تعتبر حادثة قارب النجاة التي وقعت عام 1884 من أكثر القصص التي يتم طرحها عند النقاش في موضوع العدالة. وفي وقائعها أن سفينة كانت قد غرقت جنوب المحيط الأطلسي على بعد 2000 كم من الشاطئ، عليها طاقم من أربعة أشخاص: الكابتن دادلي ومعاونه ستيفين والبحار بروكس، ومعهم صبي السفينة پاركر بعمر 17 سنة، الذي كان يتيماً.
خرج الطاقم على قارب نجاة، وكان كل ما لديهم علبتان من اللّفت بدون ماء. تمكنوا من صيد سلحفاة فقط، عاشوا عليها ثمانية أيام، وبعدها لم يبقَ شيء ليأكلوه أو يشربوه. مرض الصبي پاركر الذي لم يستطع مقاومة العطش فشرب من ماء البحر، وكان يبدو أنه على وشك الموت.
في اليوم التاسع، قال الكابتن دادلي إن عليهم أن يُجروا قرعة لتحديد من عليه أن يموت ليتغذى الآخرون على جسده. رفض البحار بروكس الفكرة تماماً، وفي اليوم التالي قال الكابتن لمعاونيه إن من الأفضل أن يُقتل الصّبي پاركر، وطلب من بروكس أن يبقى جانباً ولا يتدخل، ثم قام ستيڤن بقتل الصبي بسكّين.
بعد قتل الصّبي، خرج بروكس من حالة تأنيب الضّمير، وشاركهم في أكل لحم پاركر وشُرب دمه. استطاعوا البقاء أحياء لأسبوعين حتّى جرى إنقاذهم. يصف الكابتن دادلي عمليّة الإنقاذ في مذكراته بتعبير غريب: «في اليوم الرابع والعشرين، حين كنّا نتناول إفطارنا، ظهرت سفينة في الأفق».
عند وقوفهم أمام المحكمة، كان البحّار بروكس هو الشاهد على الجريمة، ولم يُنكر دادلي وستيڤن الواقعة، لكنهم قالوا إنّهم فعلو ذلك مُجبَرين، وعلّلوا ذلك بأن موت شخص مقابل إنقاذ حياة ثلاثة آخرين أفضل من أن يموت الأربعة جميعاً. لم يقتنع النائب العام في النهاية، بل قال إن القتل هو القتل.
لنتخيّل أنّنا أعضاء في هيئة المحكمة، بغض النّظر عن القانون، ومن الناحية الأخلاقية: هل نجرّم أحداً من الثلاثة، ومن نجرّم، ولماذا؟ ما هي العدالة؟ ما هو الحق؟ هل نفضّل الحق أم العدالة؟ هل العدالة الاجتماعية هي تقديم الحق على الواجب أم العكس؟
هي أسئلة فلسفية تطرح مفهوم العدالة الفردية والاجتماعية، إما عن طريق الحق مقابل الواجب، أو عن طريق الفرد مقابل المجتمع.
اتخذ مفهوم العدالة عند الفلاسفة أشكالاً كثيرة، فكان لكل منهم رؤيته وتأطيره لمفهوم العدالة وفقاً للمرحلة والظرف الذي عاشه. يقوم مفهوم العدالة في الفلسفة غالباً على العلاقة مع الحق، فمن الفلاسفة من قال إن العدالة أساس للحق، كقول أرسطو «العدل هو أن يأخذ كل إنسان ما يستحق» وأفلاطون «العدالة إنصاف، فالمساواة في الحق ظلم وجور»، وفي الزمن الحديث ڤون هايك الذي خرج من مفهوم الفرد العادل إلى مسؤولية الدولة في تحصيل الحقوق. ومنهم من قال إن الحق أساس العدل، كشيشرون خطيب روما القديمة، وتوماس هوبز الذي أكد أن «الحق هو حرية الإنسان حين تغيب الموانع الخارجية، ومحرّكه الغريزة، فنضطر إلى القانون والصرامة لتحقيق العدل»، وسبينوزا الذي قال بتأسيس «الحق على البعد الطبيعي، والعدالة على الصرامة والقوة أيضاً»، ومثلهما جان جاك روسو وفريدريك شيلر.
