا الرقم في الأسابيع اللاحقة لذلك اليوم، أجزم أنني تجاوزت الـ 100كغ، غير أنه ليس لديّ دليل رقميّ على هذا الوزن سوى إحساسي بأنني سأنفجر من الضخامة، 100 كيلو غرام مع طول يتجاوز الـ 170 سم، جعلا منّي ضخمة، «صرت قدّ البناية»!

أسخر كثيراً من نفسي، ومن وزني، حتى أنني أخبرت جميع أصدقائي أنني تجاوزت المئة، وكنا نجعل من شراهتي أضحوكة ونكتة دائمة! وكان شعار تلك المرحلة أغنيةٌ ظريفةٌ من مسلسل الوصية المصريّ، كانت أيضاً إحدى مصادر ابتسامتي الساخرة من ذاتي.

*****

قد يكون من المتوقع لكثير من السوريين اليوم سماع قصص عن تغيرات جسدية وفكرية ونفسية، غالباً ما تكون سلبية وقاسية على أصحابها، فالحرب انتشلتنا من حياة كنا نعتقد أننا نمتلكها، بعثرتنا ودمرتنا وقصفت كياناتنا، وجعلتنا يتامى في عالم موحش لا رحمة ولا عدالة فيه؛ لستُ بصدد الحديث عن الحرب، لكن ما أعيشه اليوم هو أحد نتائجها عليّ. وقد أكون من القلّة الذين نجوا، أو من الذين نجوا ظاهرياً، لكن تأثير الحرب والبعد، وتناثر أغلب معتقداتي السابقة، بالإضافة إلى كثير من الهموم والمشاكل المعقّدة، كلّها أمورٌ جعلت من طرقاتي الواقعية والنفسية مليئة بالمطبات والخنادق والحفر، التي لكلّ منها مشاكله وهمومه وصراعاته. وبعيداً عن الخوض في تأثيرات الحرب المباشرة، أدعوكم لمعرفة قصتي مع الوزن الزائد، وكيف تخلّصتُ منه في ثلاثين ثانية:

عندما أعود بالذاكرة رجوعاً، أجد نقّاط علاّم مرتبطة بالصفوف الدراسية، ولا ذاكرة تأريخية قوية لديّ سوى بهذه الطريقة. في صيف تأهلي للصفّ السابع، وبسبب شقاوتي وحركتي الدائمة، وقعتُ وانكسر كاحل قدمي اليمنى ثلاثة كسور، وبعد عملية جراحية وتخديرٍ عام للجسد، عدتُ إلى بيتنا مع جبيرة تغطي كامل قدمي وساقي حتى الفخذ، مرفقة بألم شديد، ودلال تكاد لا تنساه كلّ العائلة.

أثناء عودة عظامي المكسورة إلى حالتها الطبيعية، بدأت تظهر علامات مراهقتي؛ حواجب عريضة تكاد تغطّي وجهي، شاربٌ أسود، صدرٌ برز من جسدي، حوض وأوراك، وتمدد في طول اليدين والساقين وكامل الجسد! أذكر كيف فوجئتُ عند نزع الجبيرة وشعرتُ بالخجل الشديد من منظر ساقي وبطّتها المتدلية المكسوة بشعر أسود، ولكنني فوجئتُ أكثر بطولي، فعند عودتي للمشي دون استخدام عُكّازيّ التسنيد، لاحظتُ أنني قد ابتعدت كثيراً عن سطح الأرض. أذكر دهشتي تلك بتفاصيلها، حتى أنني تمسّكت بها حتى يومنا هذا، فكثيراً ما أحاول النهوض والنظر إلى الأرض، ثم أعيد الجملة ذاتها في رأسي: «بعيدة كتير عن الأرض ولوووه!».

