حصل ذلك عام 2016، كنّا طابوراً طويلاً من النساء نقف على حاجز، ننتظر الإذن للدخول إلى أحد أحياء حمص، بعد أن تتعرض كلٌّ منا لتفتيش دقيق لحقيبتها والأكياس التي تحملها. في لحظة ما سمعنا جلبة، ورأينا جنود الحاجز يسحلون شاباً ضخماً من أمامنا إلى غرفة صغيرة إسمنتية على طرف الطريق. عرفنا لاحقاً أن الجنود أخذوه غدراً، وأن هناك من وشى به، وأن أحد العناصر تسلَّلَ واختطفه من بين حشد على فرن قريب من الحاجز، أثناء محاولته الحصول على ربطة من الخبز الذي كان شحيحاً جداً في الحي.
تجمَّعَ معظم عناصر الحاجز في الغرفة الإسمنتية، يقودهم رئيس الحاجز الملقب بـ «أبو حيدر الروسي» تيمناً بعينيه الزرقاوين ووسامته. كانت أصوات صراخ الشاب الذي يتعرض للتعذيب تخرج كُرهاً من جدران الغرفة الإسمنتية وتقطّع نياط القلب؛ هممتُ بسؤال أحد العناصر الذين يفتشوننا «لماذا تفعلون به…؟»، لكن إحدى النسوة قرصتني وقالت لي «اخرسي، إن لحظوا تعاطفكِ معه ألحقوكِ به».
آخر ما أذكره أنهم أخرجوا الشاب الصارخ ألماً متابعين ضربه ورفسه وهم يقفزون فوق كليتيه، ومسيلٌ من الدماء يخرج من فمه، ليُكتَمَ صوته أخيراً ويُرمى جسده في «طبون» السيارة العسكرية، التي ستأخذه بعيداً وتطير به إلى مثواه الأخير، حيث سيصل خبر وفاته تحت التعذيب إلى أسرته داخل الحي خلال شهرين.
يجفّ ريقي لمجرد تذكر مسيل الدم الغامق الخارج من فم الشهيد.
بعد ثلاث سنوات من ذلك اليوم، يحصل التالي؛ في أواخر عام 2018، كنتُ في فندق فخم في بيروت، أستكشفُ صفيحة معدنية سوداء تلمع؛ كنتُ أراها أول مرة، كانت تُصدر حرارة عند الضغط على دائرة صغيرة أسفلها من دون أي لهيب ناري مرئي؛ كنتُ أريد إشعال سيكارة، لكنني أمضيتُ نصف ساعة من المحاولات الفاشلة لاكتشاف مصدر الحرارة الحارقة الخارجة من تلك الصفيحة السوداء الجامدة، الذي اعتقدتُ أنه نوع جديد لا أعرفه من غاز الطبخ المنزلي. حرقتُ يدي ووجهي، لكنني عجزتُ عن إشعال سيكارة، ثم أحسست بارتفاع درجة حرارة الغرفة بالتدريج، وبأن حريقاً على وشك الحصول. جاء عامل الصيانة أخيراً، وكان سوري الجنسية. قلتُ له على استحياء، أريد قداحة لو سمحت؛ رمى لي قداحته بعد أن أوقف انبعاث الحرارة الشديدة من الصفيحة المعدنية طالباً مني عدم استخدامها مجدداً، ثم خرج من الغرفة.
بعد خروج العامل سألتُ نفسي عن سبب وجودي هنا في بيروت، وعن معناه، وعن سبب تذكري لحادثة ذلك الشاب، وإحساسي الممض بأني كنتُ ممن كانوا يقفزون فوق كليتيه، ويساهمون في خروج مسيل الدم من فمه. لكن الجواب لم يكن سهلاً، وأخذ مني بعض الوقت لأبدأ في الفهم، الذي يبدو أنه لن يكتمل في ظل التشابكات التي أصبحنا كُرتها الصوفية الدموية، التي تتلاعب أياد غريبة بها وتنسجها بأشكال غير قابلة للفهم، بالنسبة لي على الأقل.
