بالمراكب المطاطية. سيراً على الأقدام في الغابات. قفزاً فوق الأسلاك الشائكة، أو زحفاً لتفادي رصاص القناصة، أو ارتعاداً أمام الضابط الذي يعاين الجواز المزوّر؛ هكذا رُسم طريق اللاجئين الفارين من بلادهم المخنوقة بالديكتاتوريات والحروب والفقر. وهو طريق لا ينتهي بالضرورة كما تشاء الآمال، ذلك أنه قد يكون مرصوداً بمناجل الموت، أو منتهياً بالمخيمات المسوّرة مثل السجون التي هرب منها الهاربون.
لم يكن بهروز بوجاني، الصحفي الكردي-الإيراني، يعرف بالضبط ما الذي ينتظره حين قرر الفرار من إيران حرصاً على حياته المهددة. كان يظن أن ثمة عدالة تتوافر خارج أسوار بلاده-السجن، تحصّنه مع أقرانه في المركب المتهادي فوق الأمواج من البطش والقسوة. كان الخطر بالاعتقال أو التصفية محدقاً به في إيران، بعد نشاطه الصحفي في انتقاد انتهاكات السلطة، وقد وجد أن الحل المنطقي في مواجهة خاسرة كهذه، تُنتزع فيها الأظافر وتزهق الأرواح عبثاً، هو الخروج والاستمرار بالعمل من الخارج.
خرج بهروز من بلاده ووصل إلى جزيرة كريسماس التابعة لأستراليا في 2013، أي قبل نحو ست سنوات، آملاً بمتابعة رحلته إلى أستراليا، لكن السلطات الأسترالية أوقفته مع مئات الأشخاص، ثم أرسلته إلى جزيرة مانوس، التي يقيم فيها منذ ذلك الحين «لدراسة طلبه»، في ظروف لا تختلف كثيراً عن معسكر الاعتقال: فهناك أسوار وجنود، والحركة ممنوعة، والتواصل مع العالم الخارجي يتم بشق الأنفس، وظروف الإقامة غير إنسانية البتة، وهناك حالات تعذيب واعتداء.
بعد مرور فترة من إقامته في معسكر الاحتجاز، بدأ بهروز بوجاني بكتابة رسائل مطولة، يتحدث فيها عن الأكراد ونضالهم في إيران ضد قمع السلطات، إضافة لما يتعرض اللاجئون له في مراكز الاحتجاز الأسترالية، وأرسل هذه النصوص عن طريق الواتساب والرسائل النصية إلى أصدقائه في الخارج، الذين جمعوها وترجموها في كتاب بعنوان لا صديق سوى الجبال.
وقد نال الكتاب بعد صدوره أرفع جائزة أدبية في استراليا، وهي جائزة فيكتوريا بقيمة 100 ألف دولار أسترالي، وتم الاحتفاء به وتكريمه في عدة مدن حول العالم خلال الأسابيع الأخيرة، وبرز اسمه إلى الواجهة مسلطاً الضوء على معاناته هو ومن معه، ومُسبباً موجة واسعة من الإدانات لسياسية الحكومة الأسترالية الوحشية ضد اللاجئين، القائمة على احتجازهم لأعوام طويلة في ظروف قاسية.
ورغم الصدى الواسع الذي أحدثه الكتاب، ودفعه قضية اللاجئين في أستراليا خصوصاً، والعالم عموماً، إلى الواجهة، وتحريكه المنظمات الإنسانية، إلا أن بهروز ومن معه ما يزالون في الظروف المزرية ذاتها. وهو إذ نال ما ناله من الرواج لقصته وكتابه، يؤكد دوماً على أن قضيته لا تنفصل عن قضايا من معه، ذلك أن الوقوع في فخ الاحتفاء بـ«اللاجئ المبدع» وتناسي جذور مشكلته هو أمر مستفزّ، ولا يحلّ المشكلة الجوهرية.