ترافقَ نموّي المفاجئ السريع مع آلام تبدو لي اليوم منطقية، لكنني حينها كنت متألمة وكارهة لنفسي وما هي عليه من تحولات وتغيرات، من الدوار الدهليزي والدوخة الدائمة المرافقة لكلّ نهوض سريع، إلى الألم العام والوهن، انتهاءً بشعوري الدائم بأوجاع في ظهري وركبتيّ وكلّ عظام مفاصلي. سألني الطبيب في أحد الأيام عن شكل الألم الذي أشعر به، وفاجأه جوابي إذ قلت: «بحسّ في دود عم ياكل عظامي، لدرجة إني بسمع صوت القضم».

انتهت عطلة الصيف التي قضيتها مع جبيرتي، تلك الجبيرة التي ازدادت ألوانها وتنوعت يوماً بعد يوم؛ أحزن وأندم كلّما خطر في بالي عدد الأشخاص الذين كتبوا أو رسموا عليها، كان يجب أن أحتفظ بها، أو بصورة واضحة لها، لكنني لم أفعل!

منذ صغري وأنا كثيرة الحركة، لعبت كرة القدم والسلة والطائرة، وكنت أقود البسكليت لساعات طويلة. كنتُ في أوائل المرحلة الابتدائية عندما لمع نجم الرياضيّة السورية غادة شعاع، وأذكرُ جيداً أن جارنا الختيار الذي كنت أحبّه وأحب زيارة بيته كثيراً، كان يقول لي باستمرار «إنتي بطلة أكتر من غادة شعاع»، فكثيراً ما كان يستيقظ صباحاً ويجدني أركب البسكليت في محيط بيتنا وبيته.

لكن حركتي خفّت قليلاً بعد حادثة كسر الكاحل، وفي الفترة الزمنية نفسها بانت عليَّ علامات المراهقة، في حين أنها لم تظهر على صديقاتي وأصدقائي إلا بعد مضيّ عام تقريباً على ما أذكر، ومن هنا بدأت تتسرب إلى عقلي أفكار مفادها أنني سمينة. لم أستوعب أنني أنتقل لمرحلة جديدة، وأن هذه الضخامة في عدة أماكن من جسدي ليست إلا علامات المراهقة؛ كنتُ أعتقد أننا جميعاً ومعاً سنتأهل للمراهقة كما تأهلنا إلى الصف السابع!

بدأ الصف السابع، وكان بالإمكان التمييز بيني وبين زملاء صفّي صبياناً وبناتاً، كنتُ الأطول بينهم جميعاً، بنحو 10 سم كحدّ أدنى، وهكذا تسلل شعور الأمومة إلى داخلي، وفي مواقف كثيرة كنت أتبنّى زملاء الصفّ، ونتعامل فيما بيننا وكأنني الأم أو الأخت الكبرى. أصبحتُ في وقت مبكّر حلّالة مشاكل الشلّة! وساخرةً كنت أقول لهم «أي أنا الحاوية اللي بتكبّوا فيها زبالتكن»!

بدأتُ أتقمّص دور الصديقة الواعية، المتزنة، التي يلجأ الجميع إليها للبوح وكتم الأسرار، تحوّلتُ من طفلة البيت المدللة حدّ الإفراط، إلى الواعية المُتّكل عليها. تقمّصنا جميعاً الدور، وعشناه معاً. لكن ذلك كله كان مترافقاً مع علاقة متوترة مع جسدي الذي كان يبدو لي ضخماً أكثر مما هو في الواقع، ذلك أنني لم أتهيأ للمراهقة، ولم يحكِ أحدٌ لي شيئاً عنها. كنتُ الأصغر سناً في العائلة، وكان قدومي إلى هذه الحياة «غلطة» كما تقول لي أمي مازحةً، أما إخوتي وأخواتي الأكبر فقد كانوا شباباً في طفولتي، لذلك لم ألحظ مراهقتهم ولم ألتقط منها شيئاً يساعدني على الفهم.

أصبحتُ مراهقة فجأة، وأصبح لدي جسد أنثوي في غفلة سريعة مني. تعرضتُ لتحرش جسدي مبكراً، ولم أدرك حينها أن هذا تحرّش، لكنني فزعتُ واضطربتُ وكرهتُ جسدي وما أنا عليه. ارتبكتُ جداً عندما لمسني ذلك الشخص، ولم أعرف ماذا يجب أن أفعل، خفتُ أن أنهره أو أن أشيَ به لأحد من أهلي.