في أول أيام ورشة العمل، في القاعة المضاءة الكبيرة، جلس مجموعة من الشبان والفتيات الذين ينتمون لسائر المناطق السورية باستثناء المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل معارضة شمال غرب سوريا، قدموا من الرقة والحسكة واللاذقية وحلب والسويداء ودمشق وجبلة ودرعا وغيرها. كنا مُزقاً بشريةً من خريطة سوريا تجلس على كراسٍ فاخرة، في فندق فاخر، ويحاضر بنا أشخاص، معظمهم لبنانيون، عن عناوين كانت غير مفهومة تماماً بالنسبة لي. تذكرتُ «الصحيفة السوداء المعدنية الملتهبة في غرفتي، التي لم أرَ نارها»، فيما كانت كلمات معينة تتكرر أمام مسامعي حتى علق كثيرٌ منها في ذهني: «تماسك مجتمعي، سلم أهلي، مواطنة، حوكمة، بناء قدرات، الإطار المنطقي، شجرة التغيير…»، ومفاهيم أخرى كثيرة جعلتني أشعر أنني جاهلة في البداية، ثم أنني في هاوية من السذاجة والحمق في النهاية.
من أنتم؟ كان السؤال يصرخ في رأسي وأنا أنظر إلى شبان وفتيات أكاديميين ومتعلمين قادمين من محافظات متنوعة ومن خلفيات دينية مختلفة. بعضهم موظفون حكوميون، وبعضهم الآخر يعملون في منظمات محلية معروفة تنشط تحت إشراف «الحكومة السورية» المباشر بطبيعة الحال، لكنهم جميعاً يحملون في أفواههم ألسنة تلهج بتلك المصطلحات التي لم تألفها أذني في البداية، ينسجونها في أحاديث عن مشاريع ومبادرات قاموا بها في سوريا سعياً لتحقيق المبدأ الفلاني أو الهدف العلتاني.
لماذا نحن هنا؟ كنتُ أتحرّجُ من السؤال عن حقيقة ما نفعله، وعن المسؤول الفعلي عن جمعنا، وعن سبب مجيئنا هنا، خشية أن يسألني أحد عن اسمي أو مدينتي أو أي معلومة عني، لأن الشخص الذي دعاني لحضور الورشة، وهو أكاديمي غامض له علاقاته الوطيدة في مجالات عملية وعلمية شتى، همسَ في أذني مراراً بأن الأمر سريّ، وأنني يجب ألّا أبوح بشيء لأحد، طالباً مني أن أعتبر الأمر «تغيير جو»، مع تعليمات دقيقة عمّا يجب أن أقوله، حتى أنه طلب مني كتابتها كي لا أنسى وأخطئ الإجابة، إلى درجة أنني شعرت لوهلة أنها مهمة غاية في الخطورة والسرية.
وقد عزّز شعوري هذا صعوبةُ الطريق من سوريا إلى لبنان، وأسئلة ضباط الأمن العام على الجانب اللبناني من الحدود. هناك فقط استطعتُ أن أتلقّطَ بعض الأمور؛ لماذا أنتم هنا؟ نحن هنا لحضور ورشة؛ من دعاكم؟، منظمة (…)؛ ما عنوان الورشة؟ مراقبة وتقييم المشاريع؛ أي مشاريع؟ صمتُّ أنا، وتحدث آخرون للضابط اللبناني، الذي كان ينظر إلينا بزاوية عينه، عن مشاريع مجتمعية يقومون بها تكرّسُ أموراً تفيد عودة الحياة الطبيعية في سوريا بعد انتهاء الأزمة؛ انتهاء الأزمة! مكررين هذا المصطلح عدة مرات في حديثهم.
في القاعة المضاءة أيضاً عرفتُ مجدداً أن «الأزمة السورية» انتهت، بعد ترداد ذلك مراراً من المدربين المتحمسين، والمتدربين الأكثر حماساً. وعرفتُ، كما قالوا، أننا الآن كشبان وشابات مسؤولون عن المساهمة في التغيير المنشود الذي يبدأ دوماً من القاعدة، وأنه يجب أن نتعلم كيف نقوم بمشاريع ومبادرات تعزز الوصول إلى السلام بين الناس الذين أنهكتهم الأزمة، التي انتهت طبعاً، «اكتبوا عن الخطوات التي ستتبعونها لتصلوا إلى ذلك، ونحن علينا أن نمدكم بالأدوات العملية، وغيرها»، كانوا يقصدون بكلمة «غيرها» التمويل اللازم.
يجفّ ريقي مجدداً.
