يأتي هذا الحوار في سياق بروز حركات نسوية وضمور آخرى، وبالتوازي مع صعود الإسلام السياسي برزت حركة النسوية الإسلامية – رغم جذورها التي تعود إلى القرن الماضي – على حساب حركات نسوية يسارية وعلمانية، كيف تفسرين هذا؟
يعود تاريخ نشأة هذا التيار النسوي حسب بعض الدارسين (السويدي يوناس سفيسنون مثلاً) إلى القرن التاسع عشر، في حين يعتبر آخرون أنّه انطلق في الثمانينات وانتشر في التسعينات، وأنه جاء ردّ فعل على صعود الإسلام السياسي المهيمن على حيوات النساء على وجه الخصوص على ومواقعهن في المجتمع وفي التاريخ والمعرفة. وبقطع النظر عن الخلاف حول تاريخ انبثاق هذا التيار، فإنّ النسوية الإسلامية استطاعت أن تفرض نفسها منذ أكثر من عشريتين، وتمكّنت من تجاوز الحدود الجغرافية وتحولت إلى حركة عابرة للقوميات (transnational)، وطرحت إشكاليات متنوّعة تتصل بالاجتهاد وتطوير منزلة النساء. ويمكن القول إنّ تيار النسويّة الإسلامية نجح في تجاوز سردية الضحية إلى سردية المرأة الفاعلة، كما نجح في تحدي العولمة وفرض نفسه على الساحة الأكاديمية، بل إنّه صار موضوع عدد من البحوث خاصّة في مجالي الدراسات النسويّة وسوسيولوجيا الجندر. يضاف إلى ذلك تمكّن هذا التيار النسويّ من فرض براديغم «الإسلاميات» في مجال البحوث والدراسات النسوية.
أمّا التيارات النسويّة الأخرى، كالليبرالية والاشتراكية وغيرها من التيارات الموجودة في العالم العربي والإسلاميّ فلم تخضع لمراجعات ذات بال، ولم تعمل على تجديد معجمها ولا قضاياها، وهو أمر زاد من مرئية النسويّة الإسلامية التي قدّمت طرحاً مغايراً لتحليل أوضاع النساء ومقاربةً مختلفةً للنصوص الدينيّة، كلّ ذلك من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة.
كيف نفهم اليوم ونتلقى مصطلح النسوية الإسلامية، ألا ترين أنّ هذه التوليفة أو الترويض الخصوصي لمصطلح غربي في ثقافة عربية سيؤدي إلى الارتباك وضبابية هذا التيّار؟
نجد تبايناً في وجهات النظر حول هذه التسمية، فهي ليست محلّ اتّفاق حتى بين المنضويات تحت هذا التيار. ومن خلال الندوات والتصريحات الصحفية واللقاءات الشخصية التي جمعتني بأهمّ المنظّرات، مثل مارغو بادران وعزيزة الهبري وزيبا ميرحسيني وزينة أنور وأمينة ودود، تفطّنت إلى الحرج الذي تشعر به بعض المنتميات إلى النسوية الإسلامية كلّما وُجّه لهنّ هذا السؤال، أو كلما طُلب من إحدى الأكاديميات تحديد موقفها. بل إنّنا نجد من يرفضن التصريح بعدم قبولهن هذه التسمية بالفعل. وأعتقد أنّ مقالي «النسوية الإسلامية» يعكس هذه الإشكالية، سواءً على مستوى المصطلحات الموظّفة أو المناهج أو الرؤى المشتركة والتباين بين من يعشن في الغرب ومن ينتمين إلى البلدان الإسلامية. يُضاف إلى كلّ ذلك تجنّب أغلب المنتميات إلى النسوية الإسلاميّة الخوض الجدّي في مسائل مثل المساواة في الإرث وحقوق المثليين وغيرها من القضايا التي تتطلّب حلولاً.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الديناميكية الفكرية النسوية أفضت إلى الإقرار بأنّنا اليوم إزاء نسويّات إسلاميات بصيغة الجمع، إذ تعدّدت التسميات وتباينت الرؤى والتصوّرات بعد بروز أجيال من النسويّات الإسلاميّات في عدد من البلدان.
