تظهر العروق الزرقاء بوضوح على قدميّ السيدة العجوز وهي تنحني لالتقاط رأس الملفوف، تتحرك بصعوبة، ويبدو الألم على وجهها المتغضن. أيقظها من نومها صوت الشاويش (المسؤول في المخيم)، الذي اخترق شادر خيمتها عند الرابعة صباحاً منادياً إياها للالتحاق بالأخريات للذهاب إلى حقل الملفوف. لم تستطع مقاومة السُّباب الذي تلقته. لفّت الوشاح الملون على رأسها وفوقه قبعة للشمس، وخرجت إلى حيث كان الجميع ينتظرونها. وقفت في الصف حتى أحصى الشاويش عدد الفتيات والسيدات، حدد عدد المجموعات والمواقع التي ستعمل بها، وهو يذكرهنّ بوجوب تسجيل أسمائهنَّ عند زوجته حالما يعدن من الحقل حوالي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، لكي تَحسب أجرتهنّ.

يتكرر هذا الأمر بشكل يومي دون توقف طالما أن العمل في الحقول مستمر، وليس هذا العمل جديداً بالنسبة لجميع النساء العاملات اللواتي اعتادت بعضهن على المجيء للعمل في بداية الربيع، خصوصاً من المناطق الشرقية ومن ريف حلب، يقطنَّ في خيم تعود للشخص الذي ينسّقُ مع ملّاك الأراضي لضمان أراضيهم ومحاصيلهم، ثم يعدنَ إلى سوريا حالما ينتهي حصاد المحاصيل.

مع ازدياد الوضع سوءاً في سوريا لم تعد كثيرٌ من هذه العائلات إلى منازلها، واستقرت في المخيمات نفسها، التي بدأت بالازدياد والتوسع، ومن بينها المخيم الذي تعيش فيه تلك السيدة. كان الشاويش المسؤول عن المخيم، الذي استأجر الأرض التي تمّت إقامته عليها، يقوم بتأجير الخيام فيه بأسعار أقلّ، مقابل أن تعمل كل النساء القادرات على العمل في المشاريع الزراعية التي يضمنها. وتتراوح أجرة الخيمة من 666 إلى 566 دولار (مليون إلى 850 ألف ليرة لبنانية)، ولكن في حال عملت الفتيات في الزراعة مع الشاويش، سينخفض المبلغ إلى حوالي 333 إلى 400 دولار (500 إلى 600 ألف ليرة لبنانية).

تختلف أنواع المخيمات التي يقطن فيها السوريون في لبنان، إذ يخضع بعضها لإدارة الجمعيات المحلية أو المنظمات الدولية مثل مفوضية اللاجئين للأمم المتحدة، أو أنها قد تكون خاضعة لإدارة شخص يستأجر الأرض، يدعونه «شاويش المخيم»، يقوم بإدارة شؤون المخيم ويمثّله أمام الجمعيات المحلية، ويكون المسؤول المباشر عن المخيم أمام الدولة اللبنانية.

يقطن نحو 15% من اللاجئين السوريين في لبنان في مخيمات (بعض المخيمات تحت رعاية منظمات، ومعظمها استئجار شخصي من مالك الأرض ليبنى المخيم عليها)، %19 منهم في أماكن غير سكنية مثل الكراجات والمحلات، 66% في منازل وشقق، وذلك وفق تقييم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين السنوي لجوانب الضعف لعام 2018.

تخرج السيدات للعمل قبل أن تستيقظ العائلة، يعدنَ في الظهيرة أو قبلها بقليل، ليغادرن مجدداً في بعض الأحيان لفترة عمل ثانية. تتقاضى كل امرأة تعمل في الحقل حوالي 5.5 دولار (8000 ل.ل) للفترة الواحدة يومياً، يقتطع منها الشاويش 1.5 دولاراً (2000 ل.ل)، أي ما يعادل ربعها، مقابل أجرة الخيمة، محتفظاً بما يفيض عن أجرة الخيمة من المبلغ المقتطع لنفسه.

لا يوجد أعذار للاستراحة من العمل، الذي لا يتوقف أبداً مهما كانت الظروف إلا في حالة المرض الشديد أو الولادة التي لا توْقف السيدة عن العمل إلا أياماً قليلة، لتترك رضيعها بعد ذلك مع السيدات العجائز في المخيم أو أطفالها الأكبر سناً، ثم تنهض للعمل. لا تملك أي منهنَّ قرار التوقف عن العمل طالما يسكنَ في المخيم، الذي يصعب جداً الانتقال منه لعدم توافر خيم متاحة في مخيمات أخرى، ولصعوبة وطول مدة الإجراءات الحكومية والأمنية التي يحتجنها لبناء أي خيمة جديدة، ذلك بالإضافة إلى الوضع غير المستقر والمداهمات المستمرة التي تتعرض لها مخيمات اللاجئين السوريين من قبل السلطات اللبنانية، التي تعمل على هدم أي حائط في المخيمات يزيد عن ارتفاع متر تقريباً. تخشى الحكومة اللبنانية تكرار سيناريو المخيمات الفلسطينية، لذلك تمنع إقامة مخيمات رسمية وتعمل على إزالة مظاهر الاستقرار في المخيمات، التي لا يملك ساكنوها أي خيارات بديلة، سواء للسكن في لبنان أو خارجه، ولا العودة في سورية التي تستحيل العودة إليها بالنسبة لكثيرين منهم لأسباب اقتصادية وأمنية.

