للَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا 

– القرآن، مصحف عثمان، الرعد/ 2.

 

نقف أمام الصروح العُمرانيّة ونردد ذات السؤال: كيف وصلت إلى هناك ؟ سواءً كنا نتأمّل تمثالاً، أو بناءً عالياً أو هرماً كـ «خوفو» في الجيزة في مصر، الذي تحوّل أسلوب بنائه و«رفعه» إلى أسطورة تحاول الكثير من الأبحاث الجديّة فهم حقيقتها، فما هي أنواع الرافعات التي استخدموها حينها، والسؤال الأهم: ألم يكن العبيد هم المسؤولون عن بناء الهرم؟.

ترافقت عمليّة تحريك «التراب» (territory) وإعادة توزيعه مع تطور مفاهيم السيادة. هذه العمليّة معيار استعمار الأرض والسطوة على العالم، منذ برج بابل حتى أصغر الدول الحاليّة. أن تعمّر وترتفع يعني أن تترك أثراً، أن تجعل من حكايتك الشخصية والوطنيّة أثراً مادياً ومرئياً، يحضر في التاريخ ليصبح جزءاً من الأرض ومكوناتها، ما يغيّر من إدراكنا لأنفسنا، ودورنا ضمن هذا العالم الذي لا نمتلك الحريّة الكاملة في بناء صروحه، التي نتوارثها وحكاياتها وأثرها الرمزي .

تتدفق صور أعمال البناء وأدواته والعاملين فيه أمامنا على الشاشات أو ضمن الحياة اليوميّة، فـ «الورشة» مساحة سياسيّة تنتجُ منها ظواهر ثقافيّة وجماليّة في سبيل بناء أسطورة إعمار الأرض، بوصفها الشكل الثقافيّ لعمليات تخديم «التراب» وجعله «صالحاً للحياة»، الاختصاص الذي تضمنه أي سيادة سياسيّة، ونسلّمها حق العنف لضمان حياتنا كمواطنين. لكن، بعيداً عن التنظير السياسيّ،  في سوريا مثلاً، هناك أسطورة تحيط بعمليات البناء وأدواته، أسطورة تتجلى في تكوين الملامح الماديّة للأرض لترسيخ رسالة سياسيّة، وهي قدرة «السيّد» الأدائيّة على تغيير العالم، والتي نقرؤها بكل وضوح في كلمة حافظ الأسد يوم تحويل مجرى نهر الفرات عام 1973:

أما في عهد الثورة (انقلاب الثامن من آذار 1963) فقد تحولت الفكرة إلى عمل أمدته الإرادة الشعبية بمقومات الاستمرار والنمو، ومنذ السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970 أصبح سير العمل في المشروع يعكس الملامح الرئيسية لهذه المرحلة : عملاً يرافق القول ويسبقه أكثر الأحيان، وسرعة في التنفيذ ، ووعياً شعبياً متنامياً لضرورة تعبئة كل الجهود في مجالين متلازمين: مجال البناء والتنمية، ومجال الصمود والاستعداد لمعركة تحرير الأرض المحتلة.

دون أي تأويل، البناء والمعركة متلازمان، ذات جهود العسكرة نراها في العمران وفي «الاستعداد» للحرب. لكن أسطورة التعمير تأتي من أن «السيد» لا يبنيّ بيده بل يُصدر قرار البناء، يحرك أبعاد  الكتلة البشريّة الخاضعة له والتقنيات الصناعيّة لترسيخ الحكاية في الأرض كصرح تتجلى فيه السرديّة الوطنيّة والإيديولوجية. الإسمنت هنا سلاح، وأدواته جزء من المعركة ضد التراب والبشر لتطويع «الوطن» وتشكيله، والأهم أن البناء هنا ليس امتداداً للشكل الطبيعي أو الحاجات السكانيّة ولا ينصاع لإيقاعهما، فهو يختزل العنف الآني المباشر أثناء البناء في سبيل صورة المستقبل المتخيّل، ذاك الذي يخدم فيه الإسمنت الحدود السياسية على الخريطة، ليوزّع التراب في سبيل الحكاية، لا «استمرار الحياة».