أغلق باب غرفة الفندق الفاخرة على نفسي، وأهرب من مزق خريطة سورية البشرية التي تمشي على الأقدام. كانوا يتحدثون عن عدم قدرة زميلهم على المشاركة في الورشة لأنه اكتشف على الجانب السوري من الحدود أنه مطلوب للخدمة الاحتياطية في الجيش، وعن أنه عاد سالماً إلى بيته بطريقة لا يعرفونها. كنتُ أهربُ من لهجات غريبة على أذني، وأفكر في تلك الفتاة الإيزيدية التي كان أحد الشبّان الفضوليين يسألها عمّن يكون إلهها وماذا تعبد؟ وما هو كتابهم المقدس؟ تتوالى الأحاديث التي تشبه هذا النوع بين الحاضرين، وكأن حدود الحرج والخوف زالت بما أننا خارج الوطن المنتصر على الحرب الكونية التي شُنّت ضده، رغم أننا لو كنا داخله الآن لما استطعنا حتى التواجد بهذه الطمأنينة قرب بعضنا بعضاً.
نحن الآن شباب وشابات ما بعد «الأزمة»، الذين أصبحنا نملك الجرأة لنسأل بعضنا بعضاً هذه الأسئلة؛ يفوتني جواب الفتاة الإيزيدية وأنا أنظر إلى شاب يلقبونه بـ «الحاج»، أراقب المفارقة بين لقبه هذا وبنطال الجينز الضيق الذي يرتديه وذقنه الحليقة. كان يتحدث عن مشاريع كثيرة في مدينة حماة، يقوم بها بنفسه، متجشماً عناء مساعدة النازحين والعائدين إلى «حضن الوطن». وقد تحدث شبان وشابات كثيرون عن مشاريع ومبادرات مشابهة، يقومون بها في مدنهم وقراهم تحت المظلة الخفية «لمنظمات المجتمع المدني»، وعن الطرق التي يتبعونها للوصول للتغطية «الحكومية» المناسبة لتمريرها. يتحدث بعضهم عن أنه يعمل تحت غطاء منظمة محلية، وآخر عن أنه يعمل ضمن مركز تدريبي حصل على ترخيصه بعد شهور من الانتظار وعشرة واسطات.
كل ما يقومون به هو مشاريع ومبادرات موجودة أصلاً بشكل علني لا تمانعه «الحكومة»، والفرق هنا فقط أن الممول هو منظمات أجنبية موجودة في الخارج. يقول أحدهم مازحاً إن معيار «الحكومة» في عمل المنظمات المدنية في الداخل السوري هو أن تفعل هذه المنظمات ما تريد دون أن تدع «الحكومة» تنتبه لها؛ لا تدعنا نراك، افعل بصمت واحصل على التمويل من دون ضوضاء، وغطِّ نفسك «حكومياً» بشكل ذكي.
تدريجياً، بدا واضحاً بالنسبة لي أن السرية المفترضة ليست إلّا أمراً شكلياً، وتساءلت عن سبب السماح لنا ولغيرنا بالذهاب إلى بيروت لحضور ورشات واجتماعات، بعضها بعناوين ضخمة لا نجرؤ على ذكرها في الداخل، مثل السلم الأهلي وغيره، إذ سيكون المرء تحت طائلة الملاحقة والمسائلة الأمنية إن تفوه بها، كما حصل مع إحدى العاملات في هذا المجال، التي أطلقت على إحدى التدريبات التي قامت بها داخل سوريا بتمويل من منظمة موجودة في الخارج اسم «السلم الأهلي».
طيب، ما المشكلة في السلم الأهلي؟ ولماذا يخشى النظام من شيوع مصطلح كهذا؟! يقول لنا أحد الشبان السوريين اللاجئين بنبرة هازئة «أهلا أهلا بجماعة منظمات العمل المدني في لبنان»، وفهمتُ لاحقاً أن سبب الاستهزاء يعود إلى أن الموضوع أصبح بيزنس من وجهة نظر كثيرين، وإلى أن كثيراً من العاملين في هذا المجال انسحبوا من ساحة «القضية» بعد أن عاد عليهم عملهم فيها بمبالغ معقولة تُعينهم في مواصلة حياتهم.
أفكر لوهلة أنني محسوبة على هؤلاء، وأنني من جماعة «منظمات العمل المدني» التي قصدَها ذلك الشاب اللاجئ، وتعود بي الذاكرة فوراً إلى ما قالته موظفة دمشقية ذات منصب رفيع في إحدى الوزارات عن منع استخدام مفردة «مجتمع مدني وكل ما شابهها» تحت طائلة المسؤولية؛ وتعود بي الذاكرة أيضاً إلى الإجراءات المشددة والموافقات الأمنية التي لا تنتهي عند القيام بأي نشاط أو مبادرة صغيرة، والتي يختلف التساهل فيها بحسب المنظمة المحلية والقائمين عليها وانتماءاتهم وتوجهاتهم.
