دوّى ضجيج جسر الرئيس في دمشق برأس الرجل الأربعيني، وكأن أصوات الناس والباعة ووسائل النقل واشتباكات الميليشيات البعيدة قد عُجنت بعضُها في بعض، لتشكل صخرة كبيرة تدق جمجمة هذا الغريب المسكين.
أزاح يدَه بصعوبة عن عينيه ضاغطاً أكثر على جبهته، ليرى بدهشة كادت تُطيح بسلطان عقله تجمّعات هائلة من البشر، أمام دَوَابّ معدنية، تبتلع بضعاً منهم في كل مرة تهاجمهم فيها.
شعر بغَثَيان غليظ، ودارت الدنيا برأسه، وهو يكرر آية قرآنية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَان}.
لمح على إحدى البسطات تحت الجسر كتاباً، حمل عنوان «الحدقي»، للموريتاني أحمد فال ولد الدين، فأخذت جسدَه الرعدة والبردية من شدة الفزع، وهو يتمتم «ما هذا والله إلا بعمل الجن»، ثم طفِق يكرر كممسوس: «لا تنفذون إلا بسلطان، لا تنفذون إلا بسلطان».
كان بعض الشبان يمرّون بالقرب منه، مُحَيّين جرأته في السخرية من السلطة، بامتطاء دابّة وسط العاصمة، بعد أن رزحت المدينة تحت وطأة انقطاع حاد بالوقود لأشهر، ما سبّب أزمة مواصلات حادة.
اقترب منه بعض رجال الأمن بتكشيرة متقزّزة من هيأته وملبسه، وقال أحدهم «مبسوط بحالك ما هيكي؟! نزول لقلك نزول!».
نزل الرجل عن دابّته، مستغرباً لحن اللغة التي يسمعها ولا يفهم منها إلا لِماماً، وبقي يهزّ رأسه بتعجب أمام طلب أحد العناصر لأوراقه الثبوتية، حتى صرخ بوجهه «ولك شو إسمك هنت؟! إسمك، إسمك؟!».
بلع الرجل ريقه الجاف، وقال «أنا عمرو بن بحر الكناني البصري». خيّم صمت على رجال الأمن، فأضاف «المعروف بالجاحظ». لم ينبس أحد، فأردف مُجيلاً النظر بين وجههم: «أو الحدقي أيضاً».
وَجَمت جماعة المخابرات، ولم ترمش عينٌ واحدة منهم، حتى أفلتت كلمة يتيمة من فم قائدهم: «قَرِييي!».
الخليفة في دمشق
تفحّصت عينا الجاحظ قائد المجموعة وهو يرمي كلاماً أعجمياً في اللاسلكي، فيرد عليه هذا الجماد وكأن الله نفخ فيه الروح، وتذكر أستاذه وصاحبه إبراهيم النظّام، فلو كان هنا الآن معه لَلَطَمَ وجهه وهو يصرخ «شيء عجيب!». فأخذته ضحكة خفيفة.
حَدَّجَه قائد المجموعة الأمنية بنظرة احتقار وارتياب، وسأله «أنت سكران ولا؟!».
فردّ الجاحظ: «الخمر يجعلك رخيَّ البال، خليّ الذَّرع، قريرَ العين، وما أنا بهذا من شيء، فقد تملّكَ على قلبي الفزع».
اقترب أحد العناصر من القائد وهمس: «سيدي خليه يروح، خايف يكون مَ يقرا حجاب أو كْتِيبة علينا».
وما هي إلا ثوانٍ حتى وصلت سيارة «بيجو ستيشن»، صعد فيها جميع رجال الأمن، حاشرين الجاحظ بينهم.
خلال الطريق إلى الفرع 285 التابع لأمن الدولة في كفرسوسة، شاهد الجاحظ لافتة كبيرة تحمل صورة بشار الأسد، يبدو أنها تعود للعام 2014، ولم يجرؤ أحد على إزالتها حتى الآن، إذ كُتب عليها «بالدم بايعناك».
وَجَم الجاحظ وتعجّب، إذ يتصارع الشقيقان الأمين والمأمون على الخلافة، فيرثها هذا الرجل الذي ما سمعت به أذن في سائر أراضي المسلمين.
سأل الجاحظ مشيراً للصورة «هذا هو الخليفة؟!»، فانفجر رجال الأمن بالضحك، إلى درجة أنه بدأ بالضحك معهم وهو لا يعي من أمرهم شيئاً، ولم ينتبه إلى نفسه إلا وهو يقول «شيء عجيب!»، فانفجر بالضحك تماماً، حتى سالت دموعه.
«طمّشلو عيونه، طمّشهن»، قال الرجل الجالس بالقرب من السائق.