خلال السنوات القليلة التالية لتلك الحادثة، كرهتُ ذاتي ومُحيطي وكل العلاقات الاجتماعية المبنية على العشوائية والاطمئنان المفترض بشكل مُسبق، وبعد أن فهمتُ معنى التحرش بشكل فعلي، تحولتُ إلى لبوة أنقضُّ وأنهش أي محاولة أو نظرة أو كلمة تعيدني إلى ذلك الشعور الخانق، شعور أن ينظر أحدهم إليَّ أو يلمس جسدي بطريقة «اغتصابية».

كرهتُ جسدي مبكراً، فبسببه كنتُ أتعرضُ  لكلام ونظرات مؤذية، كرهتُ طولي وأنوثتي ولمعان شعري وعضلات ساقي الضخمتين؛ كرهتُ نفسي كلها حتى تمنيتُ أن أكون ظلاً أو شجرة، أن أكون صبيّة غير مرئية، لا أحد يهتم بها إن مرّت أو تحدّثت، لتبدأ عملية لا واعية من دفع الذات إلى الهامش، وكانت طريقتي هي عدم المبالاة بمظهري وجسدي وطعامي.

قد يكون ما أنا عليه اليوم من قسوة تجاه كثير من الأشخاص، وعدم سماحي لكثيرين بالدخول العشوائي إلى حياتي، ومشاركتي بهمومهم وأفكارهم، هو ردّ فعل لا واعٍ على تلك المرحلة المضطربة. وقد تكون تلك الجملة التي خرجت مني عشوائياً أمام أصدقائي، وأصبحت عبارةً أرددها كثيراً لأنني أُعجبت بتركيبها، «بحس إني حاوية الزبالة تبع مشاكلكن»، مفصلاً أساسيّاً في ما عشته من شراهة وأكل «الأخضر واليابس» لاحقاً، وكأن جسدي هو حاوية لأسوأ أنواع الطعام والشراب!

وعلى سيرة الأخضر واليابس، خلال السنوات الأربع الماضية، كنت آكل أيّ شيء يقع تحت يديّ، كل المأكولات والحلويات والمكسرات والمعجنات واللحوم، كل شيء تماماً عدا القريدس والكاليماري والسوشي! لم ينجُ منّي إلا الطعام البحري هذا، وما تبقى كنت ألتهمه (دون مضغ) في كثير من الأحيان، آكل وآكل حتى أشعر بالتخمة والألم في معدتي.

*****

سأنتقلُ  إذن في كتابتي سريعاً إلى ما بعد العام 2012، حين قُصفت حياتي كما أغلب السوريين وكانت السنوات العجاف قاسية على كثير منّا. أسبابٌ مختلفةٌ حفرت أنفاقاً في داخلي، بتُّ هشّة وحزينة وتائهة على هذه الأرض المتحرّكة باستمرار، كنتُ بسذاجة أعتقد قبلها أن الأرض ثابتة تحت قدميّ، ولكن هيهات، تتحرك وتهتزّ وتُقصف أيضاً.

تصدّعت كثيرٌ من الأفكار والمبادئ الطفولية التي كنتُ أعتقد بها، لفحتني رياح التغيير بقوّة، اهتز كلّ كياني وكانت الأخبار القاسية والموت والدمار تسيطر على يومياتي كما أغلب السوريين! تصدّعتُ بحقّ. ومنذ صيف 2017 لم أعد قادرة على العمل، فقد شلّ «الاكتئاب» قدرتي، وطرحني مكسورة اليدين والقدمين والتفكير والأمل. شعرتُ بخطب ما يصيبني، وما كان منّي إلا أن لجأتُ سريعاً إلى طبيب نفسيّ، وبدأتُ العلاج ومعركة النهوض مجدداً، وقد احتاج نهوضي ما يقارب سنة ونصف، ساعدني خلالها علاجي الدوائي والطبيب النفسيّ الذي يشرف على حالتي الصحيّة، وصديقي الذي كان ولا يزال شمس استيقاظي اليوميّ من عتمة الاكتئاب تلك، بالاضافة لإصراريّ اليوميّ على العودة إلى الحياة.

