تتوالى الأرقام والتقارير الإنسانية المخيفة القادمة من اليمن، البلد المدمر والمتنازع على السلطة فيه، والذي تفتك به الفاقة ونقص الخدمات والأزمات الصحية، مهددة حياة مئات الآلاف في ظل الحرب المستمرة منذ سنوات بين جماعة الحوثي المدعومة من إيران، وقوات الحكومة المعترف بها دولياً المدعومة من السعودية، والتي دفعت البلاد إلى وضع مأساوي يسوده خطر المجاعة المستمر وانتشار الأوبئة.

وقد أفادت المنظمات الطبية والإنسانية العاملة في اليمن خلال الأسابيع الأخيرة، بأن البلاد تواجه موجة كبرى جديدة من وباء الكوليرا، بعد أن كانت قد أطلقت تحذيرات بهذا الخصوص منذ مطلع العام الجاري، بسبب اقتراب موسم الأمطار التي تضاعف فرص انتشار المرض على نطاق واسع. وكان اليمن قد شهد أكثر من موجة لوباء الكوليرا خلال السنوات الأخيرة الماضية، أكبرها في عام 2017، إذ استمرت الموجة الأولى من أيلول 2016 حتى شباط 2017،  فيما بدأت الثانية في نيسان 2017 واستمرت حتى تشرين الثاني من العام نفسه. وانخفضت معدلات الإصابة بهذا المرض في عام 2018 بنسبة كبيرة، لكنها عادت لترتفع بشكل حاد مع بداية العام الحالي، وخاصة خلال الأسبوعين الماضيين.

ويصنف مرض الكوليرا ضمن الأمراض البكتيرية، وهو ينتشر عادةً من خلال المياه الملوثة، ويسبب الإسهال الشديد والجفاف، وإذا تُرك دون علاج فإنه يمكن أن تكون قاتلاً في غضون ساعات، حتى بالنسبة للأشخاص الذين كانوا أصحاء تماماً قبل العدوى به. وتقول المنظمات العاملة في الشأن الطبي إنها تخشى اليوم من أننا قد نكون أمام «التفشي الأسوأ للكوليرا في العالم»، ذلك أن حوالي 2500 حالة يُشتبه فيها بالإصابة بالمرض ترد يومياً إلى النقاط الطبية في اليمن، في ارتفاع واضح عن الأرقام التي كانت ترد في الأشهر السابقة.

وكان بيان مشترك لمنظمتي اليونيسيف والصحة العالمية في آذار الماضي قد قال إنه «تمّ الإبلاغ عن حوالي مئة وتسعة آلاف حالة إصابة بالكوليرا والإسهال المائي الحاد في اليمن، فضلاً عن مئة وتسعين حالة وفاة مرتبطة بالمرض منذ كانون الثاني/يناير». فيما قالت منظمة أوكسفام في بيان لها أواسط نيسان الجاري إن عدد المشتبه بإصابتهم قد ارتفع إلى 195 ألف شخص منذ مطلع العام، وهي زيادة حادة لانتشار الوباء، الذي خلف مئات الوفيات ثلثها من الأطفال دون سن الخامسة، وسط مخاوف من ازدياد الوفيات بسبب ظروف الطقس المساعدة، المترافقة مع تردي الخدمات وانهيار المرافق الصحية والبنى التحتية بشكل كبير، بما فيها أنظمة التزويد بالمياه، ومع ظروف الحصار ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية.

وأوضحت منظمة أوكسفام في بيانها أن عدد حالات الإصابة بالمرض خلال الأيام الأخيرة وصل «إلى أكثر من عشرة أضعاف عدد الحالات المبلغ عنها والوفيات المرتبطة بها خلال الفترة نفسها من عام 2018»، لافتةً إلى أن وباء الكوليرا قتل إجمالاً «أكثر من ثلاثة آلاف شخص مُنذ بدء تفشيه عام 2016، فيما بلغ إجمالي حالات الإصابة والاشتباه حوالي 1.5 مليون حالة».

