نحن لسنا بخير، لازمةٌ ترافق سكان الشمال السوري وهم يستقبلون العيد، ذاك ديدنهم في السنوات الأخيرة، إلّا أن العيد في هذا العام غلبت عليه ملامح اليأس والخوف، وتعمّقت في أحاديثهم سيرٌ عن الحنين والذاكرة، الذاكرة القريبة التي لا يزيد عمرها عن أسابيع من التهجير والفقدان، وتلك الغصة القديمة لتهجير بدا أبعد زمناً حتى غابت تفاصيله.

«الألم الجديد قضمَ رائحة البيوت القديمة والأزقة ولون العيد في حلب»، يقول أبو محمد المهجر قسرياً من مدينة حلب إلى معرة النعمان، ليكمل وهو يتكئُ على مسند تحت شجرة زيتون غدت بيته الجديد: «كل ما يخطر في بالي الآن أن أعود إلى مكاني البديل في المعرة، حلب باتت بعيدة جداً». يدندن الرجل أغنية تراثية عن حلب «درب حلب ومشيتو  كلو سجر زيتون»، ويشير إلى العيد في العراء، «هذا عيدنا».

عشرات الآلاف من العائلات السورية تقضي عيدها في الهواء الطلق، ليست هذه فسحة للشواء ولعب الصغار، بل هي واقعٌ أُجبرت عليه عائلات كثيرة بعد أن عزّ الحصول على بيت ولو كان على شكل خيمة تحمي أعين صغارها من الغبار الذي يملأها نتيجة نسائم الهواء المختلط بتراب الأرض. يقول أحمد، وهو أب لخمسة أطفال من ريف حماة، إنهم تركوا ألبسة الصغار التي اشتراها للعيد في منزلهم هناك، ليحوقل وهو يمسح دمعة سقطت رغماً عنه «يالله… الحياة أهم».

«العيدية كانت وافرة» بحسب الناشطين، الذين أحصوا خلال أيام العيد سقوط ما يزيد على ألفي قذيفة صاروخية ومدفعية على قرى وبلدات ريف إدلب وحماة وحلب، مصدرها قوات الأسد والقوات الروسيّة، وراح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى من المدنيين، إضافة إلى تقدم قوات النظام وسيطرتها على قرية القصابية في ريف إدلب الجنوبي، وأنباء عن حصارها لجبل شحشبو الاستراتيجي في المنطقة.

«بالرغم» هي كلمة أخرى تداولتها ألسن السكّان في مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية، ليؤكدوا من خلالها على أحقيتهم بالعيد، وعلى استمراريتهم في الحياة بالرغم من التصعيد الهمجي الذي تشهده المنطقة منذ نيسان الماضي، وخسارة عدد من القرى والبلدات. كانت مدينة إدلب والقرى والبلدات المحاذية للشريط الحدودي مع تركيا قد شهدت مظاهر للعيد، أبرزها الازدحام في الأسواق، وتوافر المستلزمات الخاصة بالعيد، إضافة لألعاب الأطفال التي فتحت أبوابها وشهدت إقبالاً جيداً.

ألعاب العيد في الأتارب بريف حلب الغربي
ألعاب العيد في الأتارب بريف حلب الغربي

يقول مهند السعيد، صاحب متجر للألبسة في إدلب، إن إقبالاً لا بأس به شهدته الأسواق خلال فترة الأعياد، وهو ما أكدته تقارير صحفية عن انتعاش في أسواق مدينة سرمدا الحدودية خلال الفترة ذاتها. أما عن ألعاب الأطفال، فيقول أبو أسعد من مدينة إدلب إنّ الأراجيح و«قطارات الفرح» وألعاب الأطفال قد انتشرت في المدينة.

«لازم الولاد يعيّدو»، تقول فاطمة العلي من مدينة إدلب، وهي تشرح لنا أن العيد للأطفال، وأن فرحهم تحدٍّ لقوات الأسد التي تريد قتل الأمل في نفوس الجميع، مؤكدة أنهم سيقاومون الموت بالحياة، وهو ما أخبرنا به أيضاً علي السطيف خلال اصطحابه لأطفاله إلى حديقة المدينة: «أشعر بالخوف والحزن والقهر أيضاً، لكن الفرح بالعيد ليس بُعداً عن الواقع، بل هو ما تبقى لنا من مقاومة في وجه آلة الموت»؛ يرفع الصغار أيديهم بإشارة النصر فيما يبادلهم والدهم بالابتسامة.

الكعك المنزلي كان السمة الأبرز لهذا العيد، تقول السيدة خديجة أم محمد، التي لاحظت عودة «رائحة الكعك وصناعته بين نساء حارتها»، وهي تعلّل العودة إلى خَبز الكعك المنزلي على نطاق واسع بغلاء أصناف الحلويات الجاهزة التي اعتاد الأهالي تقديمها في العيد في السنوات الأخيرة، ثم تحرك يديها بإشارة استفهام وهي تقول «أو يمكن الناس بدها تزرع بسمة على وجوها، اشتقنا للفرح».

