مرّ هدير الطيارة الحربية فوق سماء مدينتنا، من دون أن يترك أثراً يُذكر في النفوس. كانت الطيارة تنطلق من الشمال، شمالِنا، إلى الشمال، شمالِهم، لتقصف مناطق ريفي حماة وإدلب قُبيل أذان المغرب.

يتجمع الناس شِبهَ لاهثين عند بياع السوس والتمرية والعرقسوس الحمصي الشهير. لم ينتبه أحد منهم إلى الذي مرّ قبل قليل فوق رؤوسهم. يطلب أحد الباعة من الناس أن يقفوا بالدور، بمن فيهم العساكر ورجال الأمن الواضحون الراجلون من موتوراتهم، أيضا عساكر «جيشنا» ورجال الأمن يعطشون في رمضان ويتبعون تقاليد أهل المدينة في هذا الشهر. «خبزة رمضان» كما نسميها هنا، مهمة جداً، الأكياس البيضاء التي تشِفّ منها الخبزة البُنّية المحشية بجوز الهند أو الشوكولا تبيّن ذلك بوضوح.

بممم! ضربت الطيارة هناك عند الإفطار، لا أحد هنا يسمع الصوت الذي هناك. كثيرون لا يدرون به، وقلائل يكترثون له. ثم: بممم! وها هو أذان المغرب يصدح بالأجواء هنا، لكن من دون مدفع الإفطار، الذي بات الجميع بغنى عنه، لأنه يجلب لهم ذكريات غير سارة.

أثناء قيام أفراد إحدى العائلات بالبحث عن برنامج مُسلٍّ يشاهدونه على التلفار أثناء تناولهم وجبة الإفطار، مرّ بهم مصادفة خبر ارتقاء عدة شهداء في كفرنبودة نتيجة قصف الطيران الحربي الروسي. تقول الأم «مشان الله غيروا القناة، ما ناقصنا وجع قلب». تتغير القناة، ويختفي خبر الموت. ثم تُكمل العائلة فطورها على صوت أذان المغرب الذي تعرضه القناة السورية على الطريقة الدمشقية التقليدية، لتَلِيَه فورا إعلانات لا تنتهي وبرامج ربحية تدعو المشاهدين للاتصال وإرسال رسائل لشركة الاتصالات السورية سيرياتيل، حيث تُسمع في هذه البرامج لهجات سورية مختلفة لأناس عاديين أو من الجيش؛ أناس يبدو من أصواتهم أن منهم السعداء والتعساء على القنوات السورية المتبهرجة مثل فتاة لا تعرف الأناقة. المتصلون بغالبهم يُجيبون إجابات خاطئة عن أسئلة سخيفة، أو يخسرون في لعبة في البرنامج الترفيهي هي أكثر منها للأطفال، ليربحوا منها آلاف الليرات خلال أقل من دقيقة. لأننا «نريد أن نسعدكم»، «لأننا نريد ’لسوريتنا‘ أن ترجع أفضل مما كانت». ولا بدّ لنا في هذه المناسبة «أن نشكر الجيش العربي السوري المُرابط على الجبهات بينما نحن هنا الآن نتسابق ونتحدث إليكم، مشاهدينا الأعزاء».

اليوم مرت طيارتان قبل المغرب بساعة، هما متوجهتان إلى ريف حماة، أو ريف إدلب، لا أحد هنا يدري، بعد ساعات سيعرف بعض القلائل المهتمين بما يحدث، سيتنقلون بين صفحات الفيسبوك بحثاً عن خبر صحيح لا مبالغة فيه ولا تهويل. «أخذوا كفرنبودة، أخذوا قلعة المضيق، أخذوا تل الحماميات، لكن الثوار تصدَّوا لهم ببسالة و دمّروا ثلاث دبابات وسيارتَي دفع رباعي». وفي أسفل خبر آخر تظهر صورة رآها الجميع لصَفِيحة طعام قيد التحضير مُغطّى بالغبار والرماد كانت تُجهّزه إحدى العائلات في قبل أن يطال بيتَهم القصف.

