تعيش المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري منذ مطلع العام 2019 أزمات متكرّرة، نتيجة عجزه عن تأمين الحدّ الأدنى من المحروقات اللازمة للقطاعات الخدمية والاستهلاك اليومي للسكان. وكانت أولى الأزمات الراهنة هي فقدان أسطوانات الغاز المنزلي من الأسواق في شهر شباط/فبراير الفائت، إلى حدّ اصطفاف الناس في طوابير تمتدّ لكيلومترات عدّة في مختلف المدن رغم الطقس البارد. الحال نفسه عاشه المواطنون مع المازوت المُخصّص للتدفئة المنزلية لأشهر طويلة، وإلى جانب الغاز والمازوت اللذين لم تُحلّ أزمتهما تماماً بعد، يعاني سكّان مناطق سيطرة النظام من نقص البنزين منذ مطلع نيسان 2019.

وانتشرت خلال الأسبوعين الأخيرين صورٌ ومقاطع مصوّرة ترصد آلاف السيارات المنتظمة في طوابير لساعات وأيام أمام محطات بيع الوقود؛ أملاً بالحصول على كمياتٍ قليلة منه، بعد تقنين استهلاكه وفق نظام البطاقة الذكية منذ شهر كانون الثاني/يناير من هذا العام رغم المشاكل الكثيرة التي تعاني منها، وأقلّها اعتمادها على الإنترنت الذي لا تتوافر خدمته دائماً.

وقد أدى هذا إلى حالة غير مسبوقة من التذمّر والامتعاض من أداء النّظام، دفعته للقيام بحملات إعلامية تبدو أقرب إلى التظارف السمج منها إلى التحرك الجديّ لحل الأزمة. وتندرج تبريرات النظام لهذه الأزمات ضمن مستويين؛ المستوى الأول هو إعادة اجترار ما قاله بشار الأسد في مناسبات عديدة، عن أن جميع أزمات المواطن السوري يصنعها أعداء سوريا الذين فشلوا في الحرب، فانتقلوا إلى الحصار والعقوبات الاقتصادية.

أما المستوى الثاني فهو اجتهادات المسؤولين الحكوميين من الصفين الأول والثاني، الذين يدلون بكلام أكثر تفصيلاً من «سلوغان» الحرب الكونية، فيعزو بعضهم الأمر إلى العقوبات الدولية وحجز مصر للسفن المُحمّلة بالوقود إلى سوريا في قناة السويس، فيما يقول آخرون صراحةً إنّ السبب هو توقّف الخط الائتماني الإيراني منذ ستة شهور، الذي كان يمدّ سوريا بالمحروقات، وفق اتّفاقٍ لم يُصرَّح عن آليّته وآجاله وطريقة سداد المليارات المُترتّبة عليه حتى اليوم، غير أن أياً من هؤلاء المسؤولين لم يوضح الأسباب التي أدّت لتوقّف هذا الخط الائتماني. ومن المعلوم أنّ بيع المحروقات الإيرانية للمستهلك السوري كان يؤمّن للنظام دخلاً ساعده على مواجهة هزّاتٍ ماليّة متلاحقة خلال السنوات الخمسة الماضية، ففي العام 2013 وحده باع النظام بالاستفادة من الخطّ الائتماني الإيراني محروقات بقيمة 3 مليار دولار أمريكي.

إيران هي الأخرى لم توضح أسباب توقّفها عن تزويد النظام بالنفط، رغم اعتماد شريكها في 90% من احتياجات مناطق سيطرته على التوريدات الإيرانية التي كانت تصل بمعدّل ناقلتين شهرياً، تحتوي الواحدة منها على مليون برميل من النفط الخام يُصار إلى تكريرها في مصفاتي حمص وبانياس وتُطرح في الأسواق، بحسب تصريحات أدلى بها مصطفى حصوية، مدير مؤسسة «محروقات» في ديسمبر 2018.

ويبدو أنّ مشاكل عميقة تقف خلف توقّف الخطّ الائتماني، لكن النظام ليس طرفاً فيها على الأرجح، إذ ليس بوسعه التخلي عن هذا الخط، لأن شراء المحروقات بوسائل أخرى يستوجب دفع مبالغ نقدية بالقطع الأجنبي، وهو ما ليس بوسع النظام تأمينه. وإذا كانت أطراف في النظام تمتلك المليارات الكفيلة بذلك، فإنّ حصيلة الأزمات الاقتصادية الماضية تبيّن أنّ هذه الطغمة غير مستعدة لإنفاق فلسٍ واحد للتخفيف من حدّة أزماتٍ تعصف بحياة السوريين.