ويبقى أن هناك آخرين رفضوا تقبّل التهاني بالعيد، واكتفوا بمشاركة صور الدمار والخراب التي خلفتها الطائرات، لكن حتى في الخيام وبين أشجار الزيتون، ظهرت ملامح للعيد وبعض القهوة المرّة، في محاولة للتغلّب على ما يعيشونه من ألم.

زيارة العيد تحت أشجار الزيتون
زيارة العيد تحت أشجار الزيتون

أخبار الموت والنزوح حرمت آلاف العائلات من ممارسة طقوس العيد، وتداولت وسائل التواصل الاجتماعي تعاميم صادرة عن الدفاع المدني تحذّر الأهالي من زيارة المقابر، الذي هو طقس يرافق معظم المدن السورية خلال اليوم الأول من العيد، وذلك خوفاً من استهدافهم بالطائرات الحربية، وتجنباً لمجزرة جديدة تُرتكب بحقهم. يقول رائد اليوسف من جبل الزاوية إنهم زاروا المقابر من بعيد، حيث العشب غطى «شاهدات القبور»، وقرأوا الفاتحة لأرواح من فقدوهم ثم عادوا أدراجهم.

أما في المناطق الواقعة تحت سيطرة فصائل مدعومة تركياً شمال حلب وشمالها الشرقي، وهي المناطق التي تشهد حالة استقرار نسبي لبعدها عن المعارك الدائرة، فقد خلّفَ تفجير سيارة مفخخة في مدينة إعزاز يوم «وقفة العيد» أكثر من ثلاثين شهيداً وعشرات الجرحى، ليحمل معه مظاهر الفرح «الناقص بالأساس». يقول حميد الخطيب وهو يصف لنا توقف الحياة بعد لحظة من التفجير: «كل شيء مات في دقيقة، وحلّ انتظارُ قائمة الشهداء محلّ ألبسة العيد وحلوياته».

بالنسبة للمهجرين قسراً من أنحاء سوريا إلى الشمال، فالأغلب أنه لا قبور لأحبائهم يمكنهم زيارتها. يستذكرُ المهجّر أحمد أبو عمر، وهو يشير إلى الجنوب، قبور الأحبّة والشهداء التي تركوها في مناطقهم، ويتحدث عن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها سكان المخيمات، والتي ساهمت هي الأخرى في الحدّ من مظاهر العيد؛ يقول أبو عمر: «يحاول الجميع إفراح أطفالهم قدر استطاعتهم، إلّا أن أيديهم كانت قصيرة… قصيرة جداً».

وبعيداً عن الأطفال، كانت كلمة «بتذكر» لازمةً تتكرر هي الأخرى، في استعادة لشريط من الحيوات التي رافقت المهجرين قسراً؛ يكمل أبو عمر «أعدنا تذكّر كل شيء، كان العيد فرصة لاستعادة الذاكرة وتوثيقها، ولقد دُهشت من كمية المشاهد ذات الصلة بالعيد التي تحتفظ بها ذاكرتنا، ومن كمية المجازر التي ارتكبت بحقنا خلال كل الأعياد التي عشناها زمن الثورة».

ولم تفلح القذائف وصواريخ الطائرات في إقناع السوريين القاطنين في تركيا بعدم العودة لزيارة قراهم وبلداتهم في الشمال السوري خلال إجازة العيد، كما لم يفلح خبر استشهاد شاب من العائدين في معرة النعمان بضربة جوية في إبطال مفعول الحنين للعودة ومشاركة الأهل في سوريا عيدهم، إذ أعلن معبر باب الهوى الحدودي بالقرب من مدينة سرمدا عن دخول 38080 زائراً لقضاء إجازة العيد.

يقول سليمان الأحمد من جبل الزاوية: «أنتظر كل عام هذه الفرصة للدخول ورؤية والدتي وأقاربي ومشاركتهم العيد، أشعر بأن ثقلاً من تأنيب الضمير يُزاح عن كاهلي في كل مرة أعود فيها إلى بلدي. لم نغب مرة عن الشعور بأننا نتشارك المصير نفسه»، ويصف لنا مظاهر العيد «فرحة أمي بقدومي كانت أقوى من كل الطائرات، كانت قد صنعت لي كعك الزرد الذي أحبه من يديها، قبّلتُ أقدامها فحصلتُ على عيديتي».

ماهر الاسماعيل قال إنه لم يكن يظن الوضع بهذا السوء: «خلال ذهابي إلى إدلب حيث يسكن من تبقى من عائلتي، كان منظر النزوح قاسياً حتى أنه قتلَ فيَّ كل رغبة بالعيد. التزمتُ البيت منذ وصولي، أما عن العيد فأكتفي بالتدخين والقهوة».

أمام خيمتها في «مخيم قرطبة» بريف حلب الغربي، تجلس الطفلة سيدرا من قرية معرزيتا رافضةً المشاركة في العيد، تخبرنا: «جينا لهون من تحت القصف وعيّدنا هون، ما عنا غراض عيد وما اشترينا، رفقاتي مانهون هون بس أنا بدي عيّد عندهن، ورايدة روح على بيت خالتي وبيت جدي… بدّي عيّد عندهون، بدي عيّد بضعيتنا، وعيّد على أخواتي… أخواتي كمان مو هون».