تواصل قوات النظام السوري مدعومة بالطيران الحربي الروسي تصعيدها العسكري بالغ العنف على ريفي حماة الشمالي والغربي وريفي إدلب الجنوبي والغربي، حيث شملت أعمال القصف المدفعي والغارات الجوية، المستمرة لليوم الثامن على التوالي، أكثر من تسعين نقطة في هذه المناطق. وتتحدث جميع الشهادات الواردة من مناطق التصعيد عن كثافة غير مسبوقة في أعمال القصف، حتى أن سكاناً تحدثوا عن قيام سبع مروحيات تابعة للنظام بالتناوب على قصف بلدة واحدة في أكثر من حالة.
وتستخدم قوات النظام وسلاح الجو الروسي مختلف صنوف الذخائر في قصفها، بما يشمل البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية، وهو ما أدى إلى تهجير آلاف السكان من قرى وبلدات المناطق المستهدفة نحو المزارع والبساتين المحيطة بالقرى أو شمالاً نحو مناطق أكثر أمناً. وقد قالت مصادر محلية للجمهورية إن عدداً من البلدات الواقعة على خطوط التماس، من بينها قلعة المضيق بريف حماة الغربي، فرغت تقريباً من سكانها.
وقال فريق منسقو الاستجابة في بيان له صباح اليوم إن أعداد النازحين، نتيجة الهجمات التي شنتها قوات النظام خلال الأيام الماضية، قد بلغت أكثر من 100 ألف نازح حتى الآن، يضافون إلى أكثر من 200 ألف نازح لم يعودوا إلى بلداتهم حتى اللحظة منذ حملة القصف السابقة في شهر شباط/فبراير الماضي، فيما وصلت أعداد الشهداء في أرياف إدلب وحماة وحلب منذ شباط الماضي 364 مدنياً، منهم أكثر من 50 مدنياً استشهدوا في حملة التصعيد الراهنة. وتتركز معظم عمليات القصف الحالية على بلدات لم تشهد نزوحاً في الحملة الماضية، ويُظهرُ رصد مواقع القصف أن النسبة العظمى منه استهدفت مناطق إلى الغرب من طريق حلب دمشق الدولي «M5»، وإلى الجنوب من طريق حلب اللاذقية الذي يمر وسط مناطق سيطرة فصائل المعارضة بمحافظة إدلب.
وبالإضافة إلى الأبنية في القرى والبلدات، استهدف القصف أيضاً سبع منشآت طبية، ونقطتين للدفاع المدني، وخمس مدارس، ومخيمين للنازحين في المنطقة. فيما قال منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السورية بانوس مومسيس لوكالة رويترز: «لدينا معلومات بأن منشآت تعليمية ومنشآت صحية ومناطق سكنية تتعرض للقصف من طائرات هليكوبتر ومقاتلات… القصف بالبراميل هو أسوأ ما شهدناه منذ 15 شهرا على الأقل».
وقد ترافق تصعيد القصف مع محاولة تقدم بري لقوات النظام على جبهة قلعة المضيق يوم السبت الفائت، وقال ناجي مصطفى الناطق باسم الجبهة الوطنية للتحرير لوكالة رويترز إن مقاتلي الجبهة تصدوا لمحاولة التقدم تلك، فيما ذكرت مصادر محلية أن الجبهة استطاعت أيضاً صد محاولة اقتحام من محور قرية المغير باتجاه قرية كفرنبودة بريف حماة الشمالي. كذلك ردت فصائل معارضة عدة على هجمات النظام بقذائف مدفعية وصاروخية على مواقعه القريبة، فيما أعلنت هيئة تحرير الشام (تحالف يضم جبهة النصرة) قصف قاعدة حميميم في اللاذقية بصواريخ الغراد يوم الخميس الفائت، رداً على القصف الذي يستهدف أرياف إدلب وحماة.
وجاء هذا التصعيد بالتزامن مع عملية عسكرية بريف حلب الشمالي، قامت بها قوات «الجيش الوطني» المدعومة من تركيا، وسيطرت خلالها على قرى مرعناز والمالكية وشوارغة بالقرب من مدينة تل رفعت التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية منذ عام 2016، وهو ما أوحى بارتباط بين المعركتين، إلا أن قوات «الجيش الوطني» عادت وانسحبت لاحقاً من تلك المواقع، ما يشير إلى أن العملية كانت لتأمين طريق إعزاز فقط، بعد أن تعرضت قوات تركية تمر عبره للاستهداف من قوات سوريا الديمقراطية أكثر من مرة خلال الأيام الماضية.