كان من ضمن العلاج الذي مارسته، ذهابي اليوميّ إلى النادي الرياضي، فقد أقنعني صديقي أن الدواء لن يسري في دمائي إلا إذا تسارعت حركتها في الشرايين والأوردة، وعند عودتي إلى البيت كنتُ آكل وأنام، ثم أنهض وآكل وأنام. لم يكن نوماً في الواقع، بل كنت أعاني من القلق وقلة النوم بشكل شبه يوميّ بسبب الاكتئاب، لكنني أقصد هنا الاستلقاء الطويل فقط. شيئاً فشيئاً تضخّمت، وصرت «قد البناية»!

كانت متعتي الوحيدة هي التهام الطعام، أبالغ هنا، فلم أكن أستمتع بأي شيء، لكن يصحّ القول إن لا شيء كان يستطيع تعديل مزاجي أو إزاحة ذلك السواد من أمام عينيّ سوى الحلويات «المسقسقة قطر ومليانة قشطة». لم أكن أستطيع منع نفسي من مواصلة التهام الطعام، ما يوقفني كان ألم التخمة فقط، وحالما يختفي الألم أعود للطعام مرة أخرى. في هذه الدوامة المفرغة كنت أشعر بالإحباط، وكره الذات، والفشل أيضاً. كنتُ أبحث عن تلك الصبية المفعمة بالحيوية والنشاط، ولا أجدها سوى في صور قديمة، كانت رؤيتها تزيد من إحساسي بالإحباط والفشل والعجز.

في كل يوم كان يزداد تراكم الدهون وكسل العضلات وكره الذات، كانت علاقتي مع الطعام علاقة غريبة، وغير مفهومة، فهو ما يشعرني بالرضا، وفي اللحظة اللاحقة لتناولي إياه يكون سبباً رئيسياً لكآبتي وغضبي من وعلى نفسي. كنت أكره «ني»، أكره شراهتها، وضعفها أمام جبروت وإغراء الطعام، وكنتُ تائهة في تلك الدوامة المفرغة التي تكبر رقعتها داخلي يوماً بعد يوم! نسيتُ كيف يكون شعور الجوع، واعتدتُ على شعور التخمة والامتلاء، تمنّيت في ليالٍ كثيرة أن أشعر بالفراغ في أمعائي وأن أنام «خفيفة»، وكنتُ أُسعدُ عندما يصيبني الإسهال أو عندما استفرغ، فلن يخلّص أمعائي من كثرة الطعام سوى ذلك!

لجأتُ بغير وعيي إلى السخرية من ذاتي ومن شراهتها، علّي أخفف من وطأة ضعفي أمام ذاتي. ولا أخفيكم أنني حاولت كثيراً وفشلت، جربت أن أخسر بعضاً من وزني الزائد عن طريق تقليل كمية الطعام دون حرمان نفسي من أيّ نوع قد أرغب بتناوله، لكنني كنت أنتهزّ أيه فرصة لأغشّ، وأبدأ بالتهام الطعام سريعاً كي لا أراني؛ نعم، أدرك أنني أتحدث عن نفسي وكأنني شخصيتان، لكنني كنت أشعر بأنني أنشطر، وما يدور في رأسي من قرارات وأفكار، لا يشبه ما تقوم به ذاتي، على الأقل أمام ذاتها!

