لم يبدأ مفهوم «الحسبة» بالظهور في إدلب مع الإعلان عن تأسيس «مركز سواعد الخير» في حزيران من عام 2017، بل كانت محاولات للقيام بأعمال مشابهة لأعمال الحسبة قد بدأت منذ طرد قوات النظام من معظم محافظة إدلب عام 2015، إلا أنها لم تأخذ شكلها المنظم والمُمأسس إلّا مع تأسيس «سواعد الخير».

والحسبة بالتعريف هي «وظيفة رسمية من وظائف الدولة المسلمة، تختص بأداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعتمد في قوانينها على نصوص الشريعة الإسلامية»، وقد بدأ بعض الدعاة بالتطوع لممارسة هذا الدور في إدلب عبر نقل التعاليم الشرعية للأهالي من خلال النصح والندوات التعريفية؛ ليتحول الأمر تدريجياً إلى هيكلية منظمة، بدأت على شكل جماعة دعوية لا ترتبط رسمياً بأي جهة عسكرية، شكّلها شبّان وفتياتٌ من مناطق سورية مختلفة ومعهم مهاجرون ومهاجرات من دول أخرى؛ ثمّ إلى «ذراع مدني» يعمل بالتنسيق مع هيئة تحرير الشام، يتدخل في الحياة العامة للسكان، ويفرض عليهم أنماطاً محددة في السلوك واللباس، وذلك عبر عدة مكاتب هي: الدوريات النسائية، المحتسبون، القوة التنفيذية، مكتب القضاء، إضافة إلى مكاتب ملحقة كمكتب الشكاوى والمتابعة.

وتعرّف «سواعد الخير» عن نفسها في قناتها على تليغرام بأنها «مركز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشمال السوري المحرر»، وتعلن في منشوراتها عن مهام متنوعة من بينها «ضبط المناطق المحررة ومنع المخالفات الشرعية الظاهرة، وحماية الأعراض والدين، وتحقيق غاية الجهاد، وتدعيم المجتمع بالفضائل وبناء الضمير الاجتماعي، وتحقيق وصف الخيرية للأمة»، إضافة إلى «حماية السفينة من الغرق» وهو الشعار الذي يكتبونه على سياراتهم.

ولعل أكثر الجوانب وضوحاً وتأثيراً في عمل «سواعد الخير»، هو الجانب المتعلق بضبط حياة النساء ولباسهنّ وسلوكهنّ عبر الدوريات النسائية، التي سيحاول هذا النص شرح كيفية تدخلها في الحياة العامة في إدلب.

داعيات أم محققات في أفرع أمنية

يصف جميع من تحدثنا إليهم من أهالي إدلب نساء مركز سواعد الخير بـ «الغلظة والتشدد»، وغالباً ما يرافقهنّ رجال من المركز أو هيئة تحرير الشام لحمايتهنّ ودعمهنّ. وتتدخل الدوريات النسائية في كافة الأمور التي تخص النساء في الأماكن العامة والمدارس، وتتجول نساء الحسبة مرتديات اللباس الشرعي الكامل، إضافة إلى «صدريات» كتب عليها سواعد الخير، تتنقلنَ مشياً في الأسواق، أو عبر سيارات «فان» كُتب عليها «سواعد الخير» إضافة إلى شعار «حتى لا تغرق السفينة». وغالباً ما يكون وجودهنّ على شكل دوريات «طيارة»، إضافة إلى جولات ميدانية في الأسواق والمشافي والمدارس والمطاعم والمقاهي ومقرات المنظمات.

«سعاد» هي واحدة من النساء اللواتي تعرضت لهنّ نساء «سواعد الخير»، وهي تقول إنهنّ يملكنَ سلطة كبيرة في مدينة إدلب، تصفها بـ «المطلقة»، وغالباً ما يعتمدن على أسلوب «التقريع، لا النصح» وفق تعبيرها. كما أنهنّ يفرضنَ تعهدات خطية على المُخالِفات بحسب وجهة نظرهنّ، وقد تصل سلطتهنّ إلى الضرب في بعض الأحيان. ومن أكثر نساء «سواعد الخير» شهرة في مدينة إدلب سيدة تدعى «رابحة» وهي بحسب المتداول «بطلة في رياضة الجودو»، مارست الضرب على طالبات في جامعة إدلب لمخالفات تتعلق باللباس أو الزينة أو الوقوف مع شخص إن لم تثبت صلة «قرابة التحريم» معه.