هل تعتبرين بروز التيّار النسوي الإسلامي احتجاجاً سوسيو-ثقافياً على الحركة النسوية الغربية، التي تشرّع للمركزية والتفوّق والاستعلاء الأوروبي، أم أنّها مشروع إسلاموي يهدف الى استيعاب جميع الحركات الاحتجاجية بما فيها تلك المناهضة لمشروعه؟
لا شكّ أنّ بروز تيار النسوية الإسلاميّة غيّر واقع الفكر النسويّ العالميّ، الذي هيمنت عليه طيلة قرون النسوية البيضاء. فقد تمسّكت المنظّرات بفكرة مركزيّة النسويّة البيضاء، وتعاملت مع بقية التيارات الوافدة من العالم الثالث، أو البلدان التي عاشت تجربة الاستعمار، على أنّها تابعة وتحتاج إلى من يساعدها على فهم واقعها. بل إنّها جعلتها عوّالة عليها وغير قادرة على فرض استقلاليتها، ومن هنا الحديث عن تحرير النسوية من النزعة الاستعمارية décoloniser le feminism.
ولعلّ تمدرس النساء وانخراطهنّ في حركات التحرّر، ووعي فئة من المسلمات بضرورة فكّ الارتهان والخروج من حالة التبعيّة، هو الذي دفع عدداً منهنّ إلى تقديم قراءات مختلفة وجهاز مفهوميّ خاصّ بهنّ، ومن هنا كان تعاملهنّ مع بقية التيارات على قاعدة النديّة.
ولا يمكن التغاضي عن عامل آخر ساعد على انبثاق هذا التيار، وهو احتكار المفسّرين والدعاة والأئمة للمعرفة الدينيّة، وتعمّدهم فرض رؤية أحادية ووثوقية تمنع الخروج عن حدود القراءة التقليدية للنصوص الدينيّة. وهو وضع جعل النساء مستهلِكات لكلّ ما يُنتَج حولهنّ من فتاوى وأحكام وتفاسير، وغير قادرات على التعبير عن وجهات نظرهنّ وتجاربهنّ. وعلى هذا الأساس اعتَبرت رائدات تيّار النسوية الإسلامية أنّ من حقّ النساء صياغة موقف ممّا يُنتَج حولهنّ من نصوص، ومن ثم المساهمة من مواقعهنّ في تقديم قراءات أكثر تعبيراً عن فهمهنّ لروح النصّ الدينيّ. فثمّة فرق واضح، في نظر النسويّات الإسلاميّات، بين إسلام الأحكام/الفقه، وهو عمل بشريّ جامد ومتكلّس، وإسلام النصّ الروحانيّ الحيّ والنابض.
هل دور النسوية الإسلامية اليوم إبراز وجه آخر للإسلام، يكرّم المرأة ولا يهينها، بقراءة معاصرة ومغايرة للإسلام الكلاسيكي الذي انبثق في عصر وبيئة لها خصوصيتها المغايرة؟
تحاول النسويّات الإسلاميّات تقديم قراءات تُزيل الحجب عن المهمّش، والمنسيّ، وتكشف النقاب عن الرهانات الذكورية، وعن الأسباب التي جعلت أغلب المفسّرين يدافعون عن المجتمع البطريكي والبنية الاجتماعية التراتبية التي تتعارض مع قيم العدل والإنصاف ومبدأ التكليف. وتدافع النسويّات الإسلاميّات عن مواقع النساء في بناء الحضارة وإنتاج المعرفة. وتعتقد هؤلاء أنّ القراءات المتحرّرة من المعايير الذكورية تعطي إمكانات أخرى للفهم قد تكون أكثر تعبيراً عن المقصد الشرعي. بهذا المعنى ترفض النسويّات الإسلاميّات الخروج من المنظومة الدينية للدفاع عن مطالبهنّ وحقوقهنّ، إذ بإمكانهنّ امتلاك صوت مختلف وتثوير القراءات وتصحيح المفاهيم وتعديل التصورات.