على الرصيف، غير مكترثة بالطائرات الحربية المارّة فوق رأسها، وغير مكترثة بأسراب الفراشات التي تغزو منذ أسابيع المدينة وتصعد يَرَقاناتُها المشعرّة بصمت على جدران الأبنية والغرف، وتزحف من أسفل أبواب البيوت وأثاثه دافئةً على بطونها، على الرصيف الواطئ ذاك، جلست فتاة تبكي وهي تراقب بعض الأطفال الذي يستمتعون بتقطيع أجنحة الفراشات الملونة وقتل يرقاناتها وتجميع أكبر عدد منها. هناك فراشة وقفت بقوائمها الرقيقة على الأسفلت قليلاً فدهستها سيارة مسرعة أيضاً، والصبية ذات الثمانية عشر ربيعاً كانت تحمل طفلاً وتُرضعه وهي تخبّئ صدرها بحجابها الأسود. كانت تبكي. لم تستطع امرأة أربعينية مقاومة مشهد الفتاة الحزين، وأخذتها وقالت لها «تعالي معي». كان الوقت قبل العصر. كانت الفتاة جميلة، أو كما يقول رياض الصالح حسين: «لقد كانت طرية.. طرية / كالثلج والينابيع / لقد كانت طرية كالسنبلة / ولذلك التقطتها بمناقيرها العصافير». وكسنبلة طرية، انثنت الفتاة على طفلها الرضيع تحكي حكايتها. المرأة الأربعينية المتعاطفة معها راقبت دموع الفتاة المنهمرة وهي تتعلق قليلا بأطراف رموشها السوداء الجارحة قبل أن تسقط.

اليوم بعد العصر ضربت طيارة حربية روسية أو سورية (لا يهم) قرى سمعنا بها لأول مرة في ريف حماة، والنازحون الآن بالآلاف يتجهون لمناطق أكثر أمناً. أخبار صفحات الفيسبوك وتويتر وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي متضاربة. اتهامات، دُعاءات وادّعاءات، صرخات ومناشدات، تخوينات، وكلها تهز بصمت شبكة الإنترنت. وبصمت أيضاً تتوعد بالانتقام. أخبار كثيرة عن هجوم مضاد ثم انسحاب، ثم هجوم مضاد ثم انسحاب، وعلى النت يبحث المهتمون بما يجري في المناطق المحررة من أهل الداخل ومن أهل الخارج عن خارطة سيطرة المعارضة والنظام على تلك المناطق المستهدفة في الشهر الفضيل. وتعليقات كثيرة تنفي، وأخرى تؤيد سيطرة هذا أو سيطرة ذاك على تلك المدينة أو تلك القرية. وفي خضم كل ذلك، كانت وما زالت أسراب الفراشات ويرقاناتها تغزو المدن والطرقات والشوارع والبيوت بصمت، وتموت بصمت، دهساً، أو تقطيعاً، أو احتراقاً، من دون أن يكترث لها أحد.

ظهر أن الفتاة التي كانت أرقّ من فراشة تزوجت في الثالثة عشر من عمرها، ثم تُوُفّي أَبَواها، ولا إخوة لديها أو معارف في حمص. أخذها زوجها وسافر بها عبر طريق للتهريب إلى المناطق المحررة لكونه مطلوباً للاحتياط. وهناك لم تتحمل ضرب زوجها وإهاناته وتناوله للمخدرات. عادت إلى حمص مع طفلها، لا مكان يُؤويها، ولا مال تملكه لتُعيل نفسها. رأت فيها المرأة الأربعينية شيئاً من ماضيها، ماضيها الحزين والسيء.

«طيب، كيف رجعتي؟».

«نظامي، بالباص».

«وين عايشة؟»

«عند عيلة أخدوني من الطريق ومسكّنينّي عندهن مؤقتاً».

«كيف فيني ساعدك؟».

«بدي إتخلص من الولد، أنا انجبرت جيبه معي، وما بعرف ربّيه، وما عدت قادرة حنّ عليه من كتر ما بيذكّرني بأبوه. وما بعرف شو إعمل فيه، أو رجّعه لأبوه. فيكي تساعديني؟ بتعرفي طريقة إتخلص منه؟»، تقول الفتاة ذلك باكية، وهي تنظر إلى الطفل النائم بعينيها الملوّنتَين المُشبَعَتَين ببريق طفولة متّقد.

