واجهت الليرة السورية خلال السنوات الماضية أزمات مركبّة جرّاء انهيار جزء كبير من البنية الاقتصادية في البلاد نتيجة الحرب، وبعد أن تحسن سعر الصرف وأصبح أكثر استقراراً منذ العام 2017، عاد ليتدهور سريعاً منذ مطلع العام 2019. ويمكن أن تساعد نظرة أوسع على هذه التغيرات وأسبابها في ملاحظة التحولات التي حصلت في الاقتصاد السوري، وفي تكوين رؤية حول مستقبل هذه الاقتصاد ومستقبل الليرة السورية.

تُظهر النشرة الرسمية التي يصدرها البنك المركزي السوري ثباتاً في سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي منذ السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر2017، قريباً من 438 ليرة للدولار الواحد للشراء و434 للمبيع، في تعامٍ عن قيمة الليرة الحقيقية حالياً في الأسواق، التي ارتفعت إلى ما يزيد عن 580 ليرة للدولار الواحد، استمراراً لمسيرة فقدان الليرة لقيمتها منذ العام 2011، إذ شهدت الأعوام الأربعة الأولى من الثورة وحدها تراجع الليرة بنسبة 80%، حيث وصل سعر الدولار في آذار/مارس 2015 إلى نحو 275 ليرة.

وكانت أدنى قيمة وصلت إليها الليرة السورية على الإطلاق في أيار/مايو 2016، حين بلغ سعر الدولار الواحد 645 ليرة، ومنذ ذلك الوقت بدأت تتحسّن قيمة الليرة مقابل الدولار حتى وصلت إلى 420 ليرة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2017، ثم عادت لتفقد قيمتها تدريجياً ببطء، إلى أن وصل سعر صرف الدولار إلى 500 ليرة مطلع العام الحالي، لتبدأ بعدها عملية تراجع سريع في قيمة الليرة السورية حتى وصلت في نيسان الماضي إلى سعر 583 واستقرت عند هذه الحدود حتى اللحظة.

ونستطيع أن نعزو عجز البنك المركزي عن مواكبة انخفاض سعر العملة في السوق الموازية إلى انخفاض مستوى الاحتياطيات من النقد الأجنبي لديه، بحيث لم يعد قادراً على ضخ مزيد منه في السوق خشية فقدان كامل هذه الاحتياطيات. وفي الوقت نفسه فإن البنك المركزي غير قادر على ضبط سعر العملة بسبب انسحابه من عملية تمويل المستوردات، وبالتالي فإنه ليس أمام المستوردين سوى السوق السوداء التي ستظلّ مزدهرة أمام عجز المركزي. وإذا صحّ أنّ النظام سمح للمستوردين بشراء النفط، فإن هذا سيعني حاجتهم لقطع أجنبي هو غير قادر على تأمينه، ومن ثم سيلجأ هؤلاء للسوق السوداء أيضاً، ما سيؤدي لفتح حلقة جديدة من مسلسل تدهور سعر صرف الليرة.

بالعودة إلى المخطط البياني لقيمة الليرة في الأسواق خلال الأعوام الماضية، نجد أنّ العام 2017 شهد تعافياً نسبياً لسعر الليرة مقارنةً بالعام 2016، الذي كان الأكثر سوءاً من حيث سعر الصرف. وتعزو مديرية الأبحاث الاقتصادية والإحصاءات العامة والتخطيط في البنك المركزي في تقاريرها ذاك التعافي إلى مجموعة الإجراءات التي اتخذها المصرف، والتي تضمّنت تنظيم الحوالات وتمويل عمليات الاستيراد والسماح للمصارف العاملة في سوريا بشراء القطع الأجنبي من الناس مباشرة، الأمر الذي أسهم في ارتفاع منسوب المعروض من القطع الأجنبي في السوق، وبالتالي الحد من عمليات المضاربة، فضلاً عن العمليات العسكرية لجيش النظام التي عززت الثقة بالليرة، وفقاً لمديرية الأبحاث أيضاً.