هل تعتبرين أنّ القراءة المعاصرة للنصّ الديني والاستئناس بالمعالجة النقدية النسوية والتحليل الجندري يساهم في تفكيك البنى الاجتماعية التقليدية البطريركية؟
المقاربة الجندرية ملائمة لتحليل الخلفيات الثاوية وراء استشراء التمييز المبنيّ على الجندر، وهي تساعد على تفكيك مختلف البنى والأنساق التي ساهمت في جعل التمييز قاعدة في بناء العلاقات الجندرية والعلاقات الاجتماعية. ومن خلال تحليل بنية العلاقات القائمة على التسلّط وأنماط السلوك، وتوزيع الأدوار، والمعايير السائدة، والتمثلات، وبنية المتخيّل والممارسات والثقافة المهيمنة… يمكن فهم الأسباب التي تجعل مقاومة المجتمع الذكوري للمطالب النسويّة شديدة. فالمسألة ذات صلة بالامتيازات الذكورية التي يتمتّع بها الرجال (القِوامة، السيادة، السلطة…). ولذلك ليس من السهل أن تفرض الباحثات عموماً رؤية جديدة لتوزيع الأدوار ونمط العلاقات. وأذهب إلى أنّ اعتماد المقاربة الجندرية يعكس ديناميكية العلاقات المبنيّة على السلطة، من جهة، وديناميكية بناء الهويات الجندرية، من جهة أخرى. وهنا مكمن الخطر في نظر أصحاب الثقافة التقليدية الذين ينافحون عن مواقعهم ولا يريدون التفريط فيها.
من هو جمهور الاجتهاديات النسويات؟ يبدو أن العالم الإسلامي منقسم بين غالبية محافظة لا تبدو معنية بفتح باب الاجتهاد، وقد تطعن أصلاً في حق المرأة في تفسير القرآن، وبين نخب علمانية تجد أن العقد الاجتماعي لا يجب أن يكون مستنداً إلى النص الديني أصلاً، بل إلى الدستور المدني وشرعة حقوق الإنسان والقيم الكونية المنبثقة عن الأنوار، فلمن إذاً تتوجه جهود الاجتهاد النسوي؟
جمهور النسويات الإسلامية متنوّع: من داخل المنظومة الإسلامية الذي يجد أن هذا التيار يمثّله ويعبّر عن قضاياه؛ ومن خارجها، أي الباحثات الغربيات المهتمّات بالنسويّة وتطورها في ثقافات مختلفة. ولذلك تعددت الأطروحات الجامعية التي تُعنى بدراسة خطابات رائدات هذا التيار وإثارة التحديات التي يواجهنها. ولا يمكن التغافل عن اهتمام الباحثات العربيات في السنوات الأخيرة بتحليل قراءات النسويّات الإسلاميّات للنصوص الدينية.
هل الهدف أن تتبنى السلطة هذا الخطاب فتقوم بتحديث الخطاب الديني من فوق؟ أم أننا بانتظار بروز كتلة اجتماعية معنية تحدّث الدين مع الحفاظ عليه كمرجعية؟
هدف الدارسات هو بالدرجة الأولى معرفيّ، ثمّ اجتماعيّ-ثقافيّ. فالنسويّات الإسلاميّات يحاولنّ المشاركة في المجال المعرفيّ الدينيّ، والتعريف بتفاسيرهنّ التي تخصّ القِوامة وتعدّد الزوجات، والضرب، والمساواة الجندرية، والعدالة الاجتماعيّة…؛ فضلاً عن بثّ الوعي في صفوف النساء والرجال على حدّ سواء، ما يتيح لهم إدراك الأسباب التي تحول دون الاعتراف بالحقوق الإنسانية للنساء والاطّلاع على زاد معرفيّ تتجاهله الثقافة المهيمنة. أمّا السلطة السياسية فهي لا تكترث في الغالب بإسهامات النساء في مجال إنتاج المعرفة طالما أنّها لا تخدم سياساتها.