لجأتُ لقراءة مقالات ودراسات تتحدث عن الصحة، والنظام الغذائي، وأضرار السُمنة، كما أنني تابعت أغلب الأفلام والوثائقيات المتعلقة بالصحة، والرياضة والريجيم، وتغيير نمط الحياة إلى أسلوب صحي، وأغلب الوثائقيات الصحية التي تعرض على نتفلكس. كلُّ ذلك كان يعطيني جرعة صغيرة من قوة الإرادة لأبدأ التغيير، لكن سرعان ما كانت تتلاشى وكأن شيئاً لم يكن، وفي كل يوم كانت تكبر دوامتي المفرغة وتتوسع.

انتبهتُ عن طريق الصدفة، عند مشاهدة برنامج تلفزيوني ساخر يتحدّث عن تأثير السوشيال ميديا على ثقة المرأة بنفسها، أنني ضحية من آلاف الضحايا، ولم أكن أدرك ذلك من قبل. كانت تزداد تعاستي بعد كلّ تصفّح للإنستغرام، على الرغم من أنني لا أتابع إلا صفحات قلّة قليلة من الأصدقاء، وبعض الصفحات العامة. كانت رؤية الأجساد الرشيقة، والثياب الجميلة والابتسامات والنزهات واللقاءات، تزيد الفجوة بيني وبين الحياة، وأصعبُ لحظاتي كانت عندما أنظر في خزانة ملابسي وأرى كثيراً من الملابس المحببة، لكنني لا أستطيع ارتداء أي منها، فقياسها لا يتناسب أبداً مع قياسي الحاليّ! ليست صور الجميلات الرشيقات ما كان يزيد توتري الداخليّ، بل ما كان يزعجني حقاً تلك الصفحات التي يظهر فيها أشخاص يمارسون تمارين رياضية بنشاط ومرونة… كنتُ أغار من مرونتهم.

لكنني كنت قد قطعتُ شوطاً مهماً في محاربة الاكتئاب، وأقول مجدداً إن ذلك كان بمساعدة الدواء والطبيب النفسي وصديقي، ومعهم كلهم ذاتي، التي ساعدتني بإصرارها وصبرها ومحاولاتها المتكررة على الرغم من تكرار الفشل. كنتُ أنهضُ وأسقطُ ثم أنهض وأسقط، وكانت تزداد معاناتي مع كل فشل، فانتكاسات الاكتئاب كانت مؤلمة ومظلمة، كانت تجعلني… «كئيبة».

مع تحسني واستعادتي بعض العافية الجسدية والنفسية، بدأتُ أشعر تدريجياً أن نبعاً بدأ يسيل كالسواقي الخفيفة داخلي، نبعاً يفيض ويروي قحط سنوات طويلة. وببطء شديد، أصبحت مُهيّأةً لتغيير لا أدركه ولا أعرف ماهيته؛ لقد أصبحتُ مستعدة نفسياً لمرحلة أخرى.

لجأتُ إلى طبيبي النفسيّ مجدداً، فلم أعد أقوى على تحمّل مزيد من الإحساس بالفشل وقلة الثقة بالنفس والغضب، أخبرته عن دوّامتي المفرغة اليومية التي أعيشها، وكيف ألجأ إلى وضع كثير من الطعام في جوفي، كأنني أعاقب ذاتي على فعل ما، لا أدركه؛ قال: سأطلب منك أن تفعلي التالي، ويجب أن تصغي وتنفذّي ذلك بحذافيره: كل لقمة تأكلينها تضعين مثلها في كيس، كل مشروب ترتشفينه تضعين مثله في الكيس ذاته، وفي نهاية اليوم انظري لذلك الكيس، وتعالي لنلتقي بعد أسبوع!! سمعتُ ما قاله وشعرت أنني سأغيب عن الوعي، بدأت أمعائي تنقلب وبدأت أحارب رغبتي في الاستفراغ، شعرتُ بالقرف الشديد، لم أقوَ على تخيّل حجم الكيس في نهاية اليوم، حقاً سأغيب عن الوعي!