دفاعاً عن الجنون
على وقْع الأقدام المتحركة حوله، في ظلام عينيه المعصوبتين، سمع الجاحظ تقرير قائد الجند لأميره، متهماً إياه بإثارة الشغب، وبتحريض الناس ضد الدولة عبر استغلال أزمة المحروقات، ثم سرد عليه ما تبع ذلك من تصرفات غريبة للرجل.
أزال أحد العناصر العُصبة عن عيني الجاحظ، فوجد الأخير مارداً أمامه، بوجه متغضن، فابتسم محاولاً استرضائه قائلاً «مولا…»، لكنه تلقى صفعة أخرسته قبل أن يُتم كلمته.
أحس بصَرَع في رأسه، فهو لم يقترف ذنباً سوى استجابته لدعوة المأمون إلى بغداد، اللهم إلا إذا كان مَوالي الأمين قد احتلوا العاصمة الآن، وعاثوا فيها تعذيباً وتنكيلاً.
توالت الصفعات على وجه الجاحظ، والركلات واللكمات، حتى أدمى الضابط وجهه، ولم يتوقف إلى أن رآه منهاراً باكياً، متوسلاً الرحمة.
شمّر الضابط عن ساعديه، وأشعل سيگارة متأملاً عمله: «هه، قلي بقا، شو اسمك ووين وراقك الثبوتية؟! هويتك دفتر خدمتك».
أعاد الجاحظ ذكر اسمه أمام الضابط، وقال «ومع أن شريعتي هي الأخذ من كل شيء بطرف، إلا أنني ولَعَمري لم أسمع يوماً بالهُوية، ولا بدفتر الخدمة، ولا بالأوراق الثبوتية، ولإن سألت عني في البصرة، فإنني مشهود لي بحسن الخلق، ورِفعة المنزلة، رغم فقري وضيق حالي، وما كنت يوماً بلصّ أو محتال، فما تبحث عنه لم تقع عليه يدي يوماً ولا عيني، ولا تناهى إلى سمعي منه شيء».
«البصرة؟!»، سأل الضابط، «شو جاب البصرة لهون هلق؟!».
«كنت قد خرجت من البصرة بناءً على دعوة وزير الدولة محمد بن عبد الملك الزيات، بعد أن آلت الخلافة للمأمون، وآخرُ ما أذكره دخولي في سحابة ضباب كثيف على الجسر المعلق فوق نهر دجلة، حتى لم أعد أبصر شيئاً، فهاج النهر تحت قدميّ وماج، ولم أستعد بصري إلا وأنا حيث ضبطني رجالُك».
بصق الجاحظ دماً، ثم أكمل «ناشدتُك الله ورسوله، فلإن كنتم من مَوالي الأمين، فإنني رجلُ عِلم وكلام، ولا شأن لي في السياسة، أجيب دعوة أولي الأمر إذا ما دَعَونِ، وليس بي حَيْل للعصيان أو الخروج عن طاعة الولاة، فارحمني يرحمْك من في السماء».
فَرَك الضابط يديه «بدك تعذبنا إنت بربي!». أشار إلى عناصره بشَبْح المعتقل الجديد، فرفعوه من يديه، حتى شقّ عليه التنفس، وشعر أن روحه تفارق جسده من بين كتفيه.
«إنت مَ تتآمر على الدولة مع الثوار العرصات، وهلق جاي مَ تعمل حالك مجنون!» صرخ الضابط.
«يا ليتني كنت مجنوناً يا مولاي، كنت على أقل تقدير لا أُدرك ما يجري لي الآن، إلا كإدراك الدوابّ للتعب والراحة، ولسع العُصيّ».
«إنت ضد الدولة؟!»، صرخ المحقق.
«يا مولاي، إن قيام السلطة لتنظيم المجتمع البشري أمر ضروري، وإن العقل مصدر تلك الضرورة، فكيف تُقيم وزناً لرأيي وفِعلي إن كنت مجنوناً بلا عقل، فأنا لا أدرك سلطةً ولا مجتمعاً ولا نظاماً من فوضى»، ردّ الجاحظ.
«يا سِيدي مانك مجنون! جاوبني إنت معارض؟!» قال المحقق.
«بل إنني مجنون»، دافع الجاحظ عن نفسه، «فالعقل وكيل الله وممثله في الإنسان، لذلك فهو طريق السلامة، أما أنا فانظر إلى أي حال وصلت، فعِوَضَ أن يُلجمني عقلي عن المُضِيّ فُرُطاً في سبيل الجهل، كما يُلجم الرَّسَنُ البعير، أوقعني بين يديك».
استبدّ الغيظ بالمحقق فلَكَمَه في صدره، حتى شهق الجاحظ، وغامت الدنيا في عينيه، فاقداً وعيه.
