مع كلّ حملةٍ عسكرية تستهدف المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المُعارضة السورية، يفاجئنا النظام السوري وراعياه الروسي والإيراني بمزيد من العنف والرغبة في التدمير، من خلال سيناريوهات جديدة، أو عبر استنساخ سيناريوهات دموية قديمة وتطويرها لتصبح أكثر فتكاً ووحشيّة ممّا كانت عليه، وفق نموذج عنفي مُخطّط، ومنفلت من أيّ حدود أو قيود في الوقت نفسه.

وليس صائباً القول إنّ القصف والعنف الذي يمارسه النظام وحليفاه الروسي والإيراني عشوائيٌّ رغم همجيّته وشموله، بل هو دقيق ومُمنهج في أسلوبه وغاياته؛ موتٌ كثير وخوفٌ كثير ودمارٌ كبير. ووفق هذا المبدأ الدقيق في انتقاء الأهداف، لم يوفّر الروس منذ بداية حملتهم العسكرية المستمرة النقاط الطبية والمشافي ومراكز الدفاع المدني والمنشآت التعليمية في محافظة إدلب وريف حماة الشمالي، فإن لم يكن الهدف الموضوع للعمليات العسكرية اليوم هو السيطرة الكاملة على هذه البقعة بتوازناتها وترتيباتها بالغة التعقيد، فيجب أن تُجعل غير صالحة لعودة المدنيين إليها، ثم الاستفادة من الدمار والتهجير لاحقاً في فرض شروط جديدة للتسوية.

وإذا كان النظام السوري قد أدرك منذ العام 2013 أنّ أقدار العنف التي يمارسها ستمرّ دون عواقب حقيقيّة تردعه، رغم الضجيج الإعلامي الذي تحدثه على الصعيد الدولي، فهو اليوم، وبعد أن باتت روسيا شريكةً له في القتل والتدمير، لم يعد يخشى من أيّة عواقب، بل صار على درجة من الثقة تجعله لا يبالي بالصور القاسية التي ينقلها الإعلام عن إجرامه، وبالتالي لم يعد يجد نفسه مضطراً حتى للدفع بإعلامه من أجل تكذيب ما يحدث.

علاوةً على ذلك، ساعد النظامَ أنّ «قضاة الإنسانية» المُتمثّلين بالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، قد ارتكبوا هم أيضاً مجازر في سياق «حربهم على الإرهاب» في سوريا، وإذا كانت مجازر الولايات المتحدة وحلفائها لا تقارن من حيث الكم بما فعله النظام مع حليفيه الروسي والإيراني، إلا أن بشاعتها لا تقلّ أبداً من حيث النوع، حتى بات بمقدور النظام أن يقول للجميع بصلف: لا تستطيعون إدانتي بتهمة قتل السوريين وأنتم تفعلون الأمر نفسه، وما خبر الرقة ودير الزور ببعيد.

وفوق هذا نجد أنفسنا أمام تغطية إعلامية عالمية ضعيفة لأعمال القتل والتهجير في إدلب وحماة، واهتمام دولي وعربي باهت على كافّة الصعد، وكأنّ العالم قد تعوّد هذا المشهد، ولن يكون بوسعه سوى استنساخ نصوص قديمة تستنكر سحق رؤوس المدنيين وتدعو لتغليب الحوار على العنف، في تكرارٍ لما حصل إبّان احتلال حلب وريف دمشق وريف حمص وقائمة طويلة من المدن والبلدات السورية، وتهجير أهلها.

ومردّ ذلك تقاطع أمرين متراكبين؛ أولهما أنّ الملف السوري الثقيل والمتشابك بات مُجهداً إلى حدّ اعتباره ثانوياً وهامشيّاً بهدف التّحلل من فواتيره القاسية، لا سيّما فيما يخصّ مسألة اللاجئين؛ وثانيهما شيوع الحديث دولياً عن ضرورة القضاء على هيئة تحرير الشام بوصفها منظمة إرهابية، بحيث لا يمكن لرافضي وجودها معارضةُ القضاء عليها، مع خطاب يعتبر أن وقوع ضحايا مدنيين ثمنٌ لا يمكن تجنبه؛ وإذا كان قلّما يصدر خطاب كهذا صراحة على ألسنة مسؤولين غربيين، إلا أنه يحضر في المشهد الخلفي لكل التصريحات والبيانات الباهتة بخصوص ما يجري في الشمال السوري.