يوصلنا هذا الربط بين العدالة والحق إلى المفهوم السائد للعدالة، الذي يعتمد بكليته على الحق باختلاف مواضعه، قبل أو بعد العدالة، وبالتالي فإنه يعتمد على معطيات الواقع وظرفه، باعتبار أن الحق ينشأ حسب هذا الظرف وزمنه. وفي رأيي أن هذا الفهم السائد للعدالة ينطلق من زمن الواقع، لكنني سأحاول استبداله هنا بفهم آخر ينطلق من الضمير وزمنه الداخلي، وبالطبع فإن هذا الداخل يخضع لعوامل كثيرة، سأختار من بينها الضمير، لارتباطه بمفهوم الأخلاق والعدالة ارتباطاً وثيقاً، وهو ما كان جدلاً دائماً في فلسفة الأخلاق وعلم النفس.
الضمير في اللغة هو المستور، المضمر في النفس لكن الموجود فعلاً، ومن مرادفاته السر والسريرة، وهو يشير في استعماله اليومي إلى الوعي الأخلاقي والقدرة على التمييز بين الخير والشر، وإلى عادة محاكمة النفس ومحاسبتها والمعايير والقيم التي تتم وفقها هذه المحاكمة والمحاسبة.
وكما يشرح سامي الشيخ محمد نقلاً عن لسان العرب والموسوعة الفلسفية العربية، فإن ثمة تعاريف ومرادفات عديدة للضمير، منها الوجدان والمعرفة الباطنيّة للمشاعر والسّريرة، وقد «ترسّخت كلمة ضمير للدّلالة على الوعي الأخلاقي»، إذ نقول «رجل صاحب ضمير» أو «افعل بحسب ضميرك»، كما أنَّ كلمة وجدان شائعة هي أيضاً للدّلالة على تلك الحالات عينها، فنحن نقول: رجل صاحب وجدان. و«الضّمير هو في اللّغة المستور، فقد أُطلِقَ على العقل لكونهِ مستوراً عن الحواس، ويدل أيضاً على المضمر في النّفس»، و«قال قدماؤنا بأنَّ الضّمير باطن الإنسان، وما يخفى في السّر، أو السّريرة، أو الصّدور، وبأنّهُ يعني السّرّ، وداخل الخاطر». فالضمير هو إذن «الوعي الأخلاقي، والشّعور الذي يميِّز بين الخير والشّرّ، ومحاكمة الذّات ومحاسبتها، ومراقبتها وفق المعايير. وهو بنية الانفعالات والعواطف، مع الأحكام والمعايير، الّتي تمسّ قيمة عمل نفذّتُه أو أقوم به».
في تأسيس العدالة على الضمير
كل فعل له مكان وزمان لكي يصبح فعلاً، أي إن كل فعل يحدث في زمان ومكان ما بالضرورة، وسنعتمد هنا على تعدد الزمن للوصول إلى مقاربة جديدة لفعل العدالة.
دعونا ندخل إلى مفهوم العدالة عن طريق «افتراض زمني» يقوم على تقسيم الزمن إلى قسمين أو زمنين للحادثة نفسها: زمن خارجي يقع تحت سلطة الواقع، وزمن داخلي (إنساني) يقع تحت سلطة الضمير.
نقصد بالزمن الخارجي زمن الأشياء الواقعية خارجنا، زمن الظرف وسلطته علينا، أي الوضع الذي كان فيه الأشخاص الثلاثة في حكايتنا، الكابتن دادلي ومعاونه ستيڤن والبحار بروكس. أما الزمن الداخلي فالمقصود به هو السؤال الأخلاقي الذي طرحه الكابتن دادلي ورفيقاه على أنفسهم: «هل من حقي أن أقتل أم لا؟». أي هو الزمن الذي أجبر الكابتن دادلي ورفيقيه على تبرير فعلتهم وتعليلها أمام أنفسهم أولاً، ثم أمام المحكمة، ذلك أنهم كانوا غير قادرين على القيام بالقتل أو الاعتراف به دون تبرير، وهذا التبرير ناتج عن ضغط الضمير، الذي يقوم بفعله خلال زمنه الخاص الذي ندعوه هنا الزمن الداخلي.
ولا أتكلم هنا على تعدد في الأمكنة، بل على مكان واحد هو الواقع الذي يشكّل ميدان الفعل، لكنني أحاول أن أنطلق من زمن إلى آخر، من زمن الداخل الذي أدعوه زمن الضمير، والذي هو جزء لا يتجزأ من الواقع باعتبار أن دواخلنا محصلة لما نعيشه في واقعنا، إلى زمن الخارج.