ويرى بعض المحللين أنّ توقّف الخط يعود إلى رغبة إيران في الضغط على النظام والروس من أجل حجز مقعدٍ غير قابلٍ للمساومة في سوريا، خصوصاً أنّ خلافات بين الروس والإيرانيين بدأت تطفو على السطح، حتى وصل الأمر للاشتباك المسلح بين قوّات تابعة للطرفين أكثر من مرة. وكانت للنظام محاولات سابقة لإيجاد مصادر أخرى غير الخط الائتماني الإيراني، إذ عرضت رئاسة الوزراء على مستثمرين صناعيين سوريين لم تسمّهم، وعلى شركات روسية، تكرير النفط في مصفاتي حمص وبانياس وفق عقود استثمارية، مقابل أن تأخذ عمولتها بشكل عينيّ من المشتقات الناتجة عن عملية التكرير.

الأزمة ليست وليدة السنوات الماضية فقط

ليست مشاكل تأمين مصادر الطاقة في سوريا وليدة سنوات الحرب، بل كانت البلاد تعاني قبل الثورة من أزماتٍ متكرّرة أقلّ حدّةً من أزمات اليوم، لكنّها أدّت لرفع الدعم جزئياً عن المحروقات، وهو ما كان له نتائج كارثية على حياة شرائح واسعة من السوريين، وكان واحداً من أسباب الهجرة الداخلية مليونية من مدن الجزيرة نحو الجنوب والمدن الكبرى بين عامي 2006-2010. وقد تذرّعت حكومة النظام حينها بأنّها أصبحت غير قادرة على تقديم الدعم نفسه بسبب الحرب على العراق والارتفاع العالمي لأسعار النفط، وكذلك عجز القدرة الإنتاجية لمصفاتي حمص وبانياس عن تأمين احتياجات الاستهلاك المحلي من المشتقات النفطية، ما كان يدفع نحو استيراد المشتقات لسدّ هذا العجز. غير أنّ أسباب أخرى كانت تقف خلف إلغاء الدعم، أبرزها تخلّي الدولة عن سياسة الاقتصاد الموجه نحو ما أسموه حينها «اقتصاد السوق الاجتماعي».

كانت سوريا تنتج قبل الثورة 360 ألف برميل نفط يومياً، لكنها كانت غير قادرة على سدّ احتياجات المواطنين من مشتقات النفط دون الاستيراد، لأن البنى التحتية الكفيلة بذلك، أي مصفاتي حمص وبانياس، لم تكن قادرة على إنتاج أكثر من 1334 ألف طن من مادة البنزين على سبيل المثال في العام 2011، بينما كان يُقدّر متوسط احتياج البلاد حينها بحدود 1734 ألف طن. وكان يتمّ سدّ العجز عبر الاستيراد من دولتين على وجه الخصوص، هما فنزويلا وإيران، اللتان استمرتا بتزويد النظام بالنفط خلال الثورة، بيد أنّ الفنزويليين كانت توريداتهم أقل بكثير، إلى أن انقطعت بشكلٍ نهائيٍّ نتيجة الأوضاع المتردية في بلادهم.

وتبيّن الجداول أدناه المتوسط الإنتاجي لمصافي النفط السورية خلال الفترة الممتدة من 2006 إلى 2012، كما تبيّن كميات المحروقات المُستهلكة في سوريا بحدودها المتوسطة، وحدود العجز الذي كان يُغطى عبر استيرادات مؤسسة «محروقات»، وهي مأخوذة عن ورقة نشرها مؤتمر الطاقة العربي العاشر الذي انعقد في العاصمة الإماراتية في شهر كانون الأول/ديسمبر عام 2014.

 

أمّا اليوم، فقد أُصيب قطاع النفط الذي يديره النظام بضرر يصعب تقديره والوقوف في وجه ارتداداته، إذ وصل إنتاج النفط إلى أدنى مستوياته عند عتبة 2000 برميل يومياً حين كان ما لا يقل عن 75% من سوريا خارج سيطرة النظام، ليعود للارتفاع بشكلٍ متواضع عقب استرجاع مساحاتٍ واسعة بفعل التدخل الروسي. ولا يتخطّى الإنتاج حالياً 24 ألف برميل نفط يومياً، فيما يفرض اتساع رقعة سيطرة النظام الحاجة لتأمين كميات أكبر من المحروقات، بهدف تلبية الاحتياجات المتزايدة.

لعبة من النظام؟

ينظر بعض المحللين إلى أزمة المحروقات الحالية على أنّها لعبة من النظام، إذ أنّه عبر اختلاق هذه الأزمة سيكون لديه مبرّرٌ جديد لرفع الدعم عن المحروقات بشكلٍ كامل، وعدم حصر توزيعه بمؤسسة «محروقات» التابعة لوزارة النفط والثروة المعدنية، وفسح المجال أمام رجال أعمال مُقرّبين منه لتأمين المحروقات وطرحها في الأسواق بأسعار أعلى من الأسعار العالمية.