العمل في المعامل

«عِرِقْ اللولو… مو حاجتك قاعدة عالكرسي… قيموا الكراسي من الغرفة»، تسمع السيدة الستينية الكلام الموجه لها، وتنهض عن كرسيها إلى العمل دون أن تتفوه بكلمة. وصلت السيدة إلى معمل المخللات في الساعة السابعة صباحاً، وستبقى حتى الساعة الرابعة بعد الظهر، لتغادر في السيارة التي يوفرها الشاويش. كان الشاويش الذي يؤمن العاملات للمعمل قد اتصل بها في بداية الموسم عارضاً عليها العمل مقابل 13دولار (20000 ل.ل) يومياً، ليأخذ هو ثلاثة دولارات ونصف (5000 ل.ل) من المبلغ، متضمنة أجرة السيارة التي تنقلها من منزلها إلى المعمل البعيد.

تعيلُ أم محمد أسرتها المكونة من خمسة أطفال، وكان زوجها قد اعتُقل على أحد الحواجز في سوريا دون أن تعرف عنه شيئاً. وهي تستغرب من عودة المسؤول نفسه هذا الموسم، بعد أن كان قد فُصل في منتصف الموسم السابق لتحرشه بفتاة قاصر في حمام المعمل، الذي لا يحتوي على أي مواد تنظيفات.

تركت أم محمد وابنتاها البالغتان من العمر 14 و15 عاماً العمل في المعمل، نتيجة الشتائم التي كانت توجّه لهنَّ بشكل دائم، وهي تقطنَّ اليوم معهنَّ في منزل مكون من غرفتين، استأجرته لها مفوضية اللاجئين مؤخراً بعد أن طُردت من أحد المخيمات لعدم تمكنها من دفع أجرة الكهرباء، فاضطرت لاستئجار منزل بنفسها قبل انتقالها إلى المنزل الحالي ذي اللون الإسمنتي والحوائط العارية، مع سجادة على الأرض وبعض الإسفنجات في الغرفة.

تسكن أختها قريباً منها، وهي أيضاً كانت قد تركت العمل لأنها دخلت في عراك مع المسؤول بعد أن شتمها رغم أنها «تعمل بسرعة وبإتقان»، وتستغرب «كيف تتحمل النساء الأخريات هذه الإهانات، رغم أنهم خرجنَ من سوريا لأنهن لا يقبلنَ الإهانة» حسب قولها.

معظم النساء يعشنَ بلا أزواجهنَّ الذين ابتلعتهم الحرب أو المعتقلات في سوريا، أو أن لديهنَّ عائلات كبيرة لا يكفي مرتب الزوج لإعالتها، وبعض الصبايا يتحدثنَ عن أن والدتهنَّ تأخذ كل ما يقبضنه من المعمل، كما أخبرتني أم محمد.

العمل في المنازل

تتعرض سمر للتحرش بشكل مستمر أثناء توجهها إلى عملها، ويأتي هذا التحرش على شكل عروض زواج من أشخاص لا تعرفهم، وأحياناً عروض دعارة، وقد يتطاول بعض الأشخاص عليها إلى حدّ التحرش باللمس.

تعمل سمر في تنظيف المنازل، الذي يوفر لها أجراً يساعد عائلتها المكونة من خمسة أفراد بينهم زوجٌ من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي تحاول توسيع نطاق عملها لأنه الأقل إرهاقاً، ولأنها تكسب منه مبلغاً أكثر من أي عمل آخر. تعمل عادة لأربع ساعات تقبض مقابلها 13 دولار (20000 ل.ل)، هذا في حال لم تُمدِّد أو تضاعف ربات المنازل ساعات العمل دون أن يدفعنَ أي مبالغ إضافية للعاملات.

تعمل سيدات سوريات أيضاً كمستخدمات في المدارس أو المشافي، بمقابل يصل إلى 200 دولار شهرياً (300000 ل.ل) أي ما يعادل 10دولار يومياً (15000 ل.ل)، وقد يعملنَ بدوام أو دوامين مقابل المبلغ نفسه، دون وجود أي ضمانات لحصولهنَّ على المبالغ المستحقة، التي قد يخسرنها في كثير من الأحيان.