تقول صوفي بسيس في مقابلتها مع نائلة منصور أن جهود الاجتهاديات جيدة في كثير من الأماكن، لكن من الخطأ أن ننتظر من النصوص الدينية أن تتبنى مفاهيم المساواة الكاملة، بمعنى أن محاولة إعادة الاجتهاد لا بد أن تصل إلى نقطة لا يمكن أن تتجاوزها دون أن يبدو وكأنها تحاول تقديم قراءة تلفيقية تتجاهل السياق التاريخي وتفتقر للتماسك الداخلي. ما رأيك؟
ليس بمقدور أحد أن يقلّل من قيمة الجهود التي تبذلها النسويّات الإسلاميّات في سبيل تغيير واقع النساء في عدد من البلدان التي تمارس التمييز بين الجنسين في صياغة التشريعات وتوزيع المناصب وغير ذلك من المجالات كإيران وماليزيا والسودان وبلدان أخرى. غير أنّ ما تطرحه النسويّات الإسلاميّات محدود ولا يلبّي طموحات الجميع، وهذا أمر متوقّع. ففي بلدان قطعت شوطاً محترماً في سبيل تطوير القوانين وتحديث بنية العلاقات، كتونس مثلاً، ما تقدّمه النسويّات الإسلاميّات لا يعبّر عن أفق فكريّ ينحو منحى فرض ثقافة الإنسان وثقافة المواطنة، وهو أمر مفهوم باعتبار تاريخانية النص الدينيّ وتطوّر دلالات الألفاظ. فالمساواة في سياق مجتمع الجزيرة العربية لا تعني ما نفهمه اليوم من المساواة في سياق مجتمعات القرن الواحد والعشرين وفي ضوء مكتسبات العلوم القانونية والسياسية وغيرها.
ولكن نفس هذا النقد، أي المحدودية، يقال عن النسويات الليبراليات والنسويات الراديكاليات وغيرهنّ، فهؤلاء لا يقدّمن إجابات ترضي المرأة المسلمة التي تولي الدين أهميّة في نظرتها لذاتها وللواقع. وبالإضافة إلى ذلك، قد تنظر العديد من النسويات الليبراليات إلى قضايا هذه الفئة من النساء باستخفاف، فيرفضن الاعتراف بدور المكوّن الدينيّ في المجتمع، ولا يعتبرن الدخول في تفاوض مع الإسلاميات مهمّاً. ولذلك أنا أميل إلى اعتبار أنّ كلّ جهد فكريّ تساهم به المرأة، من داخل المنظومة أو من خارجها، هو جهد محمود ويعكس التعدديّة الفكرية والتنوّع والثراء في المواقف النسائية، ويُحدث ديناميكية فكرية ما أحوجنا إليها، ويدفع باتجاه عدم التمركز حول الذات.
سنواصل الحديث حول النسوية الإسلامية، لكن، لماذا لمَ تخضع هذه التيارات (الليبرالية والاشتراكية) للمراجعة النقدية وتجديد أساليبها وآليات عملها، هل كانت هناك خيبة أمل تفسرّ هذا العزوف، أم جمود وركود فكري في صلب هذه الحركات؟
لم تقم هذه التيارات النسوية بالمراجعة النقدية ولم تقيّم، في الغالب، أداءها وتوجهاتها وتصوراتها، وهي سمة لا تخصّ الحركة النسوية فقط بل إنّ الحركة اليسارية في البلدان المغاربية لم تنخرط هي الأخرى في ممارسة النقد الذاتي، وربّما للأمر صلة بواقع الفكر النقدي عموماً وتقاليده التي لم تتكرّس من خلال الفضاءات التعليمية والثقافية بالقدر المطلوب. وأعتقد أنّ النسويّة التونسية تمركزت على ذاتها وهذا أوقعها في شراك الاستعلاء وعدم الاقتناع بضرورة المراجعات، إذ كان الأهم في نظر المشرفات عليها هو المرئية وإبراز الإنجازات وتاريخ النضال، لا التعريف بالمزالق والانحيازات والتحيّز والأخطاء والتوظيف …ولئن كان النضال مهمّاً من أجل تغيير الواقع فإنّ كتابة تاريخ الحركة من منظور نقدي، تساهم في تطويرها ودفعها إلى تغيير أشكال نضالها وترتيب أولوياتها وتجديد أساليب عملها.