لا تذهب إلى ما تُريك العين
شعر الجاحظ بوخز الحصى على وجهه، بينما كان خادمه نفيس يساعده على النهوض. نظر في عينيه، بينما كان يمسح وجهه من آثار الحصى والدماء، وقال بترجٍّ: «نفيس؟!».
«لا ضرّك الله يا مولاي، لقد وقعتَ عن دابتك، لا بد أن الإرهاق قد نال منك قسطاً»، أجاب نفيس سيده.
تلفت الجاحظ فوجد بغداد وراءه، والضوء ينبلج فجراً على الجسر المعلق فوق نهر دجلة، فقال بخوف وهو يرتجف «ما الذي… ما الذي يجري يا نفيس؟!».
«تماسك يا مولاي، أعزك الله، أخبرتُك قبل ساعات. لقد آلت الخلافة إلى المتوكل، وحرّضه القاضي أحمد بن أبي دؤاد ضدك وضد ابن الزيات، فوقع الأخير في قبضة جند الخلافة، وأرسل بعضُ المقربين إنذاراً لك لتنجو».
احتار نفيس بدهشة سيده فتابع: «مولاي، عليك أن تتابع من هنا وحدك، سيستقبلك أحد المعارف قرب البصرة، فاختفِ عنده إلى أن يشاء الله أمراً آخر، أما أنا فعَلَيّ العودة إلى بغداد، فإن عفا عنك المتوكل يوماً، فإنه لن يعفو عني وقد أعنتُك على الفرار منه».
غادر نفيس باتجاه بغداد، وتابع الجاحظ طريقه نحو البصرة، متمتماً برعب: «لا تذهب إلى ما تُريك العين، واذهب إلى ما يُريك العقل، فالعقل هو الحجّة».
لم يُتمَّ الفارّ من قبضة الخليفة جملته حتى تذكّر ألم لكمة المحقق في جسده المشبوح في أحد الأقبية، ففقد توازنه وسقط في النهر.
إمامة الترهيب والجنون
أخرج الجاحظ رأسه من المياه التي غمرته ملتقطاً أنفاسه بصعوبة، فأبصر وعاءً معدنياً يبتعد وتظهر من خلفه وجوهُ معتقِليه في فرع أمن الدولة، والمحقق يصرخ به «وين رحت وين؟ لسا مطولين!».
وللحظة ظنّ الجاحظ أنه لمح وجه خادمه نفيس بين معذِّبيه، فانتفض جسدُه رعباً وصرخ «إن العيون لَتخطئ، وإن الحواسّ لَتكذب، وما الاستبانة الصحيحة إلا بالعقل، لكن وكأنني والله قد علقت في عصرِ جهلٍ وجنون، أو طالني عقابُ الله إذ تغاضيت عما كان يفعل ابن الزيات بالعامة والدَّهْماء في سجونه، فأذاقني الله بعضاً مما أذاقهم».
أشعل المحقق سيگارة جديدة، وتأمل انهيار الجاحظ: «خبرني تَ شوف، شو اعتراضك على حكم سيادة الرئيس؟ شو اعتراض حضرة جنابك على السياسة تبع دولتنا؟!».
أسند الجاحظ رأسه إلى كتفه وقال: «إن السياسة تعني تدبير شؤون الناس ومعاشهم، وما أصل هذا التدبير سوى الترغيب والترهيب، لكن بِعَدل، فالعدل أساس كل سياسة». بصق دماً مجدداً.
ثم تابع «أما أنتم فما العدل عندكم إلا بتوزيع الألم على سائر أعضاء الجسد، وما الترغيب لديكم سوى بمنح الناس أملاً في النجاة من مصيري هذا، فلا يشتد عزمُ إمامِكم إلا بالترهيب».
تنحنح أحد عناصر الأمن: «وحق ألله ما عم إفهم شي، شو مَ يقول؟!».
فردّ زميل له: «ما حدا فهمان شي، بس مبيّن مَ يقول شي ما كويس عنِّنا».
سأل المحقق الجاحظ: «خلّصنا يا أخي، يعني إنت مع حكم السيد الرئيس ولا شو؟!».
استغرق الجاحظ بعض الوقت ليدرك ما يقصده أمير الجند فقال:
«إن العقل الصحيح أساسٌ من أُسُس التشريع، فإن كان كل رجالِ مَولاكم مثلكم، يذهبون بعقل من يقع بين يديهم، فهذا يعني أنه لا عقل في هذه الدولة سواكم»، ابتسم بخبث. «فكلُّ من عاداكم سيخسر عقله، وبالتالي سيكون محروماً من التشريع، ولَعَمري لم أرَ أمّة في حياتي اجترحت ما اجترحتم، فشريعتكم تضمن ألا يشرّع أحد سواكم».
