زرعت الأمطار الوفيرة التي هطلت على سوريا هذا العام تفاؤلاً بموسم زراعيّ جيد، يعوض بعضاً من خسارات الأعوام الفائتة، التي نجمت عن العمليات العسكرية والجفاف وتدمير البنى التحتية وصعوبة تأمين المحروقات وارتفاع أسعارها ونزوح المزارعين، فضلاً عن تراجع الدعم الحكومي والقروض المُقدمة للمزارعين بنسبة 100% في كثير من المناطق، لتكون النتيجة فقدان سوريا لنحو 40% من إجمالي غلالها الزراعية سنوياً منذ العام 2011، ومعاناة نحو نصف السوريين من انعدام الأمن الغذائي، وذلك بحسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة لعام 2018 .
إلا أنّ الحرائق المُفاجئة التي التهمت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في مناطق شرق الفرات بداية، لتمتدّ فيما بعد إلى مناطق سوريّة مختلفة بالتزامن مع اقتراب موسم حصاد القمح، باتت تُهدّد هذا الأمل، حيث خسر كثيرٌ من الفلاحين كامل محاصيلهم، على نحو يهدد بضياع الفائدة التي عاد بها موسم الأمطار الجيد على محصول القمح في سوريا، وربما يؤدي لتراجعه إلى أسوأ مما كان عليه في الموسم الماضي.
واقع القمح في سوريا
كانت وزارة الزراعة في حكومة النظام قد قدّرت المساحة المزروعة بالقمح حتى شهر كانون الثاني الماضي بقرابة 757,685 هكتاراً، في حين قدّرت المساحة المزروعة به في الموسم السابق بحدود 1.1 مليون هكتار. وتبدو هذه الأرقام عشوائية وبعيدة عن الواقع، بدليل أن الأرقام التي تنشرها وزارة الزراعة على موقعها الرسمي، تُقدِّر المساحات المزروعة بالقمح خلال الأعوام التالية لعام 2014 بأرقام متقاربة جداً، رغم اختلاف الحيثيات الميدانية وكميات الأمطار وغيرها من العوامل.
ولم تكن سوريا قبل العام 2011 دولة مكتفية ذاتياً على صعيد القمح فقط، وإنّما كانت مُصدّرة له، وقد بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح في العام 2007 قرابة 1.7 مليون هكتار، أنتجت ما يزيد عن 4 مليون طن بمتوسط إنتاج قدره 2423 كغ للهكتار الواحد من النوعين الطري والقاسي، لكنها تراجعت إلى 1.2 مليون طن في 2018، الذي كان الأسوأ على صعيد كميات القمح المنتجة منذ 29 عاماً، بحسب منظمة الأغذية والزراعة الدولية «الفاو».
وقد كانت توقعات المزارعين تشير إلى احتمال زيادة إنتاج القمح إلى 2 مليون طنّاً لهذا العام، مطلقين عليه اسم «عام الدوكمة» على غرار العام 1988، حين غلّت الأراضي كميات وفيرة من القمح فاقت قدرة الدولة السورية على استيعابها، حتّى بات القمح يُباع لها «دوكمة»، أي دون تعبئته في أكياس. وقال بعض المزارعين الذين تحدثت إليهم الجمهورية إنّهم كانوا يتوقعون، قبل الكوارث التي حلت بمحاصيل هذا العام، أن يكون متوسط عائد الهكتار الواحد في بعض المناطق قرابة 6 أطنان.
من سيشتري القمح؟
خصصت حكومة النظام قرابة 70 مليون دولار أميركي لشراء القمح من المزارعين هذا العام، في حين خصصت دائرة الزراعة في مجلس سوريا الديمقراطي 200 مليون دولار أمريكي لشراء محصول القمح في المناطق التي تديرها شمال شرقي البلاد، أمّا «حكومة الإنقاذ» المرتبطة بهيئة تحرير الشام، فقد قررت شراء كامل محصول مناطق هيمنتها في الشمال السوري من القمح بسعر 135 ليرة للكيلوغرام، دون تحديد الرقم الإجمالي المرصود لعمليات الشراء. وإلى جانب هذه القوى، يبرز التجار كطرف قادر على شراء كميات لا يستهان بها من القمح؛ بهدف إعادة بيعه للمستهلكين في الأسواق أو للنظام أو تهريبه خارج الحدود، خصوصاً إلى كردستان العراق رغم الإجراءات المشددة التي تتخذها قسد للحيلولة دون ذلك.