في أقل من ثلاثين ثانية تغيّر شيءٌ ما في داخلي؛ هل يعرف الطبيب أين يوجد زر الإرادة في النفس البشرية، فقام بتشغيله؟ هل مجرد تخيّلي للكيس في نهاية اليوم هو ما صدمني وأفاقني من غيبوبتي؟ أم أن الطبيب وضع مرآة نفسية أمامي؟ أفكر باحتمالات كثيرة، ولا أجد جواباً محدداً، قد تكون كلّ الاحتمالات التي تخطر في البال مجتمعةً هي ما غيّرت من قدرتي على التحكّم في ذاتي، لكنني أعرف جيداً أن ذلك التمرين التخيّلي غيّرني.

*****

أكتب هذا النص بعد مرور أشهر على ذلك اليوم، واعتباراً من 1 شباط 2019 بدأتُ أعيش أياماً مختلفة، خسرت حتى اليوم 14 كيلو غراماً من وزني، أمارس التمارين الرياضية في كلّ يوم، أتحكم بكمية ونوعية الطعام الذي آكله، وبدأت أشعر بالخفّة في روحي أيضاً، فلم يكن وزني الزائد يجثم على قلبي وأعضائي الجسدية فقط،  لكنه كان يثقل روحي، يؤلمها، ويُعيق شفاءها!

لم تكن الأيام والأسابيع الأولى سهلة أبداً، فكثيراً ما كنتُ أستيقظ ليلاً من الجوع، و أصارع رغبتي في التهام الطعام، أو أخوض معركة مع أمعائي التي تصدر أصواتاً مزعجةً كإزعاج الشخير أو أكثر، ولا تنتهي الصعوبة بانبثاق الصباح، بل تبدأ معركة جديدة هي الأصعب، مع مقاومة كلّ الأطايب التي أراها في البراد أو على موائد الطعام أو أثناء خروجي إلى الشارع. أصبحت عيني كعدسة الكاميرا التي تلتقط صوراً جميلة جداً لكل أصناف الطعام، ونادراً ما كان يقع نظري على غير رفوف وواجهات مزينة بأصناف الحلويات والمكسرات، أو صور للهمبرغر واللزانيا والمعكرونة وغيرها وغيرها.

في مسيرة سيطرتي على غذائي، حاولتُ وفشلتُ في بعض الأيام، لكنني في أغلبها قاومت وانتصرت على مغريات مأكولات عديدة، وكثيراً ما كنتُ أبتسم لنفسي ليلاً،  فها أنا أنام خفيفة، كما كنتُ أتمنى، واستعدتُ شعور الجوع بعد أن نسيته لمدة طويلة. إنه شعور مؤلم، لكنه ممتع قليلاً!

لم تكنّ كلّ الأشياء التي قرأتها أو شاهدتها مفيدةً، لكن أظن أنني امتلكتُ نوعاً من الوعي الصحيّ بعد متابعة كلّ ذلك؛ وبالفعل، بعد تراكم كمية كبيرة من المعلومات المتعلقة بالغذاء والجسد، بدأتُ أغيّرُ نظامي الغذائي، ليس من أجل متابعة خسارة الوزن فقط، ولكن لإدراكي مدى تأثر جسدي وروحي وأفكاري بما أتناوله، فامتناعي عن تناول الخبز السوريّ الأبيض، أو أي نوع من أنواع خبز الطحين، لمدة شهرين متتاليين، وضعني أمام معرفة جديدة تقول إن جسدي يتأثر سلباً كلما تناولت هذا الخبز. لقد وضعني الطعام أمام خيار واضح، وكأنه كان يقول لي: تستطيعين أن تأكلي هذا النوع من الطعام، لكنه بالمقابل سيؤثر عليك بهذه الطريقة، وأنتِ اختاري!

أتمنى لكل إنسان يخوض معركةً مع وزنه الزائد، أن يجد من يشغّل له زر الإرادة ذاك، أو أن يجده بنفسه ويقوم بتشغيله. هي تجربة معقدة، وقد تكون مؤلمة في أكثر الأحيان، لكنها تستحقّ أن نعيشها.

هذه قصتي مع خسارة الوزن الزائد، هكذا أصبحتُ أكثر خفّة.