ولِكَثرة ما كرر كلمة «شرع» في حديثه، تَطيَّر منه الجندي الذي ظنّه ساحراً حين قبضوا عليه في جسر الرئيس، فرماه بحذاء عسكري على رأسه بكل قوته، علّه يُبطل سحره ولَعنَتَه، فغاب المعتقل مجدداً عن الوعي.
الجاحظ كافراً
رأى الجاحظ نفسه في ما يرى فاقد الوعي المنهك من التعذيب، وقد ألقى جنود الخلافة القبض عليه قرب البصرة، واقتادوه مكبلاً عبر الجسر المعلق فوق نهر دجلة باتجاه بغداد مجدداً، فأظلمت الدنيا في عينيه، وهو يلعن الجسر والنهر وما صنعه الزمن بعقله.
ولم يعِ نفسه إلا وهو راكعٌ بين يدي المتوكل والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، مستعطفاً إياهما ليعفُوَا عنه، بجسدٍ وقلبٍ مرتجف، وعيناه لا تبرحان أرض مجلس الخليفة، حتى إذا سمع العفوَ قد صدر بحقه، حاول رفع رأسه فغَلَبَه ما به من ألم، فأسنده اثنان من الجنود، وما إن جال بنظره في القوم، حتى أبصر معذِّبيه في فرع أمن الدولة من جديد، وقد فك عناصر المخابرات قيوده، فصَرَخَ صراخ الفزع، إذ يُدرك المجنون أنه يفقد عقله.
مازحه المحقق: «متل ما فهمت منك، إنت بلا عقل، متل الحيوانات يعني، هيك ما منكون غْلطنا بحقك، عاملناك متلك متلهن»، ضحك رجال الضابط.
فابتسم له الجاحظ قائلاً: «ليس لك بحجةِ العقل أن تصنع بالحيوانات إلا ما كان مصلحة، كالعلاج والغذاء والكساء، أما التسلية؟! فلَعَمري هذا شيء لا يفعله معشرُ الحيوان حتى».
اتفق رجال الأمن على جنون الرجل المعذَّب بين يديهم منذ ساعات، بعد أن ملّوا حديثه الفصيح الذي لم يفهموا منه شيئاً، وأمرهم قائدهم برميه في حديقة الجاحظ في حي المالكي، ما أثار موجة من الضحك بين الجنود.
أمام تمثال الجاحظ، انهارت أعصاب المعتقل المفرَج عنه تواً، فركض في الممرات الخضراء للحديقة صارخاً وشاتماً، كافراً بالدين والله والدولة والخلفاء والسياسة، لاعناً كلَّ من تجرأ وخطر على باله في تلك اللحظة.
وبقي على حاله هذه حتى استوقفه أحد ضباط الميليشيات الإيرانية في دمشق، وقد فهم من لغْوه وصراخه أنه يستخدم لفظ الجلالة فيما لا يُرضي الله ورسوله والذين آمنوا، فأعمى عينَيه الغضب، ووجه مسدسه إلى الجهة اليسرى من جبهته، وأطلق رصاصة أردته في اللحظة.
مات مرتين
«فتح الجاحظ عينيه، فوجد نفسه مستلقياً وحوله لفيف من أصحابه، وبينهم الطبيب ماسرجويه، وحين حاول القيام وجد أن طرفه الأيسر لا يطاوعه»، فتذكر طعم الرصاصة وهي تخترق الجانب الأيسر من جبهته، بينما سمع الطبيب يُعلن للحضور ما كانوا قد خشوا من وقوعه: «إنه الفالج».
عاش الجاحظ بقية عمره لا يجرؤ على إخبار أحد بكوابيسه، حيث عُذِّبَ وقُتِلَ في أرضٍ لم يسمع بها قط، بل إنه أنفق جزءاً ليس باليسير من وقته بحثاً عنها في الكتب، فما وجد لها شبيهاً في علومِ من عاصروه.
وفي أحد الأيام التي كان يمشي فيها في منزله، مُجهِداً الطرف الأيمن من بدنه، لمح من بعيد كتاباً يذكر أنه اشتراه من دمشق حين زارها قبل ما يقارب النصف قرن، فأعادت ذاكرتُه الصورة المشؤومة لكتاب «الحدقي» في كوابيسه، فاقترب محاولاً الوصول إليه، في أعلى رفوف الكتب، وقلبُه يخفق من الرعب، حتى وقعت عليه المكتبة، فلم يحتمل جسمُه العليل هذه الصدمة، وفارق الحياة من فوره، ورأى في ما يرى الميت، جسراً معلقاً فوق نهر دجلة، وأقبيةَ تعذيب في دمشق.