وثمة مؤشرات واقعية تدعم هذا الاحتمال، إذ أعلن مدير المكتب الصحفي لوزارة النفط لإحدى الإذاعات المحلية أنّ محطتين في دمشق ستشرعان ببيع بنزين أوكتان 95 بمزايا عالمية، بسعرٍ يصل إلى 600 ليرة سورية. ويظهر من زيادة الحديث الإعلامي المرتبط بالنظام عن جودة البنزين المستورد مقارنةً بالبنزين السوري، أنه يتجه نحو لبرلة قطاع المحروقات بشكل كامل، في ظلّ العقوبات المفروضة على شركة «محروقات» الرّسمية، وزيادة التعقيدات التي تواجه عملية التحايل على العقوبات بعد ظهور نيّة أمريكيّة أكثر حزماً باتّجاه تطبيقها، لا سيّما أنّ النظام يتأثّر مباشرة بالعقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا وإيران، اللتين يرتبط بهما مصيره السياسي والاقتصادي، ذلك فضلاً عن العقوبات الموجهة ضده بشكل مباشر.

وإذا كان الحل لدى النظام هو دفع القطاع الخاص إلى سوق المحروقات فعلاً، فإن هذا سيؤدي إلى رفع أسعارها بشكل لن يتناسب مع معدّل الأجور المتدني جدّاً في سوريا، كما أنه لن يتماشى مع قيمة الليرة السورية الآخذة بالتآكل منذ سنوات، فضلاً عن أنّه لا يفيد في الالتفاف على العقوبات إذا كانت جديّة وقطعية. ويعتمد النظام اليوم بشكل جزئيّ على شراء البنزين عبر لبنان والعراق، غير أن هذا لا يعتبر أمراً قابلاً للاستمرارية، لأنّ من شأن انفتاح هاتين الدولتين نفطياً على النظام الوقوع في شرك العقوبات الأمريكية. أمّا شراء النفط داخلياً، من مناطق قسد أو هيئة تحرير الشام أو فصائل المعارضة، فلا يمكن التعويل عليه سوى للاتجار في الأسواق السوداء التي يُثري من خلالها اللصوص وتجار الحرب.

ويبقى السؤال حول ما إذا كان الهدف الرئيس من التشدّد الأمريكي في العقوبات هو النظام بعينه، أم أن الهدف هو إيران وروسيا فكانت النتيجة تضرّر الطرف الأضعف المتمثّل بنظام الأسد. ليس هناك إجابة قطعية طبعاً، لكن إذا كان النظام هو المقصود فعلاً، فإن العقوبات ستشمل قطاعات حيوية أخرى لاحقاً، ما سيفاقم الأزمات المعيشية الخانقة في سوريا.

هل سيصمد النظام في مواجهة العقوبات؟

يبالغ أولئك الذين يراهنون على سقوط سريع للنظام جراء الأزمة الحالية، وبالمقابل فإن التعويل على صموده طويلاً في مواجهة العقوبات، إذا كانت جدّيّة ويُراد منها الإضرار به، يبدو مبالغاً به أيضاً. وكثيراً ما يُضرب المثل بصمود نظام صدام حسين أمام عقوبات أمريكية صارمة على مدى 13 عاماً، لكن الفارق أن نظام صدّام كان يمسك بزمام العراق كاملاً ويتحكّم بموارده النفطية والغذائية، أي أنّه كان قادراً على تأمين الحدّ الأدنى المطلوب للعيش، ولم يكن يعيش حرباً داخلية قسّمت البلاد إلى مساحات سيطرة وساحات لعب لجيوش العالم، كما هو حال النظام السوري الذي يعاني من دمار البنى التحتية وخروج مُقدّرات البلاد الحيوية من يده، خصوصاً في منطقة الجزيرة، وهو ما دفع أطرافاً مُقرّبة منه وأجنحة فيه إلى الدعوة لحسم عسكري ضدّ مناطق سيطرة قسد شمال شرقي سوريا كمخرج من الأزمة.

ستتجدد أزمة اليوم وتأخذ أشكالاً كثيرة، إذ أنها حصيلة سياسات اقتصادية عشوائية تؤجّل الأزمات عبر تسكينها، حتى بات الوضع الاقتصادي بالوناً يصعب حبس هوائه لكثرة الخروق التي أصابته. وأيّاً كان المقصود من العقوبات التي تطال قطاع المحروقات، فإنّ آثارها المباشرة على المواطن السوري ستزيد من حنقه على النظام، لأنّها بالفعل تهدّد لقمة عيشه. وإذا كان النظام قد استطاع، إلى حين، قمع طالبي الحرية، فإن الأرجح أنه لن يُفلح في الوقوف طويلاً حيال تداعيات جوع شعب يعيش 80% منه تحت خط الفقر أصلاً.