تتزاحم العديد من العوامل الإقليمية والدولية لتشكل مشهد الدمار الرهيب في إدلب وحماة، وفي القلب منها ما يبدو أنه وصول مسار أستانا إلى طريق مسدود، ذلك أن فشله المستمر بالوصول إلى اتفاق حول اللجنة الدستورية يعكس الاستعصاء الذي وصلت إليه العلاقة بين رعاة هذا المؤتمر في الشأن السوري. وعلى عكس ما قد يبدو من أن التصعيد العسكري جاء نتيجة لفشل أستانا، فإن الأرجح أن فشل أستانا والتصعيد العسكري معاً، هما نتيجة لتحولات أخرى في العلاقات بين الأطراف الفاعلة في الشأن السوري، وتحديداً تركيا وروسيا.
وفي هذا السياق تأتي تصريحات المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري غير الحذرة، على عكس المألوف من الرجل، فقد قال في لقاء مع قناة الحرة إن مسار أستانا قد فشل، وإن على الضامنين الذهاب إلى جنيف للتحدث مع الأمم المتحدة بدلاً من عقد اللقاءات في وسط آسيا. وتؤكد هذه التصريحات على أمرين؛ الأول هو أن واشنطن لم تعد تريد إعطاء مزيد من الفرص لأستانا، لا في ملف اللجنة الدستورية ولا في غيره؛ أما الأمر الثاني فهو أن التجاهل التركي لهذه التصريحات، وعدم الرد عليها، قد يكون أحد بوادر تخلي تركيا عن مسار أستانا، خاصةً إذا ما قارنا هذا الموقف بانتقادات سابقة وجهها جيفري لمسار أستانا، استدعت احتجاجاً تركياً دفعه للتراجع عنها، ليبدو التجاهل التركي الأخير موافقةً ضمنيةً على كلام جيفري القاسي تجاه أستانا.
وتشكّل هذه التطورات جزءاً من التقارب التركي-الأميركي، الذي بدا أنه قد قطع أشواط كبيرة، خاصةً وأن الطرفين يبعثان برسائل إيجابية حول الاتفاق على ملف شرق الفرات، الذي أصبحت ترتيباته شبه مكتملة، سواء من حيث الاتفاق على تولي قوات عربية بقيادة أحمد الجربا أمن المناطق الحدودية مع تركيا، أو من حيث الاتفاق على بقاء القوات الأمريكية في المنطقة، وحتى الحديث عن قبول واشنطن دخول قوات تركية إلى شرق الفرات، الأمر الذي سيعزز عودة العلاقات بين واشنطن وأنقرة.
وبناء على ما تقدم، فإن من المرجّح أن يكون هذا التصعيد ضغطاً روسياً على تركيا بهدف قطع الطريق على تقاربها مع واشنطن، ورغبةً منها في حماية مواقعها في ريف حماة وقاعدة حميميم، بعد أن كان التوافق مع أنقرة منذ اتفاق سوتشي في شهر أيلول/سبتمبر الفائت قد أمّن هذه الحماية دون أن تحتاج موسكو لعمل عسكري. أما اليوم، وأمام احتمالات التراجع في توافقاتها مع تركيا، يبدو أن موسكو تمهد الأوضاع الميدانية اللازمة للتقدم البري بما يؤمن حماية تلك المواقع بصرف النظر عن أي تحولات سياسية قادمة. ومما يرّجح هذا الاحتمال، قصف قوات النظام لنقطة مراقبة تركية بالمدفعية الثقيلة أول أمس السبت في بلدة شير مغار بريف حماة الشمالي الغربي، ما تسبب بسقوط جرحى من عناصر نقطة المراقبة الأتراك، وهو ما يمكن تفسيره بأنه ضغط على النقطة التركية بهدف إجبار أنقرة على سحبها تمهيداً لأي تقدم بري محتمل في المنطقة.
تخلق بوادر التقارب الأمريكي-التركي أوضاعاً حرجة جديدة في التوازنات التي حكمت الملف السوري خلال السنتين الماضيتين، وبما أن منطق التحولات الراهنة يقود إلى احتمال عودة أنقرة إلى تحالفاتها الاستراتيجية القديمة مع واشنطن، فإن التطورات المرتقبة واحتمال انهيار مسار أستانا نهائياً سيزعزع الاستقرار الذي سمح بإظهار نظام بشار الأسد طوال الفترة الماضية كمنتصر، بعد أن ساعدته موسكو على إعادة احتلال معظم أنحاء البلاد. وتعني خسارة هذا الاستقرار عودة الحديث الدولي مجدداً عن النظام ومستقبله، إلا أن الذي يدفع الفاتورة الحقيقية لهذه التحولات، سواء أسفرت عن نتائج سياسية أم لا، وسواء نتجت عنها عمليات عسكرية برية فعلاً أم لا، هم أهل إدلب وحماة، الذين يتعرضون اليوم لواحدة من أقسى حملات القصف الجوي والبري في تاريخ سوريا، تسببت خلال أيام قصيرة بدمار هائل لا يمكن حصره في قراهم في وبلداتهم.