ولكن بعيداً عن تفسيرات البنك المركزي تلك، فإن تحسن سعر صرف الليرة آنذاك يرجع إلى الأثر الذي أحدثه التّدخّل الروسي لصالح النظام، والذي أسهم كثيراً في هذا التحسن نتيجة تقوية موقف النظام السياسي والعسكري، بالإضافة إلى أن تلك الفترة نفسها شهدت انحساراً كبيراً في مستوردات النظام التي تحتاج للتمويل بالقطع الأجنبي، نتيجة الاعتماد بشكل أكبر على الخطوط الائتمانية، وأبرزها الإيراني والروسي، وهذا بدوره انعكس على انخفاض نسبة التضخم السنوي في العام 2017 حتى بلغت 18.8%، بينما كانت قد وصلت في العام 2016 إلى 47.7%.

لكن الأثر الناجم عن تلك العوامل كان مؤقتاً، لأنه لم يكن يعتمد على سياسات اقتصادية مستقرة ولا على استعادة البنية التحتية اللازمة للإنتاج والتصدير على المدى الطويل، وقد عاد سعر صرف الليرة للتدهور مجدداً نتيجة تبديد الاحتياطي النقدي للبنك المركزي السوري من 18 مليار دولار في العام 2011 إلى أن وصل اليوم لأقل من 700 مليون دولار في أحسن التقديرات؛ ونتيجة عدم ثقة السوريين بالقيمة الحقيقية لليرة، ما يؤدي إلى انخفاض الإقبال على الإدخار بها أو الاستثمار من خلالها، لا سيّما أنّ الفرق بين السعر الرسمي للبنك المركزي وسعر السوق السوداء كبير جداً؛ ونتيجة انعدام الثقة لدى التجار والمستوردين بسياسات البنك المركزي، ما يحول دون إيداعهم للقطع الأجنبي فيه رغم توجّهه لرفع أسعار الفائدة على القطع الأجنبي بشكل مستمر.

ويبدو عسيراً تدارك الانخفاض الحاصل في سعر الليرة السورية، حتى بعد انتهاء العمليات العسكرية في البلاد، لأن الاقتصاد السوري يواجه مشكلات عميقة؛ أبرزها العقوبات الاقتصادية التي يبدو أنها لن تُرفع دون تحول سياسي يبدو مستعصياً؛ والديون الكبيرة التي لا يمكن التكهن بقيمتها بسبب عدم وجود تقديرات حقيقية للتوريدات الروسية والإيرانية والاتفاقيات الخفيّة الموقعة، وهي ديونٌ سياديةٌ ستعيق أي محاولة لإنعاش الليرة؛ كما أنّ البنية التحتية للموارد الرئيسية القابلة للتصدير شبه مدمرة بالكامل، وتتطلب إعادة تأهيلها فترة طويلة جداً حتى تتمكّن من المساهمة في ميزان المدفوعات، وبالتالي إدخال مزيد من القطع الأجنبي إلى البلاد.

كذلك تشير تقديرات اقتصادية إلى أنّ حجم الكتلة النقدية المطروحة في السوق من الليرة السورية يُقدّر بنحو 650 مليار ليرة، أي ثلاثة أضعاف الكتلة النقدية في العام 2010، رغم انخفاض عدد السكان بنحو 5 ملايين نسمة من النازحين واللاجئين، وانهيار أكثر القطاعات الاقتصادية إنتاجية، ما يعني أنّ هنالك فائضاً كبيراً في المعروض من الليرة السورية في الأسواق، لن يتسنّى معه ارتفاع قيمة الليرة.

في الوقت الذي تغيب فيه الإحصائيات والمعلومات الدقيقة حول النشاط الاقتصادي في سوريا، يمكن النظر إلى تدهور الليرة السورية بوصفه مرآة لتدهور الاقتصاد السوري الكلي، ذلك أنه في غياب قدرة البنك المركزي على التحكم بسعر صرف الليرة، تغدو تحولات هذا السعر أكثر تعبيراً عن الأوضاع الاقتصادية الفعلية، التي يبدو أنها تسير نحو الأسوأ بشكل مطرد بغض النظر عن مزاعم النظام حول استعادة الاستقرار وقرب نهاية الحرب. ولا يبدو أن ثمة شيئاً يمكن أن يوقف تدهور الأوضاع الاقتصادية ومعها سعر صرف الليرة السورية، سوى تحول سياسي حقيقي يؤدي إلى عودة عجلة الإنتاج المحلي للدوران، ويؤدي إلى رفع العقوبات عن البنك المركزي السوري وسائر مؤسسات الدولة التي يحتكرها النظام ويجيرها لصالح حربه الدموية.