من بين أدوات «معركة» العمران نختار الرافعة، سواء كانت ضخمة عملاقة تُرى من بعيد أو مجرد أداة صغيرة تغيّر مكان «التراب» وترفعه وتكدّسه. هي جهاز ماديّ فعّال ضمن مساحة الورشة أو البناء، وجهاز إيديولوجي، تحاك حوله حكايات عن العلاقة مع السيادة، سواء وظّفته لمصلحتها أو عمل ضدّها. الرافعة جهاز رمزي نرى أقصى أشكاله في الأماكن العامة عالياً شاهقاً، يراه الجميع ويحدّقون به، وأحياناً أخرى هي مجرد أداة طقوسيّة صغيرة، يلوّح بها السيّد مُختزلاً جهد الآخرين معلناً البدء رسمياً بالعمل. يمكن مشاهدة كلّ الأشكال الثقافية لهذه «الرافعة» في معرض إعادة إعمار سوريا الذي أقيم العام الماضي، والذي يستعرض فيه النظام السوريّ «تكنولوجيا» إعادة العمران، وأدواتها التي تتربع الرافعة على قمّتها.

تتحرك الرافعة الضخمة في العلن، تنقل ما في الأرض إلى العلوّ، أشبه بماريونيت عملاقة تؤدّي أمام المارة والمشاهدين، لتتحول إلى معلم من معالم المدينة. لا يعلم الجميع من يحركها، لكننا نعلم بأمر مَن تتحرك، كتلك التي كنا نراها في سوريا أثناء بناء ما يسمى «وردة مسار» في وسط مدينة دمشق، فالرافعة ذات هالة تخبرنا أنها تحقق المستقبل وتُكسبه شكله. هي أداة ودليل على سطوة السيادة على المكان، فالعمليّة التي تمارسها لتغيير شكل التراب و ترك أثر فيه تعكس الأثر الماديّ لكلمات السيد. الأهم، أن إيقاع حركة الرافعة لا يرتبط في سوريا حتماً بالقدرة على إنجاز العمل، بل بالفساد، سرعتها وبطؤها يفضحان البنيّة الإدارية للمؤسسة السياديّة، وهنا تبدو أحياناً سينيكية أو ساخرة، تغيّر التراب رمزياً، لا نتيجة حاسمة لعملها، لنرى أنفسنا أمام هياكل فارغة لحكايات وطنيّة هشّة.

على مستوى آخر، نرى السيد أو القائد مع رافعة أصغر- رفش مثلاً-، كبانٍ للوطن، يدشن العمارات ويكدّس التراب فوق التراب. الرفش في يده مجرد «كيتش» تاريخيّ واستعادة لتقليد رمزيّ يعكس القدرة والهيمنة على «العالم» ويرسخ الحكاية الوطنيّة بوصفها نابعة من جسد السيد نفسه، من إرادته الصرفة و«الأبعاد» التي يمتلكها. هو أمير الحرب وسيد السلم، يؤدي دون مهارة أمام عدسة الكاميرا، ليخلق صورة أيقونية، تُستنسخ و تُطبع و تُتبادل إلى ما لانهاية، فلا يهم حقيقة إن تم البناء أو لا، فالمهم توثيق لحظة بدء البناء، كونها تجلّ لقرار بالتغيير ودخول الإسمنت في المعركة، لتظهر الرافعات الأخرى بعدها كشكل من أشكال إرادته، لحظة البناء السياديّة. هي لحظة تحصين، وتحويل المدينة ومساحتها إلى معسكر مؤقت للجيوش والجنود المحتملين، إذ تشقّ الطرقات وترفع الأبنيّة لضبط التدفق والمراقبة، ولتكديس الأفراد وتصنيفهم، لأنه في لحظة واحدة من الممكن أن تتحول المدينة إلى ساحة معركة، أو قفص بجودة رديئة.

