تستمر الاحتجاجات الشعبية في أرياف دير الزور الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية للأسبوع الثاني على التوالي، وقد باتت أكثر تنظيماً واتساعاً، وباتت مطالبها أعلى سقفاً وأكثر وضوحاً، بعد أن كانت قد بدأت كاحتجاجات مطلبية، تتعلق بتوفير المحروقات والكهرباء والمواد الغذائية، وتحسين الأمن وتطوير البنى التحتية في المنطقة.

وتتطور هذه الحركة تدريجياً إلى ما يشبه انتفاضة شعبية، إذ تحولت من أعمال احتجاج وقطع طرقات إلى مظاهرات منظمة، يطالب فيها الأهالي بإدارة مناطقهم وحكمها بأنفسهم، ويطالبون التحالف الدولي بالتدخل لدى حلفائه المسيطرين على المنطقة لتحقيق هذا المطلب. ورغم أن السمة الغالبة على هذه الاحتجاجات لا تزال متعلقة بجوانب اقتصادية، إلا أنها تطور خطاباً سياساً بشكل تدريجي، أبرز معالمه رفض سيطرة قياديين أكراد على مفاصل الإدارة في المنطقة، وهو ما عبّر عنه المحتجون برفض ما أسموه «الاحتلال الكردي» في شعاراتهم؛ وكذلك رفض نظام الأسد، الذي تم التعبير عنه في لافتات وشعارات عديدة رفعوها، وأيضاً في أحد مطالبهم الرئيسية، المتمثلة في وقف عبور شاحنات تحمل النفط إلى مناطق النظام، قادمة من حقول النفط السورية الكبرى التي تسيطر عليها قسد.

وقد أدى اجتماع عوامل عدة إلى خروج هذه التظاهرات، أبرزها الوضع الاقتصادي المتردي نتجية غلاء الأسعار الشديد، بما فيها أسعار المشتقات النفطية، في منطقة تضم بعضاً من أكبر حقول النفط في سوريا، كان الأهالي يحصلون على نصيب من نفطها خلال السنوات الماضية، قبل أن تسيطر قسد على ما يتم استخراجه منها بالكامل.

يضاف إلى ذلك فشل المجالس المحلية التي شكلتها قسد في إعادة تأهيل البنية التحتية في المنطقة، وفي توفير الخدمات الأساسية للسكان مثل الكهرباء وماء الشرب، وفي إصلاح شبكات الري الزراعية وطرقات المواصلات، وهي الأمور التي تم تنفيذ بعضها بجهود تطوعية من السكان، وبإمكانيات متواضعة.

وقد ساهم الفلتان الأمني في المنطقة في مفاقمة الغضب الشعبي، إذ تتالى التفجيرات والاغتيالات وعمليات الخطف والابتزاز، فضلاً عن نشاط خلايا تابعة لتنظيم داعش، وعدم قدرة الجهاز الأمني التابع لقسد على التعامل معها، بالتزامن مع اعتقالات عشوائية ومداهمات يقوم بها هذا الجهاز في مناطق متعددة، شهد بعضها تصفية فورية لبعض المطلوبين، على غرار ما حصل في قرية الضمّان بريف دير الزور الشمالي الأسبوع الماضي، عندما نفذت مجموعة من عناصر قسد إنزالاً مدعوماً بطائرات التحالف الدولي على منزل يعود لعائلة المظهور، أسفر عن مقتل ستة من أفراد العائلة، وهو ما كان شرارة إشعال الاحتجاجات في تلك المنطقة.

وتحيط بهذا الحراك ظروف سياسية إقليمية ومحلية معقدة، تتمثّل في عدم وضوح مصير المنطقة ومستقبل إدارتها في أعقاب انتهاء معركة الباغوز ضد داعش. وتحاول أطراف عديدة استغلال هذه الاحتجاجات سياسياً وإعلامياً، أبرزها الجانب التركي الذي يبدو راضياً عنها، وهو الرضا الذي تم التعبير عنه من خلال الإعلان عن استضافة العاصمة التركية لاجتماع يضم قادة فصائل عسكرية ينحدرون من منطقة الاحتجاجات نفسها في 26 نيسان الماضي، وذلك في سياق الإعداد لمعركة محتملة في شرق الفرات.