البيئة القانونية تحول دون حماية اللاجئات العاملات

تحول القوانين في لبنان دون تأمين بيئة أكثر أمناً للاجئات العاملات، ووفقاً للقانون اللبناني، يُمنع السوريون من مزاولة أي عمل عدا الزراعة أو البناء أو ما يتعلق بالبيئة، وذلك بموجب القرار رقم 1/41 الذي صدر في بداية عام 2017، وللحصول على تصريح عمل، ينبغي التقدم بطلب كفالة لدى الأمن العام اللبناني، تبلغ تكلفته حوالي 250 دولار سنوياً (375000 ل.ل).

تُبين المقابلات التي أجريتها من أجل إعداد هذا النص أن متوسط المبلغ الذي تحصل عليه السيدة العاملة بالزراعة هو 4 دولار يومياً، أي بمعدل 120 دولار شهرياً بعد حذف أجرة الخيمة وما يقتطعه الشاويش، وهو حدّ الفقر الأدنى للشخص الواحد في لبنان، أي أنه الحد الذي لا يمكن للأشخاص عنده تأمين أي من متطلباتهم الأساسية، وفق دراسة نشرتها أوكسفام عام 2016. أما بالنسبة للأعمال الأخرى، فيقارب متوسط المبلغ الذي تحصل عليه السيدة العاملة عشرة دولارات ليوم العمل الواحد، وتدفع كثيرٌ من النساء من هذا المبلغ مصاريف المعيشة لهنَّ ولأطفالهنّ، بالإضافة إلى فاتورة الكهرباء التي تتراوح بين خمسين وستين دولاراً شهرياً.

تتلقى بعض هذه العائلات الدعم من الأمم المتحدة ومن برنامج الغذاء العالمي، حيث ينال كل فرد من أفراد العائلة 27 دولار شهرياً، بالإضافة إلى المساعدات المالية التي تقدم من مفوضية اللاجئين والتي تصل إلى 260000 ل.ل . إلا أن هذه المساعدات غير مستمرة، وتتغير وفق معايير معينة تضعها مفوضية اللاجئين للأمم المتحدة.

يبلغ الحد الأدنى للأجور في لبنان 400 دولار، لكن دراسة لمنظمة العمل الدولية، تشير إلى أن متوسط دخل الفرد السوري 277 دولار في الشهر، بالإضافة إلى أن 92% من العمال يعملون بشكل غير قانوني، وبالتالي فإنهم لا يملكون تصريحاً بالعمل، كما لا يمكنهم توقيع عقود عمل وفق القرار الذي لا يسمح للعمال الأجانب، ومن ضمنهم العمال السوريون، بالحصول على تصاريح عمل إلا لمهن معينة أو في حالات استثنائية، وتشير دراسة منظمة العمل الدولية نفسها إلى أن أجور الإناث أدنى بنحو 40% من أجور الذكور اللاجئين في لبنان، وتبلغ نسبة العاملات 6% فقط من مجموع النساء اللاجئات وفق الدراسة نفسها.

تزيد القوانين اللبنانية، التي تجعل من شبه المستحيل الحصول على إقامة عمل، من الصعوبات التي تواجهها المرأة العاملة في بيئة اللجوء الهشة، وتجعلها مكشوفة دون أي حماية لا من القانون ولا من مجتمع اللجوء الذي تزداد معاناته مع الوقت، ويصبح أكثر ضعفاً. تجتمع هذه العوامل لتزيد من معاناة النساء اللاجئات، رغم محاولاتهن المستمرة لحماية أنفسهنّ بجهودهنّ الذاتية قدر المستطاع.

خاتمة

توقفت أم محمد عن محاولة إيجاد عمل منذ أن بدأت مفوضية الأمم المتحدة بدفع أجور منزلها، وهي تذهب لزيارة طبيبتها النفسية أسبوعياً، تحاول استيعاب كل هذه المسؤوليات الملقاة على عاتقها، عالقة هي وأطفالها الخمسة في لبنان بعد أن تهدم منزلهم في حلب. تقول إن منطقة سكنها الأصلية في حلب لا تزال غير آمنة بعد، تحاول أن ترمم نفسها بعد سنين الحرب، وبعد فقدان زوجها الذي كانت تظن أنها ستتمكن من معرفة مصيره في سوريا، إلا أنها بعد أن اجتازت رحلة صعبة عبر الطرق الجبلية إلى سوريا، أدركت أنها غير قادرة على تحديد مصيره، وكل ما تريده الآن هو أن يحمل أحدٌ ما بعض العبء عن جسدها الأربعيني المثقل بالتعب.