تقول سعاد إنها اقتيدت إلى مقر دعته بـ«الأمنية» نتيجة مجادلة كلامية حول لباسها مع واحدة من الدوريات النسائية، وإنها أمضت يومين في «الأمنية» قبل أن يتم الإفراج عنها بعد أن فُرضَ على ولي أمرها توقيع تعهد خطي بارتداء اللباس الشرعي الكامل وفق ما حدده «قانون الآداب العامة»، الذي سنتناوله لاحقاً.

تروي سعاد أيضاً قصصاً عن نساء التقت بهنّ في مركز الاحتجاز، تم أخذهنَ من قبل الدوريات النسائية، ويتم التحقيق معهن لمخالفات تتعلق بالاختلاط أو اللباس أو الزينة أو دخول مدينة الملاهي، أو لمشادات كلامية أو رفض لبعض القرارات، ويتم تحويلهنّ إلى القضاء بعد التحقيق معهن. وقد تعرضت سعاد إلى الإهانة بألفاظ نابية والسب والشتم والاتهام من قبل المسؤولات في «الأمنية،» متساءلة عن الفارق بين «سواعد الخير» وأفرع الأمن من حيث الممارسات والإساءات!

وكانت تقارير صحفية نقلت اعتداء واحدة من نساء الحسبة بالضرب على مديرة الامتحانات في جامعة إدلب، بسبب ما قيل وقتها إنه خلاف على لباس الأخيرة، ما استدعى نقلها إلى المشفى. إضافة إلى الاعتداء على النساء في واحدة من المنظمات الإنسانية بالضرب، واعتقال سائقي حافلات يتبعون لمنظمة بنفسج بحجة الاختلاط، واعتقال بعض أعضاء فريق ملهم التطوعي، إضافة إلى الاعتداء بالضرب على مدرسيّ وطالبات ثانوية العروبة ومعهد فيثاغورث في إدلب، بحجة الاختلاط أيضاً.

تصف أم أمين تجربتها مع الدوريات النسائية بـ «السيئة جداً»، لما تركته من آثار سلبية عليها، وتقول إنها أُخذت خلال مرورها بحديقة «الضبيط» في إدلب برفقة ابن عم لها، وبحجة الاختلاط غير الشرعي تم اقتيادها إلى مقر الدوريات النسائية، حيث تم التحقيق معها وتعرضت للضرب والشتم، واتُّهمت بـ «إقامة علاقة غير شرعية»، وهو ما ترك أثره النفسي والاجتماعي على حياتها بعد خروجها بتعهد خطي كتبه زوجها. أما علياء فقد اتُّهمت بالأمر نفسه أيضاً، ولكن بعد تفتيش جوالها والاطلاع على محادثات بين الفتاة وخطيبها. تقول علياء إن تهمتها كانت مثيرة للضحك: «إقامة علاقة غير شرعية عبر الواتس آب».

وكانت «سواعد الخير» قد أصدرت ما أسمته «قانون الآداب العامة» في أيار 2018، الذي يضم 41 تعميماً، وفيه بابٌ خاصٌّ يتضمن خمسة قواعد متعلقة باللباس الشرعي، تحدد مواصفاته بـ «ستر البدن وأن يكون فضفاضاً وثخيناً، وغير مزين أو مزركش، وأن تلزم الطالبات بلبس الخمار الشرعي كلباس موحد، ومنع وضع العطر والكحل والمكياج أو رفع الشعر تحت الحجاب بطريقة مخالفة شرعاً». ذلك إضافة إلى قوانين تُلزم بائعي الألبسة النسائية بإزالة أو تغطية رؤوس مجسمات العرض، ومنع بيع العباءات أو المناطويات «غير الشرعية»، ومنع عرض الألبسة الداخلية أو القصيرة، وعدم خلوة أي صاحب محل مع أي امرأة سواء كانت عاملة أو متسوقة. كما يمنع القانون الاختلاط والموسيقى والغناء والاحتفال بأعياد غير إسلامية في المؤسسات التعليمية والطبية والمشافي، ويمنع استقبال النساء المتبرجات في المسابح والملاهي وصالات الألعاب.