أما فيما يتعلق بالتغطية الإعلامية السورية، فرغم أن الحملة العسكرية تأتي خبراً أولاً على معظم المنابر والمواقع المعارضة للنظام، إلا أن التغطية تبدو باهتة أيضاً رغم ذلك. ولعل هذا يرجع إلى غياب الأفق وفقدان الأمل، ويرجع أيضاً إلى غياب عنصر رئيسي كانت إدلب نفسها ميدانه في الحملات العسكرية السابقة، وهو التظاهرات الشعبية الرافضة لتلك الحملات، والمتضامنة مع أهالي المناطق المستهدفة، وهو العنصر الذي كان يرفد وسائل الإعلام السورية بمادة رئيسية تتفاعل مع الحدث.

وبالنسبة لتركيا، فإنّ الهجوم على إدلب يعني أنّ رابع وآخر مناطق خفض التصعيد التي تشكّل ضامناً فيها لقوى المعارضة قد باتت مُهدّدة، ولا شك أن تركيا ليست متفاجئةً بأن مجمل مسار أستانا كان وسيلة بيد النظام وحلفائه لإلحاق الهزيمة بفصائل المعارضة وتهجير سكان مناطق كثيرة، فهي قد استفادت منه في الحصول على مكاسب مقابلة في منطقة عفرين وريف حلب الشمالي والشرقي، ولا يبدو أن لديها مكاسب مهمة أخرى يمكن أن تحصل عليها جراء هذا المسار، ما دام ملف شرق الفرات رهيناً بما تريده الولايات المتحدة.

على صعيد المعارضة السورية السياسية والعسكرية، فإن عجزها يبدو واضحاً إزاء تغيّرات الواقع السياسي والعسكري في البلاد، وهي باتت تدفع اليوم ضريبة تفككها وارتهان قرارها لمتطلبات «الأمن القومي التركي» على حساب دماء السوريين ومستقبل البلاد. ويبدو مشهداً مثيراً للأسى أن يُقرّر الائتلاف فتح مقرٍّ له لأول مرة في الداخل السوري، في منطقة خاضعة للسيطرة التركية، قبل أيام قليلة فقط من الهجوم على إدلب وريف حماة، حيث الحيز الوحيد للعمل دون الوصاية التركية المُطلقة؛ فهل سيكون دور الائتلاف المُنتظر في الداخل السوري مقتصراً على العمل كمجلس محلي تحت الوصاية التركية، يدير الشؤون الخدمية لمناطق درع الفرات وغصن الزيتون؟

ترسم العناصر السابقة معالم لوحة نبدو فيها عاجزين تماماً عن الفعل، حتى أنه لا يمكن تصوّر مخارج من هذا الوضع المستعصي، الذي يبدو فيها انتصار الأسدية الناجز بعيداً بقدر ما تبدو نهايتها بعيدة أيضاً. فالنظام الذي لا يجد وسيلة لاستعادة حكمه المستقرّ، لا يزال يحوز قدرة فائقة على البطش والقمع مدعوماً بحلفائه، ويواصل استخدام هذه القدرة على نحو يبدو عبثياً ولا فكاك منه في الوقت نفسه.

لا يترك تقاطعُ العوامل السابقة فرصة للهرب من الشعور الطاغي بالإحباط والخيبة؛ خيبة أهالي كفرنبودة التي سواها قصف الطائرات والمدافع بالأرض؛ خيبة الهاربين من بلداتهم وقراهم عندما لا يجدون سيارة تنقلهم إلى الشريط الحدودي، منتظرين البرميل الذي سترميه عليهم طائرة مروحية؛ خيبة المهجرين والمنفيين جميعاً عندما تخبرهم طائرات النظام وصواريخه المدعومة روسياً بأنهم لن يعودوا إلى بيوتهم في أي وقت قريب؛ والإحباط الذي يتركه تكرار سيناريوهات القتل والتهجير والتدمير التي تبدو كما لو أنها قدرٌ لا مهرب منه.

يتجاوز هذا الإحباط خرائط السيطرة الملونة بالأحمر والأخضر والأصفر بكثير، يتجاوزها إلى العدمية التي تأكل من أنفسنا على كل حال، سواء عاندناها باختراع الأمل من أي بصيص ضوء في الأفق، أم انجررنا معها إلى لعن كل شيء وتسخيف كل شيء. إدلب هي اليوم كل سوريا في الحقيقة، سوريا التي بتنا نشعر أننا لا نملك لها شيئاً، فيما يستمر دفع الأثمان المضاعفة للصراع بين دول ترى أنّ اكتمال سيطرتها الهزلية على العالم أو أجزاء منه، يمرّ على جثثنا.