وتأتي العاصمة في صدارة المدن بأعداد الإصابات، تليها بالتوالي محافظات الحديدة وإب وعمران وذمار وحجة والبيضاء وتعز والمحويت وصعدة وريمة والجوف ولحج وعدن والضالع، ما يعني أن الوباء يعمّ معظم الأراضي اليمنية. وقالت مصادر في وزارة الصحة والإسكان في الحكومة التابعة للحوثيين في صنعاء، إن الوضع كارثيٌ بسبب اكتظاظ النقاط الطبية بالمصابين، ووجود عجز في الاستجابة العاجلة لتفشي المرض، لافتة إلى أنها أغلقت عشرات المنشآت الطبية التي لا تلتزم بالمعايير الصحية، سعياً للحدّ من انتشار الوباء.

ويُعدُّ الأطفال وكبار السن أكثر الفئات عرضة للخطر في حالة الإصابة بمرض الكوليرا، خصوصاً في ظل نقص الطعام واقتراب البلاد من حافة المجاعة، ومعاناة كثيرين من سوء التغذية، إذ سُجّلت حالات كثيرة لمصابين وصلوا المستشفى يعانون بسبب الجفاف، إلى درجة يصعب معها استخدام الحقن لنقل السوائل وإنقاذهم من الموت حسب ما نقلت تقارير صحفية.

وتساهم صعوبة التنقل، جرّاء انقطاع الطرقات وانتشار الحواجز وضعف شبكة الإسعاف، في عرقلة وصول المصابين الذين يحتاجون تدخلاً فورياً إلى النقاط الطبية، ما يساهم في زيادة أعداد الأشخاص المعرضين للخطر، إذ كشفت شهادات واردة من بعض المدن اليمنية التي تتوازعها المليشيات، أن من يضطر لعبور الخطوط الأمامية أو ما يسمى بـ«المناطق غير الآمنة»، للوصول إلى المستشفيات، عليه الخوض في مفاوضات مع نقاط التفتيش التي يسيطر عليها المسلحون من سائر الأطراف، إضافة إلى أن عملية النقل أصلاً تستوجب دفع مبالغ كبيرة، لا يستطيع كثيرون تأمينها إلا عن طريق الاقتراض.

ويساهم أيضاً في زيادة انتشار المرض الغلاء الكبير في أسعار المحروقات، وانعدام قدرة شرائح واسعة من اليمنيين على شرائها. إذ تُعتبر المحروقات ضرورية لاستخدام المضخات في الحصول على المياه الجوفية، في ظل ندرة موارد المياه النظيفة ودمار شبكات الصرف بسبب الأعمال الحربية. وتبعاً لذلك فإن اللجوء لمياه الآبار النادرة أصلاً والملوثة يسهل انتشار المرض، إضافة إلى كل العوامل الأخرى.

النقاط الطبية ليست مستثناة ممّا يحصل خارج أبوابها أيضاً، ذلك أن كثافة الحالات التي تتوافد في الفترة الأخيرة، تضع ضغطاً كبيراً على الأطباء والممرضين، الذين يعانون من الإجهاد وقلة النوم، فضلاً عن الاحتياج الكبير  للمضادات الحيوية ومحاليل السوبلاي الضرورية للتعامل مع الوباء. ونقل تقرير لموقع دويتشه فيله الألماني وقوع ضحايا بين الكوادر الطبية، ذكر منهم الطبيب محمد عبد الغني الذي توفي إثر إصابته بالكوليرا، بعد أن عمل طويلاً بعلاج المصابين في صنعاء، ما دفع المخاوف إلى أقصاها من موجة الوباء الواسعة.

تتجدد هذه الكارثة الصحية الكبرى اليوم بسبب الظروف المساهمة في خلقها أصلاً، وهي الظروف التي لا يبدو أنها ستتغير في أي وقت قريب، والتي تفتح الأوضاع على احتمالات كوارث جديدة في كل لحظة،  في البلد المطحون بين براثن الأطراف المتحاربة على الأرض والأطراف الإقليمية التي تقف وراءها، مع استمرار الحصار وعجز المجتمع الدولي عن اتخاذ إجراءات حاسمة لإنهاء الفجائع.