ما الشيء الإضافي الذي يمكن أن يعلّمنا إياه مفهوم «الفاعلية» (agency) المُستخدم في العلوم الاجتماعية والسياسية الأنغلوساكسونية؟ ما الذي تضيفه صبا محمود، مثلاً، حين تُنظّر للفاعلية التي تمتلكها النساء المحجبات؟ ما الجديد في الموضوع؟
مفهوم الفاعليّة مهمّ لأنّه يغيّر الصور النمطية التي نحملها عن الأخريات، وعن الأديان الأخرى والثقافات المتعددة. فما كان سائداً في الثقافة الغربية وفي أوساط العلمانيات العربيات والنسويات على حدّ سواء هو اعتبار المحجّبات خانعات وتابعات للرجال، وضعيفات ومسلوبات الإرادة، إلخ. غير أنّ رصد أشكال الفاعليّة أبانَ صوراً متعدّدة لفاعليّة النساء في العالم الإسلاميّ. فالمحجّبة ليست بالضرورة امرأة غير راغبة في تغيير واقعها، بل هي امرأة تتصرّف بمصيرها، وتمارس الاختيار الحرّ، وترفع شعار «جسدي ملكي»… وهو أمر يدعو إلى الانكباب على دراسة أشكال فاعلية النساء في المجتمعات المعاصرة، وتمظهرها ودلالاتها، والوشائج بين المجتمع البطريركي والإسلام والفاعليّة. أمّا طرح صبا محمود فقد كان فيه شيء من التجنّي، إذ لا يمكن التعميم ولا المبالغة في تحليل واقع النساء، إذ يبقى التنسيب قاعدة.
بين تحفّظ النسويات التقليديات، وتنظير النسويات الجدد والنسويّات الإسلاميّات له، ما رأيك بجدل الحجاب اليوم؟
أنا لا أستعمل الحجاب بصيغة المفرد، بل الجمع، فنحن إزاء «حُجُب». والناظر في الفضاء العمومي يلحظ أشكالاً متعدّدة من الحُجُب. فهناك الحجاب «العلماني» بمعنى وضع غطاء الرأس باعتباره من مظاهر الزينة، ولذلك لا تجد عديد الفتيات والنسوة اليوم حرجاً في وضع غطاء الرأس، مع مساحيق وأحمر شفاه. ولا تجد أخريات حرجاً في وضع الحجاب مع عدم الالتزام بالصلاة والصوم وسائر القيم الدينيّة. ومن جهة أخرى نجد الحجاب «الشرعيّ» التام، إلى غير ذلك من أنواع الحُجُب التي تُستعمل لغايات مختلفة وتعبّر عن علاقة ما بالأشياء المادية. ويمكن تبيّن هجونة واضحة في استعمال الحجاب لدى النساء في أغلب البلدان الإسلامية.
أمّا الجدل حول الحجاب في الأحزاب الإسلاموية وفي أوروبا وغيرها من البلدان الغربية فهو جدل هوياتي بالدرجة الأولى، يرى في الحجاب محدّداً هوياتياً وجندرياً في ذات الوقت. فالمجتمعات الغربية روّجت لصورة نمطيّة حول «المسلمة» من خلال السينما ووسائل الإعلام والمؤلفات، وهذه كلها تلحّ على ربط الحجاب بالتخلّف والقهر. ومن هنا القول بأنّ تشبّث النساء بالحجاب يندرج في إطار الدفاع عن الهوية الإسلامية، وأنه ردّ فعل على المركزية الغربية والنزعة الاستشراقية.