تظهر الرافعة في سياق الثورات ضمن الصور الشهيرة للتماثيل التي تُسقطُ عنوة، لتتحول إلى أداة لتفكيك الهيمنة الإيديولوجيّة ورموزها. هي وسيلة لفكّ الحصار الرمزي عن المكان، وإعادة تعريف الحس بالاستقرار، وضمان حرية الأداء دون مراقبة رمزيّة،  كما أنها تعيد تعريف المساحة الآمنة وكيفية التنقل و تسارعه وإيقاعه، وتخلق أبعاداً جديدة ضمن هذه المساحة. الرافعة هنا وسيلة ثوريّة، تُصادَرُ عبرها إرادة السيادة، ويُعاد تشكيل المكان. لكن الرافعة لا تُعرّف إيديولوجياً في جوهرها، إذ تستعيدها السيادة لاحقاً، وتعيد رفع الصروح والتماثيل، «تُركّب» الحواجز في الطرقات، وتعيد ضبط مساحة الحياة والنشاط العلنيّ لإعادة الهمينة. كلا الاستعراضَين علنيين، وفي كليهما تُمارس الرافعة عنفاً على التراب، الذي تتحرك ضمنه الحكايات الشعبية والرسميّة، وتُواجهُ الأقاويل والهسهسات السريّة الخطابات الجماهيريّة، وكأن الرافعة مُحرك أدبي و جمالي، فهي قادرة على تحديد نقطة في إيقاع التاريخ، ورسم لحظة ما بعد السقوط وما بعد الاعتلاء، وفي كلا العمليتين  هناك حكايات وصور تدور حول الرافعة، تقسم الناس إلى مهزوم ومنتصر.

نتلمس شعريّة الرافعة وسطوتها السياسيّة في فيلم طعم الإسمنت للمخرج السوري زياد كلثوم، إذ نرى عمالاً على أطراف الحياة، سياسياً هم منفيون، صامتون، يؤدون أعمالهم بطاعة تامة، وحياتهم على الحافة بالمعنى الحرفيّ. هناك حوادث العمل بسبب خطورة المكان، والعنف السياسي داخل لبنان، سواء كان رسمياً من قبل السلطة أو بسبب نقص الموارد، وهناك العنف الأشدّ إن تم ترحيلهم إلى سوريا. وكأن هناك عدة مستويات من الخطر على طول البناء، لكن ما نريده من هذا الفيلم هي واحدة من اللقطات، التي نشاهد فيها بأعين كاميرا مثبّتة على الرافعة العملاقة التي تدور. من هناك، نشاهد بيروت، والبحر.. وهنا السؤال، ما هي اللقطة المقابلة لهذه اللقطة ؟ أعين مَن تحدّق بالكاميرا؟

هناك البحر الأبيض المتوسط والسفن التجارية وربما بارجات عسكريّة أبعدَ في ذات المياه التي تحمل قوارب الهاربين. ونرى أيضاً بيروت المدينة، التي يتحرك قاطنوها ضمن نظام سياسيّ يراوح بين المخيم والدولة. الحكاية التي تتبناها الرافعة مهيبة من بعيد، لكن داخلها قمع سياسي واجتماعيّ. هناك مستويات الاستغلال التي يحويها فضاء الرافعة ولا يمكن لأعين المدينة والبحر رصدها. من هناك، في اللقطة المقابلة، يرون الرافعة تتحرك على إيقاعيّ وقت العمل ووقت الراحة، أما هي، الرافعة، فتحدّق بقاطني المدينة من أعلى. لكن وراء حكايات العمران، يبدو البناء والرافعة التي تعتليه معادلاً عن المدينة وبحرها. البحر فضاء الموت المتأرجح، والمدينة مساحة العنف السياسي المباشر وغير المباشر، وفي كلا الفضاءين، هناك «سيد» خفيّ يستفيد، و«عمّال» يُستغَلون، وجهود مبذولة وتهديد للحياة من أجل استمرار العمران وحركة الرافعة، اللقطة المقابلة ستكون بأعين كل مَن حياته مهددة، ويرى الرافعة من بعيد.