ليست أجهزة الأمن والمخابرات في سوريا خفية عن الأنظار، بل إنها كانت ولا تزال حاضرة في كل تفصيل يعيشه السوريون، لكن هذه الاستباحة العلنية تترافق دوماً مع غموض تام في آليات عمل هذه الأجهزة وعالمها الداخلي؛ ما هي طبيعة العلاقة التي تجمع هذه الأجهزة ببعضها بعضاً؟ كيف تصدر الأوامر وكيف يتم تنفيذها؟ ومن هم المسؤولون فعلياً عن رسم السياسات وتقرير الأساليب؟ وما هي الحدود الفاصلة بين ما هو منظم وما هو عشوائي؟

لدينا تخمينات عن كل ذلك بالطبع، وكلنا نعرف أسماء مثل علي دوبا ومحمد ناصيف وعلي مملوك وجميل الحسن، وكلنا نعرف أن هذه الأجهزة تتعاون حيناً وتتنافس حيناً آخر، وأنها تعتمد في الأساس على بث الخوف والرعب وزرع المخبرين والمراقبة والتنصت، وأنها تمارس أعمالها دون أي ضوابط قانونية من أي نوع، لكن لطالما افتقرت هذه السرديات التي يعرفها كثير من السوريين إلى الأدلة الملموسة، التي عمل نظام الأسد على إخفائها بحذر شديد طوال فترة حكمه.

ينشر المركز السوري للعدالة والمساءلة اليوم تقريراً هو الأول من نوعه، من حيث أنه مبنيٌ على تحليل آلاف الوثائق المستخرجة من مقرات أمنية تابعة للنظام، مُقدِّماً من خلالها تصوراً عن آلية عمل وتفكير الأجهزة الأمنية في سوريا، وعن كيفية تعاطيها على عدة مستويات مع الثورة السورية، والأساليب التي اتبعتها في مراقبة السوريين وقمعهم.

يحمل التقرير عنوان «للجدران آذان: تحليل وثائق سرية من أجهزة الأمن السورية»، وقد جاء نتيجة عمل استمر خمسة عشر شهراً، تم خلالها ترتيب وحفظ وتحليل وثائق استطاع فريق المركز السوري للعدالة والمساءلة تهريبها من مقرات أمنية خرجت عن سيطرة النظام في مدن الرقة والطبقة وإدلب، بالإضافة إلى وثائق جمعتها اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة من داخل مقرات الأجهزة الأمنية، بحيث باتت العينة التي يستند إليها التقرير تتضمن آلاف الصفحات من وثائق جمعت من محافظات الرقة وإدلب والحسكة ودير الزور ودرعا، ما قاد إلى تركيب جزء مهم من الأحجية التي تشكل الصورة الكبيرة لمنظومة المخابرات في ظل نظام الأسد.

تتناول وثائق العينة التي اعتمد عليها التقرير عدة أجهزة أمنية وأجهزة عسكرية ذات طبيعة أمنية، هي شعبة المخابرات العسكرية، ومكتب الأمن القومي الذي بات يحمل اليوم اسم مكتب الأمن الوطني، والإدارة العامة للمخابرات المعروفة باسم أمن الدولة، وإدارة المخابرات الجوية، وجهاز الشرطة، وشعبة الأمن السياسي، والهيئة العامة للأركان.

وتتعلق هذه الوثائق بعمليات اعتقال وتنصت ومراقبة خارج إطار القانون، وتوجيهات حول كيفية التعامل مع المتظاهرين أو كيفية مواجهة نشاطات متنوعة مناهضة للنظام، وتشرح جوانب من عمل هذه الأجهزة على التحكم بمجالات عدة من حياة السوريين من بينها المجال الاقتصادي، وتقدم تصوراً أولياً عن كيفية إصدار الأوامر والقرارات وتعميمها.

وإذا كان التقرير يقول إنه لا يتضمن افتراضات حول الهيكلية والتسلسل القيادي، إلا أن الوثائق التي يستند إليها تشرح بوضوح كيف أن الأجهزة الأمنية لا تلتزم بأي قانون أو تسلسل هرمي واضح، ذلك أنها لا تشير إلى أي مذكرات أو أنظمة أو أسس قانونية تبرر الأوامر، كما أنها تتضمن أوامر بتنفيذ أعمال عسكرية، صادرة عن أجهزة يفترض أنها تابعة إدارياً لوزارة الدفاع، لكن دون الرجوع إلى الوزارة.

ويتضمن التقرير ما يمكن اعتباره دليلاً على محاولة صياغة الأوامر والتعليمات بطريقة تفتح الباب أمام التنصل من المسؤولية في أي محاكمات مستقبلية، من خلال عدم وضوح الأوامر وترك المجال مفتوحاً لتطبيقها بشكل استنسابي، وهو ما يعتبره التقرير أحد التفسيرات الممكنة لتفاوت التعامل مع التظاهرات والاحتجاجات من منطقة إلى أخرى. ويتم شرح المسائل في كثير من الوثائق مع توجيه أمر بـ «إجراء اللازم»، دون تحديد مضمون الإجراء «اللازم» اتخاذه، حتى أن ثمة وثائق ممهورة بأختام وتواقيع عديدة، وفيها عبارة واحدة فقط هي «إجراء اللازم» دون تحديد فحوى المسألة.

ولكن رغم هذا، فإن ثمة وثائق تدين الضباط والقياديين الموقعين عليها بوضوح لا يقبل اللبس في أي محاكمات مستقبلية، من بينها وثائق تتضمن توجيهات باستخدام القوة المميتة بشكل عشوائي ضد أهداف مدنية، أو تتضمن أوامر بالكف عن استخدام القوة المميتة ضد متظاهرين في منطقة معينة أو بالكف عن سرقة قوافل الإغاثة الإنسانية، ما يعني أن هذه الممارسات كان مسموحاً بها في الأحوال الاعتيادية.

يقول محمد العبد الله، مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة، للجمهورية: «إن الأدلة الواردة في الوثائق هامة جداً لمقاضاة مسؤولي النظام أمام المحاكم الأوروبية أو أمام محكمة دولية في المستقبل، لذلك سنعمل على نقل البيانات إلى الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة، على أمل تفعيل استخدامها في محاكمات المستقبل».

كذلك يُتيح حفظ هذه الوثائق مادة كبيرة للبحث في بنية الأجهزة التي حكمت سوريا طوال خمسة عقود، والمدى الذي وصلت إليه في التدخل بحياة السوريين، ويُظهر بوضوح أهمية تفكيك تلك البنية للوصول إلى حل سياسي مقبول في سوريا، وفي هذا الخصوص يقول العبد الله: «أعتقد أنها (الوثائق) تعطي الصورة الأوضح على الإطلاق عن تركيبة أجهزة الأمن، طريقة عملها، علاقتها مع بعضها بعضاً ومع الشعب السوري»، مؤكداً أن مزيداً من الوثائق سيقدم صورة أفضل، لكن هذا ليس متاحاً اليوم.

ربما لا تكون التصورات التي خلص إليها التقرير غريبة على السوريين، لكن الجديد فيها هو توثيق هذه التصورات وتأكيدها بالأدلة الورقية، وتقديم رؤية دقيقة مبنية على دراسة مستفيضة لأسرار ووثائق أدوات التوحش التي تحكم السوريين، وإتاحة مزيد من معرفة الجزء الغارق من جبل الجليد الأمني الذي مكث على صدورنا طويلاً، والذي لن نتمكن من إزاحته سوى بتفكيك معاقل قوته الرئيسية التي يجب أن نعرف عنها أكثر.