وشهد العام 2017 بداية دخول الإدارة الذاتية التابعة لقسد على خط المنافسة مع النظام لشراء القمح، حيث خصصت حينها مبالغ لشراء 200 ألف طن من قمح مناطق سيطرتها، بينما خصص النظام حينها مبلغ 80 مليار ليرة لشراء القمح من مختلف مناطق سوريا التي يستطيع استلام المحصول منها، ومن بينها 300 إلى 350 ألف طن من محافظة الحسكة التي تسيطر على معظمها قسد.
التنافس بلغ حدته هذا العام، فقسد التي تسيطر جغرافياً على مساحات زراعة القمح الرئيسية في البلاد، تبدو جادّةً في نيّتها حرمان النظام منه، لا سيّما أنّها رصدت رقماً لشراء القمح أكبر بثلاثة أضعاف مما رصده النظام، كما يبدو أنّ قرارها بمنع تصدير قمح المناطق التي تسيطر عليها إلى خارجها، جاء للحد من دور التجار الذين كانوا سابقاً يشترون كميات كبيرة من قمح المزارعين ويعيدون بيعها للنظام، لا سيّما أنّ الهامش مُتاح لعمليات السمسرة هذا العام بشكلٍ كبير بحكم الفروقات السعرية بين الطرفين، حيث أعلن النظام أنّه سيشتري الكيلو بسعر 185 ليرة سورية، مقابل 160 ليرة بالنسبة للإدارة الذاتية، كما أنّها بقرارها هذا ستمنع التجار من تهريب القمح إلى إقليم كردستان العراق أو تركيا كما حصل في الأعوام السابقة.
وبدل أن يقوم النظام بزيادة المبلغ المُخصّص لشراء القمح السوري، أو بمفاوضة قسد على تقاسم الكميات المُنتجة، كما حصل في العام 2017 عندما توصّلَ إلى اتفاق مع الإدارة الذاتية بخصوص قمح الحسكة، فإنه اتّجه إلى توقيع ثلاثة عقود لاستيراد 600 ألف طن من القمح الروسي عبر ثلاث شركات روسية، بقيمة تتجاوز 120 مليون دولار تمّ تمويلها بقرض من المصرف المركزي، وبأسعار أعلى بكثير من السعر الذي أعطاه للمزارعين المحليين.
تكاليف زراعة القمح
تختلف التكلفة من منطقة إلى أخرى تبعاً لكميات الأمطار وأسعار المحروقات وطبيعة الأراضي وحجم الدعم المُقدّم للفلاحين، لذا حاولنا الحصول على شهادات من أكثر من منطقة لتقديم تصوّر عنها. وبحسب الأرقام التقديرية التي زوّدَ الجمهورية بها عبد الكريم الثلجي، أحد ملاك الأراضي من بلدة العيس بريف حلب الجنوبي، يبلغ إجمالي تكاليف الحراثة والبذار والأسمدة والمبيدات الحشرية والسقاية في حال كانت ضرورية، فضلاً عن تكاليف الحصاد المتوقعة، قرابة 130 ألف ليرة للهكتار الواحد في ريف حلب الجنوبي، يُضاف إليها أجور نقل المحصول، وقد تتغير هذه القيم التقديرية نتيجة عوامل تتعلق بالآفات الزراعية أو ارتفاع سعر المحروقات ومصاريف النقل.
ومن المتوقع أن يغلّ الهكتار الواحد 4.5 طن وسطياً في مناطق إدلب وجنوبي حلب، وبما أنّ الجهة المُشترية في هذه المنطقة هي حكومة الإنقاذ بسعر 135 ليرة، فإنّ قيمة غلال الهكتار الواحد ستبلغ 600 ألف ليرة سورية وسطياً، غير أنّ حكومة الإنقاذ فرضت على المزارعين دفع «زكاة» بمعدل 10 بالمئة عن الأراضي البعلية و5 بالمئة عن المروية، ستأخذها قمحاً.
أمّا بالنسبة لريفي حلب الشمالي والشرقي الخاضعين لسيطرة فصائل مدعومة تركياً، فيقول المهندس الزراعي محمد الموسى للجمهورية «إنّ هذه المنطقة فقيرة بالقمح، ولم تشهد زراعة حقيقية خلال الأعوام الفائتة؛ بسبب قلة الأمطار والحاجة للسقاية التي لا تتوفّر مصادر لها، لذا يُزرع القمح على نطاق ضيّق فقط من أجل البرغل، وترتفع تكلفة زراعة هكتار القمح فيها إلى أكثر من 170 ألف ليرة؛ بسبب طبيعة الأرض القاسية وحاجتها للتنعيم، وكذلك لارتفاع تكاليف الحصاد المعتمد على المازوت، أما الغلال فهي لا تتجاوز 3 أطنان للهكتار الواحد».