كذلك فإنني أتكلم هنا عن وظيفة مشتركة للضمير، أي إنني لا أقول إن الضمير واحد ومجرد لدى كل البشر، ولكني أتكلم عن وظيفة أخلاقية مشتركة لدى ضمائر البشر. وللضّمير الإنساني زمن ككل كائن (كائن بمعنى أن له حضوراً وفاعليّة)، لكنه زمن داخلي مباشر ثابت غير قابل للتغيّر أو التحوّل، بل هو قابل للاكتشاف. والعدالة هي تَمَظهُر الضّمير على أرض الواقع، ذلك أنها كمفهوم مرتبطة بالضّمير من حيث المنشأ، وبالتّالي كزمن، والواقع بالنسبة للضمير يشكل الحاضن للقيام بواجبه تجاه العدالة.
العدالة هنا مرتبطة بالضمير ارتباطاً وثيقاً، ويحتاج الضمير إلى حجج وتبريرات مسبقة للقيام بأي فعل يعارضه، إذ يتم إيقاف حالة التأنيب أو إبطاؤها عن طريق التبرير، فتكون العلاقة عضويّة حتى يبدو أن من الصعب الفصل بينهما. ويمكننا النظر إلى العدالة باعتبارها طعم الضّمير وظهورَه أو تجلّيه في الواقع اليومي.
من خلال التبرير، يتم إعادة تعريف العدالة من جديد بما يتناسب مع الواقع وزمنه، فالتبرير ناتج عن الضغط الذي يمارسه الضمير على الخارج لمحاولة تقويمه. ما أريد قوله هنا هو أن الضمير يطلب العدالة وليس الحق، أي أن الضمير لا يعترف بحق الكابتن دادلي ورفاقه بالحياة في مقابل قتل الصبي، لذلك يتم استخدام الظرف الخارجي وزمنه للتبرير أمام حكم الضمير.
من هنا أريد تعريف العدالة انطلاقاً من الزمن الداخلي، أي من زمن الضمير أولاً، ثم الوصول إلى الواقع وزمنه، لأنني أرى أنه لا ينبغي ربط مفهوم العدالة بأزمنة أساسها الواقع، وأنه لا ينبغي للعدالة أن تكون ردّة فعل على واقع ما، ولا أن تتحدد به بل، بل ينبغي أن تكون فعلاً وفاعليّة.
القتل عند الضمير مُنافٍ للعدالة مهما كان تبريره، ومن غير الممكن أن يقبل الضمير القتل بلا مبرر خارجي، وهكذا من خلال التبرير، تغيب عدالة الضمير لتحلّ محلّها عدالة الزمن الخارجي، عدالة تحت سلطة الواقع، وبهذا نكون قد خسرنا العدالة الأصلية.
زمن الداخل تحت سلطة الضمير يعطي العدالة الإنسانية، التي تعطي الحق.
زمن الخارج تحت سلطة الواقع يعطي عدالة الظرف، التي تعطي العنف.
في علاقة العدالة بالحق
القول السائد في تعريف العدالة مرتبط بمفهوم الحق بوصفه هدفاً لا بوصفه جوهراً، أي «أريد حقي، وبتحصيله يكون العدل قد أُقيم»، فتصبح العدالة هدفاً للفعل لا جوهراً له. لكنني أعتقد أن حقي يوجد عندما أمارس العدالة، أي أن العدالة ينبغي أن تكون مُولِّدة للحق، لا أن تنتظر وجوده أو إعطاءنا إيّاه، لأنها هي جوهر الحق، ولأن الاعتراض على الظلم أساس للحق. الاعتراض والعصيان أداة الحق في الواقع اليومي، وبالعدالة يؤخذ الحق.
وفي رأيي أنه لا يمكننا تحقيق العدالة أو الوصول إلى حقوقنا انطلاقاً من الواقع أو الخارج أو الظرف الراهن، وحسب الفرضية فإننا لكي نحصّل الحقوق، يجب أن يكون هدفنا الأساسي هو العدالة وليس الحق، أي يجب أن تكون غايتنا العدالة أولاً، بعيداً عن الظرف للوصول إلى حقوقنا.
«وجود الحق عند الاضطرار لا يعوَّل عليه لأنه حال، والحال لا يعوَّل عليه، فإذا وجد في غير حال الاضطرار، فذلك الذي يعوَّل عليه»، يقول محي الدين بن عربي
العدالة في الحادثة التي بدأنا بها هي ألا يُقتَل أحد، وفيها يصبح حق الحياة تبريراً لاأخلاقياً مرتبطاً بزمن الخارج وسلطته. هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي فلا يمكن أيضاً تفضيل الحق على العدالة، بل علينا أن نعي العدالة كمفهوم للوصول إلى حقوقنا، أي إن علينا البحث عن تحقيق العدالة أوّلاً في الواقع، وبتحقيقها يتم الحصول على الحقوق، إذ لا يمكن أن أقتل لكي أحصل على حقي في العيش، ولا يمكن أن أقتل الظالم لفكّ الظلم.