ولكن لا يمكن التغاضي عن المسار التاريخي لغطاء رأس المرأة، إذ نجد توظيفاً سياسياً وأيديولوجياً وإعلامياً مختلفاً من حقبة تاريخية لأخرى. فداعش مثلاً ألزمت النساء اليوم بالنقاب، في محاولة واضحة لفرض التمييز بين الجنسين على مستوى العلامة. فما عاد الحديث عن الحجاب بل النقاب الشرعيّ الذي يخدم النظام الاجتماعيّ ويسهّل على الجماعة مراقبة أجساد النساء والتحكّم بجنسانياتهنّ. ومن هنا تحوّل الحجاب إلى حجّة على عدم الالتزام بالأوامر الشرعية، وصار النقاب محدّداً جندرياً بامتياز، يعبّر عن نظام جندري يقيم جدراناً عازلة بين الجنسين.
وانطلاقاً من تباين الرؤى والتصورات وتعدّد استعمالات الحجاب والنقاب وتوظيفهما، صار من المفيد تتبع الجدل بين النسويات والعلمانيات والإسلاميات والنسويّات الإسلاميّات وغيرهنّ حول هذه العلامة السيميائية. وهو جدل يستند، في كثير من الحالات، إلى النظريات ما بعد الاستعمارية وما بعد العلمانية وغيرها، ويفتح أفقاً معرفياً مهمّاً.
«لا تولد الواحدة امرأة، بل تصبح كذلك»، كانت هذه العبارة الأشهر في كتاب الجنس الأخر لسيمون دي بوفوار. وقد تناولت جوديث بتلر هذا الكتاب بالنقد، ساعيةً لا الى نسف العلاقة المصطنعة بين الجنس والجندر بل وإلى نسف الجنس ذاته. كيف نفهم هذا المأثور في ظلّ بُنى تُعيق صيرورة أن تصبح الواحدة امرأة؟
لا تولد المرأة امرأة، بل تتعلّم كيف تكون كذلك وفق تنشئة اجتماعية وأحكام وممارسات وطقوس وضوابط. وكذلك الأمر بالنسبة للرجل، فهو أيضاً يخضع لنفس التشريط والضبط والتطويع، ويتعلّم كيف يكون رجلاً من خلال مسار طويل ومعقّد واختبارات ذكورية متعدّدة. وقد ركّزت الدراسات الجندرية على دور الثقافة المهيمنة في لجم الأفراد والتحكّم بأجسادهم وتنميطهم. وليس تحليل المعايير الذكورية، وطرق التمثيل، وبنية العلاقات إلاّ محاولة للفت النظر إلى عمليّة البناء. فليست الأنوثة/الذكورة من إنتاج «الطبيعة» بقدر ما هي صناعة اجتماعية. وما جهود بتلر وغيرها من المنظّرات إلاّ محاولة للتأكيد على أنّ الجندر/الجنس ليسا ثابتَين ومحدّدَين بصفة مطلقة. بل هما يخضعان للتفاوض وللسياقات ولبنية العلاقات ولغير ذلك من العوامل. ولا شكّ أنّنا نَدين لهؤلاء الباحثات بمساهماتهن في إبراز كيفيّة التلاعب بالهويات الجنسيّة والجندرية وفق علاقات مبنية على السلطة. وعموماً، تذهب عديد الدارسات النسويات المتخصّصات في التحليل النفسي ودراسات الجندر إلى الانتصار لحقّ الإنسان، بغضّ النظر عن الجندر والميول الجنسية واللون والعرق والدين، في أن يكون، وأن يختار بحريّة كيف يكون، وأن يتصالح إلى الحد الأقصى مع ذاته ومع جسده.