أحد المزارعين من مدينة منبج التي تسيطر عليها قسد قال للجمهورية «إنّ منبج ليست منطقة قمحية، حيث يزرع 10 بالمئة من أراضيها بالقمح، مقابل 90 بالمئة تُخصّص للشعير، وقد منحت مؤسسة الزراعة في إقليم الفرات التابع للإدارة الذاتية 586 رخصة لزراعة القمح في منبج، وبموجب هذه الرخصة يحصل المزارع على بذار بسعر 160 ليرة للكيلوغرام، ومحروقات وأسمدة وأكياس تعبئة بأسعار مدعومة؛ بغية تشجيع زراعة القمح. وتنطبق تفاصيل الدعم هذه على باقي مناطق سيطرة قسد، ولا تتجاوز تكلفة الهكتار الواحد في منبج 120 ألف ليرة في حالة الأراضي المعتمدة على مياه الأمطار و150 ألف ليرة في حالة الأراضي المسقيّة، في حين يجري استلام القمح عن طريق شركة تطوير المجتمع الزراعي بموجب شهادة منشأ بسعر 160 ليرة».
كارثة الحرائق
ليس ثمة إحصائيات دقيقة حول الأضرار التي ألحقتها الحرائق بموسم القمح لهذا العام، لكن الأرقام التقديرية التي أعلنتها عشرات المواقع والمصادر المحلية المتناثرة، والمبنية بمجملها على تقديرات شهود عيان ومزارعين، تؤكد أن عشرات آلاف الهكتارات من القمح قد احترقت، وسط تبادل الاتهامات بين النظام والإدارة الذاتية التابعة لقسد بالوقوف وراء الحرائق، ومنشورات لتنظيم الدولة، غير موثوق من صحتها، تتبنّى عمليات إحراق المحاصيل انتقاماً لهزيمته أمام قسد والتحالف الدولي.
كذلك تذهب تحليلات وتفسيرات إلى أن الحرائق ترجع إلى ارتفاع درجات الحرارة ورمي أعقاب السجائر على مقربة من الأراضي الزراعية والشرر الصادر عن السيارات والآليات الحربية، بالإضافة إلى بعض العمليات الانتقامية نتيجة خلافات شخصية بين بعض المزارعين. وبالنظر إلى المساحات الشاسعة التي أُحرقت، فإنه لا يبدو أنّ سبباً واحداً أو جهةً واحدة هي المسؤولة أو المتسبّبة فيما يحصل، ويلزم أن تقوم جهات موثوقة بإجراء دراسات وتحقيقات لكشف الأسباب وتقييم الخسائر، وهو ما لا يبدو ممكناً في الظروف الراهنة.
لكن هناك حرائق معروفة الأسباب على نحو لا يقبل الشك، منها تلك التي التهمت 200 هكتار في محافظة إدلب، و450 هكتار في سهل الغاب بريف حماة، جرّاء غارات النظام التي تعمدت إحراق المحاصيل في سياق الحملة الوحشية التي تستهدف المنطقة. وقدّرت دائرة الزراعة في مناطق ريف حماة الخارجة عن سيطرة النظام خسائر الفلاحين في سهل الغاب وحده بمليار و65 مليون ليرة سورية، أي ما يزيد عن 1.8 مليون دولار، منذ بدء قوات النظام بدعم روسي وإيراني حملتهم العسكرية، علماً أنّ هذه المنطقة كانت تؤمّن 60 بالمئة من احتياجات القمح لمناطق سيطرة فصائل المعارضة في الشمال السوري.
على الرغم من أنّ آمال السوريين وتوقعاتهم لغلال القمح في «عام الدوكمة» هذا كانت كبيرة، إلا أنها بالكاد تصل إلى نصف حجم ما كانت تنتجه البلاد في الظروف العادية قبل العام 2011، ورغم أنّ هذه الآمال باتت مستحيلة التحقق بعد الكوارث التي لحقت بالمحاصيل، فإنّه ينبغي أن نتذكّر دوماً أنّ السوريين، ورغم كل التعاسة التي زرعتها ظروف الموت في حياتهم، لا يزال يحاولون أن يزرعوا أرضهم قمحاً وأملاً.