ما الذي يمكن أن يقوله الرجال المسنّون، حين يعودون إلى أوطانهم وقراهم التي خرجوا منها نازحين، عندما كانوا أطفالاً، تحت ضرب المدافع ورشق البارود؟ كيف تكون وجوههم حين يتذكرون المشاهد القاسية التي رأوها أثناء المعارك والتهجير القسري؟ ما هي المسافة التي يستطيع أن يتركها المرء بينه وبين ماضيه البعيد إذا فُرضت عليه المواجهة الصعبة؟ ما الذي تتذكره العجائز المحتفظات دائماً بصور باهتة تحت الأسرّة؟ كيف يروينَ تلك القصص التي كُنَّ بطلاتها وهُنَّ فتيات يحمين الأطفال في الملاجئ، ويُلقين نظرات قلقة من البيوت الخالية من الدقيق والرجال، أثناء الحصار وتوافد الجنود الغزاة بالأسئلة والنياشين؟

كل هذه الأسئلة وأكثر تطرحها دوروثي قللو، الصحافية الفرنسية من أصول جزائرية، في فيلمها الجديد «في منصورة، فرّقتَنا»، على عدد من شهود مرحلة مرت في تاريخ بلادها الجزائر دون أن يذكرها أحد، دافعة الشهود عليها، وعلى رأسهم والدها، إلى أمام عدسة الكاميرا للتحدث دون حذر، والتذكر دون وصاية من الذاكرة، والتعبير عن المشاعر دون الإحساس بالخجل والعار.

ما تعرضه الكاميرا قد لا يكون مفاجئاً. إذ كيف يمكن لرجل في السبعين أن لا يبكي حين يتذكر كيف قتلوا أفراد عائلته أمام عينيه وهو طفل. كيف يمكن لآخر أن لا يرتجف وهو يتحدث عن الأيام القاسية واقفاً وسط الركام الذي ما زال ركاماً حتى الساعة. كيف يمكن لوالد دوروثي أن لا يرتبك وتحتبس عنه الكلمات، حين يعود بعد خمسين عاماً إلى البيت الذي وُلد فيه، وخرج منه مجبراً دون أن يلتفت إلى الوراء، قاطعاً آلاف الأميال إلى بلاد أخرى كان قد انغمس فيها حتى ظنَّ أنه نسي الماضي، الذي عاد دفعة واحدة بكل صخبه وآلامه وأيامه الجميلة والقاسية، البعيدة كنجمة تكاد تنطفئ.

قررت دوروثي أن تخوض هذه التجربة، وهي التي وُلدت في فرنسا لأب جزائري، كانت توجه له الأسئلة على الدوام حول ماضيه وتجربته، متلقية في غالب الأحيان صمتاً لا يَشرح، وانسحاباً لا يسقي الظمأ، وكلمات مكررة لا تُشبع الفضول. ذلك أن والدها كان شاهداً على مرحلة مهمة في تاريخ الجزائر، نزح فيها أكثر من مليوني جزائري، وهي مرحلة «لم تُوثَّق تفاصيلها أبداً، وتم التعتيم عليها بسبب الحظر الذي يُفرض على الوثائق التاريخية»، بحسب ما قالت في حديث للجمهورية.

تفيد دوروثي بأنها أمسكت يد والدها، وعبرت في رحلة معاكسة لرحلة نزوحه إلى مسقط رأسه، مدفوعة بفضولها الصحفي ورغبتها الشخصية في معرفة تاريخ والدها وأقاربها وتوثيقه. فيما كان والدها يخطو إلى جانبها بعد حذر طويل، مقرراً مواجهة الماضي المدفون في الغبار، وفتح الباب للذاكرة حتى تفيض دون رقابة أو حذر، علّ سلاماً ينعقد مع أشباحها التي كانت تطوف في الأرجاء على مدار عشرات السنين.

تذهب قللو إلى الوثائق التي رفعت السلطات الفرنسية الحظر عنها في 2012، بعد خمسين عاماً من استقلال الجزائر (1962) وجلاء الاحتلال الفرنسي عنها. تُعاين التاريخ المكتوب عن تلك المرحلة باهتمام شديد، بسبب شعورها بالمسؤولية حيال هذه المآسي الجماعية التي لم تُوثَّق، والتي حصلت في قرية المنصورة (شمال الجزائر) ومحيطها، حيث أجبر جنود الاحتلال الفرنسي ملايين الجزائرين على ترك منازلهم والنزوح دون إيضاح الأسباب، ومحاصرتهم في المراكز ومراقبتهم، وملاحقة الرجال الذين كان معظمهم من الثوار المقاتلين آنذاك.

تقول قللو للجمهورية إن النزوح والظروف القاسية كان لها أثر مباشر على تكوين وعي الملايين في تلك المرحلة، وإن هذه الفترة من النزوح الواسع لم يُسلّط عليها الضوء إطلاقاً، وذلك ما دفعها إلى حمل الكاميرا والتفتيش بين الوثائق، لتحصل على كنز كبير من التاريخ المنسي، قررت أن توثقه في البداية في الفيلم، ثم رأت أن كثرة الوثائق قد تحتاج جهداً أوسع، فشرعت في تأليف كتاب عن الموضوع، لا تزال تعمل عليه حتى الآن.

يتناول الفيلم بشكل أساسي قضية النزوح القسري، وهو الثيمة المشتركة الأقسى في العديد من البلاد الواقعة تحت قبضة الاحتلال والديكتاتوريات والميلشيات المسلحة. قصص قديمة قد تجد مثليها المطابق في الواقع المرير الذي يتكرر عبر تاريخ هذه البلاد بحذافيره، في فلسطين وسوريا والعراق واليمن والصومال، وهذه البلاد، للصدفة المحضة، توجد في معظمها قرى أو مدن اسمها المنصورة، وفي ذلك قياس يعرضه الفيلم في الخفاء دون أن يدري، مذكراً بالمصائر المتشابهة لشعوب هذه البلدان. مشاهد مشتركة في كل هذه الأماكن، يظهر فيها ضعفاء وعزّل خائفون، نساء وشيوخ ورجال، حاملين المتاع الخفيف والأطفال الشاحبين في البراري إلى وجهة آمنة، فيما يتردد صدى البارود في الأطراف، وتُترك البيوت والأوطان في الخلفية التي تتحطم وتتصاعد منها أعمدة الدخان، ثم تغيب عن الأنظار إلى آجال مجهولة.

قد يُتيح لنا هذا الفيلم فرصة لاستشراف المستقبل، والنظر إلى حاضرنا الذي سيصبح ماضياً ذات يوم. يدفعنا لرؤية أنفسنا بعد انتهاء عملية التحطيم المستمرة، عائدين بعيون قلقة، متسائلين عن كيفية حدوث ذلك، رغم وجود آلاف العدسات التي توثّق، وفي أوج ثورة الاتصالات وتبادل المعلومات. يضعنا الفيلم دون أن ندري في موقف الشهود الناجين، الذين لم يستطيعوا فعل شيء في نهاية المطاف سوى إشعال الشموع والتنهد بحرارة أمام الخرائب ولطخات الدم.