أتذكر كل ذلك وأنا أكاد أختنق في غرفة الفندق الفاخر، التي خشيتُ أن أبارحها كي لا أضيع، حيث لا أعرف أحداً، ولا أعرف طريقاً في بيروت، ولا حتى في سوريا ربما، كما بتّ أشعر.
نعود إلى القاعة الفاخرة مجدداً، وها نحن أشلاء الخريطة السورية البشرية نجلس على كراس فاخرة، وفتاة من الساحل تهدد أحد الشبان مازحة بأنه إن أزعجها مجدداً فإنها ستجعل جماعتها في اللاذقية «يشحطونه» إلى غير رجعة. يتتالى بعدها المزاح والصراخ والضحكات التي لم أستطع التفاعل معها، كان كل شيء يبدو أشبه بخدعة سمجة.
تتصاعد فجأة أصوات صراخ في القاعة، أكاد لا أميز ما يقولون، ثم أفهم بعد لأيٍ أنهم يتحدثون حول بعض المنظمات وعلاقاتها ببعضها بعضاً، وعن الفروقات بينها وبين المسؤولين عنها. لكنني فهمتُ من سير الحديث أن المنظمة التي تحمل اسماً أجنبياً رقيقاً، والتي قامت بدعوتنا إلى هذه الورشة، فاعلة في الداخل السوري منذ عدة سنوات، لكنها ممنوعة من دخول سوريا والعمل فيها بشكل علني ورسمي، ومع ذلك فهي تقوم بتمويل مشاريع داخل المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام، مشاريع تحمل طابعاً «مدنياً».
كانت تتم مناقشة كل شيء في الورشة بعيداً عن جوهر الوقائع الفعلية، حتى يبدو الأمر للناظر وكأن كارثة طبيعية حلّت بالمدن السورية، وأن هناك أياد أمينة تسعى لمساعدة المتضررين منها في الخفاء. هذا هو التصور الأوّلي الذي قد يخطر في بال المرء للوهلة الأولى، لكن المفارقة أن أهالي الداخل السوري الخاضع لسيطرة النظام، والذين يجري الحديث باسمهم خلال كل تلك الورشات، لا يعرفون شيئاً عنها. وأنا كنت، ولعلي ما زلت، واحدة منهم.
تمتد الورشة لأيام، وتأخذ في اليوم الواحد ساعات طويلة، يتم القفز فيها على مواضيع متعددة، وعناوين كبيرة، يعلق في ذهني منها مصطلح «المواطنة» الذي يتم المرور عليه والقفز من فوقه ومن أسفله ومن أمامه ومن خلفه، والذي يتحدث الكثيرون به رغم أننا لا نجرؤ على نقاشه في سوريا، ولا نفقه حتى معناه العملي.
تختنق في صدري الأسئلة، خاصة وأنا في غرفتي الفاخرة، أقلّبُ على شاشة البلازما الواسعة بحثاً عن قنوات تنقل أخبار «أزمتنا التي انتهت!»، والتي ما زالت دماؤها تسيل سخية على الأرض، فلا أجد سوى قنوات لبنانية ذات موقف مؤيد للنظام وقنوات ترفيهية، وقناة العربية التي تبدو مشوشة وغير واضحة. تشتعلُ فكرة المؤامرة في رأسي، تشتعل الذكريات والظنون، أترك الغرفة وأنزل إلى قاعة الاستقبال في وقت الغداء، فأرى في عيون بعض من يقفون على بوفيه الفندق سعادة غير منتهية بالخدمة التي يتلقونها. يبدو واضحاً على بعضهم أنهم يخوضون هذه التجربة للمرة الأولى مثلي، تظهر على وجوههم أيضاً حماسة حقيقية حول ما كان يحدث في قاعة التدريب.