من هنا يصبح تعريف العدالة هنا أنها اعتراض الزّمن الدّاخلي (الضّمير) على ما هو خارجي (زمن الواقع).
عندما نسمع عن آباء يضربون ويعاقبون أولادهم للتّنشئة، وعن جيوش تحتل مدناً لرفع الظّلم وإعمارها، وعن مناضلين يقتلون باسم دفع الظلم، نستطيع اكتشاف مدى بعد الإنسان عن العدالة التي نتكلّم عنها. وبمعنى آخر، ينبغي ألّا أدع الظرف أو المجرم يحوّلني إلى مجرم آخر، لأن غايتي هي تحصيل حقوقي لا الانتقام، وباعتقادي أن كل فعل مصدره خارج الضّمير هو تهوُّر وظلم وسيصبح انتقاماً بالضّرورة؛ فلكي نحصّل الحقوق، يجب أن تكون غايتنا الأساسية هي العدالة وليس الحق.
فلنأخذ مفهوم العقاب والمحاسبة السائد مثلاً، والقول إنه مولد للخير والعدالة. العقاب فعل عنفي، زمنه أرضي، يتشكّل ويتمثّل في الخارج، ويشكّل رابطة مع مفهوم العدالة بوصفه طريقاً لتحقيقها، وبالتالي تكون العدالة قد خسرت منشأها الأساسي وبدايتها، وتحوّلت إلى انتقام، وباتت السّيطرة هي الطريق الوحيد للوصول إليها.
أن تكون العدالة مؤثرة لا متأثرة
لا يمكن أن توجد العدالة نفسها وتتوالد خارج الذّات الإنسانيّة، فعندما ترتبط بالخارج تفقد ارتباطها مع زمن الضمير، وتتحول إلى ردّة فعل تشكّل رابطة بديلة مع الهدف السّلطوي وزمنه الخارجي وليس مع الضمير، وبالتّالي فإنها ستتمثّل بالعنف بالضرورة، وتتحول إلى ظلم ما، على شكل عدالة.
لنأخذ عقوبة الإعدام مثالاً. يقال إن الإعدام يحقق عدالة في الحاضر أو المستقبل، أو إنّه حلّ لمشكلة الجريمة؛ وهذا ليس صحيحاً دون شك، لأن الجريمة موجودة حتى الآن، مثلها مثل عقوبة الإعدام على المستوى الاجتماعي أو القانوني. ورغم أن عقوبة الإعدام من أقدم العقوبات وأكثرها شيوعاً خلال مراحل الحضارية البشرية، إلا أنها لم تمنع استمرار الجريمة.
الحقيقة أن الإعدام كعقاب هو حالة انتقام، فردية كانت أم جماعيّة، أو حتى مؤسساتية، وهو جريمة ثانية مرتبطة بالزّمن الخارجي السلطوي، أي إن لها أهدافاً للسيطرة والتخويف، بالتّالي ليس لها ارتباط مع العدالة أو زمن الضّمير، ببساطة لأن الضمير لا يمارس الانتقام.
يقول المفكّر وليد صليبي في كتابه عقوبة الاعدام تقتل: «وأما الحِداد، فيُفترض أن يُعلَن مرتين، لحظة الجريمة ولحظة الإعدام، ففي كلتا الحالتين يتم اغتيال العدالة».
وحتى المجرم الذي يذهب لقتل ضحيّته، يحمل في داخله حجة قتله أمام ضميره. وليس هذا دفاعاً عن القاتل طبعاً، لكنه محاولة للتفكير في تعريف معنى الجريمة والتصالح مع فكرة وجودها، بهدف البحث عن إقامة العدل وتحصيل الحقوق، ذلك أن كل من يقتل بإرادته مجرم، سواء كان على أساس الحق أو القانون أو الغاية… إلخ.