بالتزامن مع كثرة مرور الطائرات اليومي مؤخَّراً في سماء مدينتنا، يمر ما يدعى «قطار الفرح» في بعض شوارع مدينة حمص في المساء. وقطار الفرح هذا هو عبارة عن عربات مهترئة تم تزيينها وتلوينها وربطها ببعضها البعض، والكتابة عليها بخط ملون مائل «قطار الفرح»! يركبه بعض الأطفال وأمهاتهم وهم يتناولون غزل البنات والحلويات. قطار الفرح يمر في بعض شوارع المدينة المهزومة بعد صلاة العشاء، وهو يزعق بأغانٍ عابثة، تمتزج مع هدير الطائرات الحربية المارّة فوق رؤوسنا في لجّة السماء السوداء.

أي جنون هذا!

يقولون على الإنترنت إن بعض الجوامع في إدلب ومناطق درع الفرات كبّرت اليوم فرحاً لأخبار سارة قادمة من ريف حماة. هنا الجوامع تكبّر أيضاً، وتذكّر، وتنتظر الرجال والنساء حتى يجتمعوا في ساحة الجامع لصلاة التراويح. كل منهم سيصلي في مكان، ولكل منهم باب دخول وخروج محدد، بحيث لا يتلاقى الفريقان، رغم أنهما سيلتقيان بعد أمتار، إما مصادفة أو عمداً.

يقرأ الشيخ من سورة الأنفال: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}. كان ذلك في الركعة الثامنة، حيث قام الكثيرون عندها وغادروا الجامع، فأداء عشرين ركعة للتراويح وقراءة جزء كامل خلالها ليست يسيرة على الجميع. لاحظَتْ إحداهن شيئاً أثناء الصلاة، وخبأته في داخلها. ذاك أن كلمة «آمين» الخارجة من الأفواه عند نهاية سورة الفاتحة أو نهاية الدعاء كانت ضعيفة، وأن صوت النساء يطغى على صوت الرجال في «الآمين»؛ تلك الكلمة التي كانت في ما مضى تهزّ أركان الجامع بمرارتها عند أي دعاء يلامس أرواح النفوس الثائرة آنذاك. ومن دون الجرأة على التلميح بحرف أو إيماءة، تراءى لتلك السيدة أن بعض الحاضرين يشعرون بذلك أيضاً، ويحاولون إنكاره تماماً. وكدليل على ما اعتمل في داخلها، لمحت مصلّية ثلاثينية كانت بعينَين حَمراوَين من شدة كبْت الدموع بعد سماع الآمينات. أو لعلها دمعات الخشوع؟ لن تعلم حقيقة ما رأته أبداً.

الأخبار اليوم هادئة على الجبهات المشتعلة في ريفي إدلب وحماة، وهناك أحاديث عن أطراف ثالثة ستتدخل لحل الموضوع إيجابياً. أخبار المدينة المهزومة هادئة وميتة أيضاً. بعض الناس يتحدثون عن هجوم مرتقب لأسراب من الجراد ستأتي من الأردن والسعودية. يستعيذ البعض من ذلك، لا سيما بعدما شهدوا غزو الخنافس والفراشات وموجات البرد التي تتالت على المدينة خلال الفترة الماضية. سمّوا كل ذلك ابتلاءات، كتلك التي أصابت قوم فرعون. بقي الضفادع والدم والطوفان وتكتمل اللعنة، يقول البعض هازئاً، فيما يصب آخرون اللوم على أنفسهم: لو كنا أتقياء ونخاف الله لما وصل الحال بنا إلى هنا.

أثناء كل ذلك، كانت الفتاة-السنبلة تتطلع إلى المرأة الأربعينية وكأنها مَلاك نزل إليها من السماء. المرأة الأربعينية كانت تتكلم مع زوج الفتاة على الهاتف وتهدده بطرف ثالث «من اللي بالي بالك»، أي قوى الأمن ومن شابههم، والذين سيتدخلون ويؤذون أناساً يهمونه هنا إن لم يرسل أحداً ليستلم الطفل ويأخذه لعنده. هددته بأمور أخرى يعرف خطورتها جيداً. لدى السيدة معارفها وعلاقاتها الوطيدة مع «الطرف الثالث»، ولديها أصدقاء كثيرون منهم. أغلقت الهاتف مع ابتسامة انتصار على وجهها، رغم أن الزوج كان يلهج بشتائم تخدش حياء الكون بأسره. شعرت الفتاة-السنبلة بالاطمئنان والراحة أخيراً، وكان وجهها يلمع من الفرح، ويلمع حرفياً أيضاً، من آثار مساحيق التجميل على وجهها من حفلة البارحة.