السيدة «حسناء» مرشدة نفسية تعمل في واحدة من مدارس إدلب، وهي تقول إن بعض ما تقوم به دوريات سواعد الخير «مقبول» من قبل الأهالي، وعلى وجه الخصوص «منع المتحرشين من ملاحقة الفتيات واعتراض طريقهن في المدارس والجامعات»، أما التدخل في الحياة الشخصية فقد بات أمراً «لا يطاق»، ويسبب حالة من الغضب والغليان بين سكان إدلب.

وتقول المرشدة النفسية إن الدوريات النسائية مرّت بمراحل متعددة منذ إنشائها، إذ أنها حاولت في البداية تقديم «صورة إيجابية تعتمد على النصح والترغيب وتوزيع الهدايا والألبسة الشرعية لمن يريد من الطالبات»، إلّا أنها تطورت لاحقاً إلى سلطة تنفيذية «شُرَطية» ليس لها قواعد عمل واضحة، إذ أنها تتّبع سياسة «الكبسات» على حد تعبيرها، عبر الدخول المفاجئ إلى المدارس والتدخل في كافة الأمور التعليمية، وليس فقط فيما يخص الطالبات، بل فيما يخص الكادر التعليمي أيضاً. وتبدي حسناء دهشتها من القرارات الأخيرة التي طالت الأطفال في الصف الأول الابتدائي بمنع الاختلاط بين الجنسين، وهو الأمر الذي كانت «سواعد الخير» قد فرضته سابقاً منذ الصف الخامس الابتدائي.

تعمل الدوريات النسائية في بعض مدن محافظة إدلب، ويزداد نشاطها في مدينة إدلب وسرمدا ومعرتمصرين، في حين يغيب أو يتضاءل في المناطق الأخرى. ويقول الناشط الحقوقي المحلي «أحمد أبو علي» إن ذلك يرجع  إلى اصطدامها بطبيعة الحياة في الأرياف التي لا يتقبّل أهلها هذه القوانين، وهو ما يعني أن «سواعد الخير» ستحتاج لاستخدام القوة من قبل عدد كبير من العناصر لتنجح في فرض قوانينها في كلّ مكان.

ويرى أحمد أن ما تقوم به الدوريات النسائية يخالف حتى المبادئ التي أعلنتها هي نفسها، من حيث أن عملها يقوم على النصح والدعوة وليس التصرف كما لو أنها سلطة تنفيذية. ويضيف أن عملها يشابه إلى حد بعيد عمل جهاز الحسبة التابع لداعش في المناطق التي كان يسيطر عليها، مؤكداً أن معظم الأهالي يرفضون هذه الإجراءات، لكن الخوف من هيئة تحرير الشام هو ما يمنعهم من الاعتراض عليها ومواجهتها، معتبراً أن سواعد الخير «ذراع أمنية تستخدمها هيئة تحرير الشام لفرض سلطتها وتعاليمها على المجتمع، وجباية الأموال من السكان عبر الغرامات، والتدخل في عمل المنظمات الإنسانية وفرض الإتاوات عليها».

على الرغم من البيانات التي أصدرتها نقابات ومؤسسات مدنية في إدلب، ورفضت بموجبها التدخل في عملها، وعلى الرغم من بعض المظاهرات التي ندّدت بعمل «سواعد الخير»، إلّا أن سلطة الأخيرة تزداد وتتسع بالتدريج، وتُضاف إليها صلاحيات جديدة في كل يوم، وباتت قراراتها نافذة دون الرجوع لأي سلطة في مدينة إدلب على وجه الخصوص، حتى باتت المتحكم الفعلي بمسارات الحياة العامة فيها.