إنّ القاتل الذي يتسلّل في مكان ما من وراء ضحيته ليقتلها، برأي دوستويفسكي (1821-1881) في كتابه الإخوة كارامازوف، أقل إجراماً من مؤسّسة تتّخذ الإعدام والتّعذيب جزءاً من عقوباتها على الأفراد. وينبغي ألا ننسى هنا العذاب الذي سيعيشه القاتل من لحظة معرفته بحكمه إلى آخر لحظة قبل تنفيذه؛ هل هذا العذاب هو الذي يمنع القتل؟ ويُفضي للعدل؟
العدالة الاجتماعية
يقول الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو (1817-1862) في مقالته «العصيان المدني» التي تتناول الحكومة والقانون وعلاقتهما مع الجماعة والأفراد، إن الضّمير هو المشرّع الأساسي للحق والعدالة، إذ يجب علينا أن نكون بشراً أولاً ثمّ رعايا: «هل ينبغي أصلاً على المواطن للحظة، أو في الحد الأدنى، أن ينزل عن ضميره للتشريع؟ علامَ لكلّ إنسان ضميرٌ إذن؟ أعتقد أننا يجب أن نكون بشراً أولاً، وبعد إذن رعايا، إذ ليس من المرغوب أن يُحرَّضَ على احترام القانون بقدر ما يُحرَّضُ على الحق. إن الفرض الوحيد الذي يحق لي أن أسأل عنه هو أن أفعل في أي وقت ما أراه حقاً».
ويضيف ثورو في مقالته الشهيرة أنه يمكن الوصول إلى جماعة من ذوي الضمائر الحيّة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وليس إلى ضمير جمعي: «صدقَ إلى حد كبير من قال بأن الجمع لا ضمير له، لكن جمعاً من أصحاب الضمائر هو جمع ذو ضمير». والوصول إلى جمع كهذا حقيقة ممكنة في الواقع، ويتكلم التاريخ على أمثلة كثيرة مماثلة، منها ما حدث في ثورة المهاتما غاندي اللّاعنفية في الهند «مسيرة الملح»، وانتفاضة الحجارة الأولى في فلسطين (شعار وليد صليبي «نعم للمقاومة لا للعنف»)، وثورة السّود في أميركا ضد التمييز العنصري؛ أو بشكل أشمل، كل فعل إنساني جماعي كالفن والفكر والحبّ والتعلّم والتّربية وغيرها.
ما يميز هذه الأفعال والنضالات عن غيرها ويربطها بفكرتنا حول العدالة، هو صبغتها اللاعنفية من حيث الشكل والمضمون، وهذا يأخذنا الى أن العدالة هنا كانت جوهر النضال، وليس الحق المسلوب. ولا شك أن الظرف له تأثيره الهائل على التحرك والمطالبة بالحق، لكن من غير الممكن أن يكون هو منشأ هذا النضال، وإلا تحوّلَ إلى عنف وظلم بالضرورة، وخسر معه العدالة وحقّه المسلوب عبر تحوله إلى ظلم آخر. أما باعتماده على الضمير، يحقق الفعل أو النضال اللاعنفي العدالة، ولكنه لا يحقق النجاح بالضرورة، لأنه يمكن أن يفشل أو ينجح في تحقيق أهدافه كلها حسب الظروف السياسية والاجتماعية وغيره.
يشير المهاتما غاندي في كتابه كل البشر إخوة: «القوّة هي قوة الذّات، يجب أن تكون مَوضِع فعل وعلينا التمسّك بها كبشر، الخطوة الأولى التي تتيح الوصول واستخدام هذه القوّة هو أن نمتنع عن فعل ما نعتبره ظلماً، وأن نتحمل عواقب وعذاب قراراتنا على أنفسنا وليس على الآخرين».
إنّ الضّمير هو فضيلة الإنسان الأولى، وهو حالة الاعتراض الدّاخلي الأساسيّة. هو محرّك العدالة وأداتها، أي إن الضمير يظهر ماديّاً على شكل مفهوم وهدف هو العدالة. والاعتراض على الظّلم وحده قادر على إبراز العدالة كاملة التفاصيل، التي بدايتها ومسكنها هو الضّمير، والتي تحفظ الحقوق كاملة. والشّجاعة هنا هي الاعتراض ومواجهة ظلم الذّات وظلم الآخر، وبنتيجة هذه النظرة، نستطيع توفير فهم جيد للحكم على ما هو خارجي وكشف دوافعه ونتائجه، حيث لا يمكن للعدالة المرتبطة بالضّمير أن تكون مرتبطة بالسلطة أو الانتقام، أو بأي عنف لا من حيث الفعل ولا من حيث الغاية.
يمكننا القول إن الزّمن الخارجي هو زمن قابل للمد والجذر كالبحر الأزرق الواسع، أمّا زمن الدّاخل فهو زمن ثابت موحد كالسّماء الزرقاء الواسعة الصافية.