كذلك، يبدو أن النظام وحلفاءه راضون عن هذه الحركة الاحتجاجية، رغم الشعارات المناهضة للنظام التي تسودها، ذلك أنهم يرون فيها تأكيداً لمقولتهم بوجوب فرض النظام سيطرته على كامل الأراضي السورية لضمان الأمن والاستقرار. وقد حاولت بعض الأصوات الموالية للنظام الاستثمار فعلاً في هذا الحراك، والترويج لعودة النظام إلى المنطقة، عبر كتابات على الجدران في بعض القرى تبشر بعود جيش النظام إليها، قام المحتجون بمسحها لاحقاً. كما أن النظام حاول استغلال الأجواء المرافقة للاحتجاجات بشكل مباشر، عبر إقامة ملتقى لشيوخ ووجهاء العشائر في منطقة جرمز الخاضعة لسيطرته بريف الحسكة، وذلك يوم الجمعة الماضي الثالث من أيار.

من جهتها، تحاول قوات سوريا الديمقراطية مواجهة الحراك عبر تنفيذ حملات اعتقالات متتالية طالت عشرات المشاركين فيه من قرى وبلدات عدة، كما أنها حاولت تفريق عدد من المظاهرات عبر إطلاق النار في الهواء غالباً، وبشكل مباشر أحياناً أدى إلى سقوط جرحى في بعض القرى. وإلى جانب المواجهة الأمنية الحذرة، دعت قسد من جانبها أيضاً إلى مؤتمر لشيوخ ووجهاء العشائر، عقد في منطقة عين عيسى بريف الرقة الشمالي في اليوم نفسه الذي انعقد فيه المؤتمر الذي دعا إليه النظام، وذلك في محاولة منها لكسب ولاء الزعماء العشائريين، من خلال طرح استراتيجيات جديدة جاءت على لسان قائدها العسكري مظلوم كوباني، الذي قال في الاجتماع إن قسد ليست مشروعاً إنفصالياً، مؤكداً على وحدة سوريا أرضاً وشعباً، وعلى أن الحل ينبغي أن يستند إلى حوار سوري سوري. وقد أصدرت وزارة خارجة النظام السوري بياناً بخصوص اللقاء العشائري في عين عيسى، اتهمت جمع من حضروه بـ«التبعية والخيانة».

هكذا، يبدو واضحاً أن سائر الأطراف تتسابق لكسب ولاء سكان مناطق دير الزور، من خلال البوابة العشائرية على وجه الخصوص، وعبر احتواء الحراك أو استغلاله أو تجييره لصالحها، في وقت لا يزال فيه موقف التحالف الدولي متردداً وغير واضح بخصوص مستقبل المنطقة، الأمر الذي يعود على الأرجح إلى عدم الوصول إلى اتفاق نهائي مع الجانب التركي حول مستقبل مناطق سيطرة قسد شرق الفرات، وحول المنطقة الآمنة التي يتم الحديث عنها منذ أشهر.

وفي هذا السياق، يبدو أن الولايات المتحدة باتت تبحث عن حضور سياسي أكبر لقوات سوريا الديمقراطية، من خلال الحديث عن ضرورة إشراكها في الهيئة العليا للمفاوضات، إذ أشارت تسريبات إلى أن جولة جديدة لمؤتمر الرياض ستعقد خلال الفترة القادمة تحت مسمى الرياض 3، سيتم فيها توسيع هيئة التفاوض وضم ممثلين عن قسد إليها، وهو ما أشار إليه مظلوم كوباني أيضاً في حديثه عن استراتيجية قسد خلال ملتقى العشائر في عين عيسى.

يتراوح رد فعل قسد على الحركة الاحتجاجية بين محاولات الاحتواء من جهة، والقمع من جهة أخرى، فيما تواصل هذه الحركة سيرها في حقل ألغام بالغ التعقيد، سيكون مصيرها فيه رهيناً بقدرتها على إفراز قيادة مستقلة بما يمنع تجييرها لصالح أحد الأطراف الساعية للسيطرة على المنطقة، ورهيناً قبل ذلك برد فعل قسد ومدى استجابتها للمطالب الشعبية التي تتصاعد تدريجياً، والتي قد يقود تحولها إلى مواجهة أكثر عنفاً إلى دروب شديدة الخطورة.