أستجمعُ قوتي أخيراً، وأحادث رجلاً أعرفه قليلاً ينحدر من ريف حلب، وهو مهندس يعمل في إحدى الشركات الحكومية، ويملك عمله الخاص أيضاً، الذي بناه من «شغل المجتمع المدني»؛ لم أملك سوى أن أبتسم عندما قال ذلك؛ يتكلم الرجل طويلاً عن الأزمات الاقتصادية الخانقة التي عاشها خلال السنوات السابقة، حيث تهجّر هو وعائلته أكثر من مرة، وكيف أن هذا «العمل» أنقذه وأسرته من ضائقات كثيرة. مرَّ في بالي أن أسأله عن طبيعة هكذا عمل وعن فائدته الحقيقية في الداخل، وعن المستفيد الأول منه، وعن تأثيره الفعلي على الناس، لا سيما أن المبالغ التي كنت أسمعها تنتهي بثلاثة أو أربعة أصفار وبالدولارات؛ لكنني اكتفيتُ بسؤاله إن كان راضياً حقاً عن عمله هذا، يستأذنني لحظة ثم يحضر صحناً مليئاً بالحلويات والفاكهة من بوفيه الفندق ويضحك لسؤالي، ويجيب بأننا على الأقل أفضل من غيرنا إن قمنا بذلك، فنحن واعون لما يجري، وإن لم نكن نحن هنا فسيكون غيرنا، وكمواساة شكسبيرية حزينة يقول مخاطباً نفسه قبل أن يخاطبني «ربما، ربما… نتمكن من تقديم شيء حقيقي من خلاله لوطننا وقضيتنا».
قضيتنا!!
أغادره وأمشي لأول مرة في شارع مقابل للفندق، الشارع واسعٌ والناس كُثُر، كل شيء يبدو مختلفاً، الوجوه والثياب والسيارات الكثيرة والجنود اللطفاء المهذبون الذين يرتدون بدلات مختلفة عمّا أراها في سوريا رغم وجود اللون الزيتي الكريه فيها. أتساءل إن كان ما أحسّه يسمى بالغربة؟ وأعجز حقاً عن تحديد ذلك، فالسيارات الكثيرة المفيّمة التي تكاد تطير من سرعتها تلهج بأغان صاخبة مشابهة لتلك التي أسمعها من سيارات مشابهة في مدينتي، ومن خلال النوافذ المفتوحة لبعضها ألمح الرؤوس الصلعاء واللحى نفسها التي أراها في مدينتي. شاهدتُ أيضاً بعض النسوة اللواتي ترتدين زيّنا نفسه، وتتكلمنَ لهجتنا نفسها، يمددنَ أيديهنَّ راجفة ذليلة للمارين في الطريق، فيما كثيرٌ من المارّة يحملون وشوماً أو يرتدون قلائد تحكي تحيزاتهم.
تقف سيارة إلى جانبي، يترجّلُ منها شخص ثلاثيني يقترب مني متردداً، يطلب بتهذيب أن يتحدّث معي كلمتين. أسأله من يكون، فيجيب بأنه فلان من البقاع؛ أخبره أنني من سوريا وأنني أتيت هنا عدة إيام للسياحة؛ يبتسم ويقول إنه أيضاً يعمل «فوق» منذ سنوات، وفوق هذه يقصد بها سوريا؛ ماذا تعمل فوق؟ أعمل مع الحزب؛ أسأله أي حزب؟ يجيبني عابساً: أي حزب يعني؟! أسأله ما عملك؟ يهزّ برأسه ويقول بأنه يعمل فوق مع الحزب، ماذا سيكون عمله في رأيي؟
فعلاً، ماذا سيكون عمله؟!
أفكّرُ في إجابته ملياً، وأنظر إلى وجهه الذي يشبه وجوهاً تمرّ بي كل يوم في مدينتي، أعتذرُ منه وأمضي، وهو بدوره يدعني في سلام وتهذيب ويمضي، ثم يركب سيارته، التي لم أستطع سوى النظر إلى ما يمكن أن تحتويه تحت غطائها الخلفي، أتخيّلُ فيها جثة رجل يخرج من فمه مسيل دم، وأتخيّلُ أن مسيل الدم قد ترك أثراً على يدي أيضاً.
في آخر أيام الورشة حصل كلٌّ منا على ظرف يحتوي مبلغاً من المال، أركبُ سيارة للعودة إلى مدينتي بعد عدة أيام أمضيتها دون نوم في مدينة بيروت الملونة، أنظر إلى الظرف في حقيبتي، وإلى ابتسامات العاملين في الفندق، التي ترافق المشاركين العائدين مودعة لهم. يتلاشى الشعور المجهول بالغربة، ويحلّ مكانه شعور بأنني كنتُ في فندق جميل تابع للسجن الكبير الذي سأعود إليه أنا وبقية «السجناء» العاملين في «منظمات»، منظمات تشعر بالقلق على الناس المتضررين مما حدث، وتسعى لإعادة تأهيلهم في الوطن الذي انتهى من «أزمته»!.