وقال بوجاني موضحاً الظروف الصعبة في ما يسمى «مراكز دراسة طلبات اللجوء» إن هذه المراكز فيها «مئات المعتقلين، وهي عبارة عن سجن رهيب تكثر فيه حالات الانتحار والتعذيب». وأدى عمله الحثيث على توثيق الانتهاكات التي يتعرضون لها وفضحها، إلى عزله وتحويله إلى سجن انفرادي أكثر من مرة من قبل السلطات الأسترالية، ليصبح هارباً من سجن إلى سجن، ومن قمع إلى قمع، ويضع بقصته إصبعاً كاوياً على تشابه النسخ الوحشية للأنظمة الحاكمة في هذا العالم، التي يصعد إليها اليمين بقدمين راسختين جرّاء تهاوي قيم العدالة والمساواة، مقابل صعود لغة الخوف والترهيب والعنصرية.
وقال تقرير أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش إن حوالي 1200 لاجئ محتجزون في جزيرتي مانوس وناورو الأستراليتين، في خيم بلاستيكية لا تقيهم حرارة الجو التي تصل إلى 50 درجة مئوية أحياناً، وسط تقاعس متعمد في تقديم الخدمات الطبية، وحصول حالات تعذيب، فيما لا يُسمح للمحتجزين بالاستحمام سوى لمدة دقيقتين. وأدت الظروف السيئة التي يعيش فيها اللاجئون إلى عدة حالات انتحار، إضافة إلى تدهور الصحة العقلية لعدد من الأشخاص الذين يعانون من نوبات القلق وقلة النوم والمزاج المتقلب، والاكتئاب لفترات طويلة، وفقدان الذاكرة قصيرة المدى. كما يفيد التقرير بأن أطفالاً بدأوا يتبولون في الفراش، ويعانون من الكوابيس، ذلك فضلاً عن اعتداءات سكان ناورو المتكررة بلا عقاب، وحصول حالات اعتداء جنسي ضد النساء.
وذكرت منظمة أطباء بلا حدود إن هناك ما يمكن تسميتها بـ«حالات سبات» أو «متلازمة الاستسلام»، التي أصيب بها عدة أشخاص معظمهم أطفال في الجزيرتين، إذ أصبحوا غير قادرين على الكلام أو تناول الطعام والشراب، وهي حالة ينسحب فيها الأشخاص من الحياة وينغلقون على أنفسهم ليدخلوا في وضع أشبه بغيبوبة، لافتةً إلى أن نحو ثلث الأشخاص الذين عالجتهم المنظمة في جزيرة ناورو، قبل أن تطردها السلطات، قالوا إنهم حاولوا الانتحار.
تستمر أستراليا في انتهاج سياسة صارمة ضد اللاجئين منذ سيطرة اليمين على الحكومة في 2013، تقوم على اعتراض قواربهم في البحر وإرسالهم إلى جزر في محيطها، بهدف «دراسة طلباتهم» التي تنتهي برفض معظمها، وترحيلهم إلى مكان آخر أو إبقائهم قيد الاحتجاز في هذه الظروف المأساوية.
وكتب بوجاني قبل أيام على صفحته في فيسبوك، معلّقاً على الاحتفاء بكتابه في عدة مدن حول العالم خلال الأيام الأخيرة: «خلال الأسبوع الماضي، كان هناك سبع فعاليات تخص الكتاب في المملكة المتحدة واسكتلندا ونيويورك وجامعة هارفارد وملبورن وبيرث وسيدني. نأمل أن يستمر الكتاب بلفت أنظار الناس في الفترة التي تسبق الانتخابات. لقد فاز الكتاب بجائزة الأدب المرموقة في اليومين الماضيين. أولاً، فزنا بجائزة إن إس دبليو بريمير الخاصة منذ ليلتين، ثم حصلنا على جائزة صناعة الكتاب الأسترالية لأفضل كتاب غير روائي هذ العام. لقد بذلتُ جهداً كبيراً لكتابة هذا المنشور. السبب الرئيسي الذي أكتبه لأجله في هذه الظروف الصعبة هو كشف هذا النظام الوحشي، ومشاركة المأساة في مانوس وناورو مع الناس في جميع أنحاء العالم. أنا دائماً أعارض تسليع الألم وتمييزه في هذه الجزر، وأحاول دائماً العمل كشخص مستقل يعتمد فقط على قلمه، وعلى الأشخاص المعارضين لهذه السياسة… أحد أصعب الأشياء بالنسبة لي في هذه الجزيرة هو عندما يتم الاعتراف بعملي، أو حين أحصل على جائزة، وأُدرك أننا لا نزال هنا، وأن الناس لا زالوا يعانون، وكثيرون منهم بعيدون عن عائلاتهم منذ سنوات».