أسفرت النتائج الأولية للانتخابات المحلية التي جرت في تركيا الأحد الماضي، عن خسارة حزب العدالة والتنمية وشريكه في التحالف الانتخابي حزب الحركة القومية الفاشي القومي، لمعظم المدن الكبرى، بما في ذلك اسطنبول وأنقرة وإزمير وأضنة ومرسين، وذلك لصالح مرشّحي تحالف حزب الشعب الجمهوري وشريكه الفاشي القومي الآخر، الحزب الجيد. وبالإضافة إلى ذلك، عاد أعضاء في حزب الشعوب الديمقراطي ليترأسوا بلديات المدن الكردية الكبرى، بعد أن كانت الدولة قد أقالت رؤساء البلديات المنتخبين السابقين واستبدلتهم بآخرين مُعيّنين.

شكلت هذه النتائج نجاحاً مهماً للمعارضة، التي أدارت حملتها الانتخابية بنجاح نسبي، على الرغم من انحياز التغطية الإعلامية بشكل علني إلى تحالف العدالة والتنمية/الحركة القومية، إذ كانت شبكات التلفزيون تقطع برامجها لبث الحشود التي يخطب فيها الرئيس التركي في مختلف أنحاء تركيا؛ وكذلك على الرغم من استخدام أردوغان وتحالفه لكافة موارد الدولة المتاحة لهم؛ وعلى الرغم من التهديدات التي وجّهها أردوغان، متّهماً مرشّحي المعارضة بأنهم إرهابيون أو مدعومون من قبل إرهابيين؛ وعلى الرغم من أن شريحة واسعة من كوادر حزب الشعوب قابعةٌ في السجن بالفعل. لقد كان أردوغان حاضراً في صميم حملة حزبه الانتخابية، وكانت ثيمة «الحرب ضد أعداء الدولة» في صميم هذه الحملة، إذ صوّر الرجل نفسه وتحالفه باعتبارهما الطرف الذي يحمي تركيا ممن يريدون إضعافها وتقسيمها وتدميرها. ويبدو أن النِسويات أيضاً من بين المتآمرين وفقاً لتصريحات الرئيس.

من ناحية أخرى، اختار تحالف حزب الشعب/ الحزب الجيد مرشحيه للمدن الكبرى بعناية، موجّهاً رسالة مفادها أن لدى مرشحيه خبرة في قطاعات البلديات، وأنهم سيخدمون جميع السكان دون تمييز على أساس الانتماء الحزبي أو الإيديولوجي أو الإثني أو الديني. وقد أتى مرشح حزب الشعب لبلدية اسطنبول أكرم إماموغلو على ذكر اللاجئين السوريين المقيمين في المدينة عدة مرات خلال حملته الانتخابية، وإضافة لامتناعه التام عن استخدام كلمة «ضيوف»، صرّح إماموغلو بأنه أحد المقتنعين بأن السوريين باقون في تركيا، وبأن المشكلات الاجتماعية مثل زواج الأطفال بحاجة إلى من يتصدى لها. كما صرّح بضرورة اتّباع سياسات طويلة الأجل فيما يتعلق باللاجئين السوريين.

على الرغم من كلام مرشحي المعارضة حول استيعاب الجميع وتخفيف حدة الاستقطاب والتوتر، إلا أن العديد من الديمقراطيين الأتراك كانوا متردّدين في التصويت في هذه الانتخابات، وذلك لعدم ثقتهم أن بإمكان الانتخابات إحداث تغيير في البلاد مع كل أشكال الغبن الانتخابي المذكورة أعلاه. ومما زاد من تشكّكهم هذا أيضاً، تحالف حزب الشعب الجمهوري مع الحزب الجيّد، الفاشي القومي بشكل علني، كما أن لمرشح حزب الشعب عن بلدية أنقرة، على سبيل المثال، ماضٍ في حزب الحركة القومية. ومع ذلك، تمكّن هذا التحالف من جمع طيف واسع من الناخبين، تراوحوا بين الأكراد والقوميين العلمانيين في المناطق المدينية، وصولاً إلى الناشطين البيئيين والنِسويات والديمقراطيين الاجتماعيين، والأهم من ذلك ارتفاع عدد الأصوات التي حصلت عليها أحزاب المعارضة في أوساط الطبقة العاملة المدينية بالمقارنة مع الانتخابات السابقة. ومن المؤكد أن الخيار الاستراتيجي الذي اتخذه حزب الشعوب الديمقراطي، بدعوة ناخبيه للتصويت لصالح تحالف حزب الشعب الجمهوري في الأماكن التي لا مرشحين له فيها، على الرغم من موقف الأخير الصريح المناهض للأكراد، قد أحدث فارقاً كبيراً ولا سيما في اسطنبول، المدينة التي تضم العدد الأكبر من الأكراد في تركيا. وكما هي العادة، لم تقلّ نسبة المشاركة في هذه الانتخابات عن 84% في جميع أنحاء البلاد.

لكن لماذا تُعدّ نتائج هذه الانتخابات المحلية شديدة الأهمية؟ ليس فقط لأن أردوغان نفسه حوّلَ هذه الانتخابات إلى شكل من أشكال الاستفتاء على شرعيته، جاعلاً من هذه الانتخابات معركة من أجل «بقاء الدولة»، وهو البقاء المشروط في خطاب أردوغان ببقاء حزب العدالة والتنمية حزباً حاكماً؛ بل أيضاً لأن اعتماد الانتخابات كمصدر للشرعية جزء أساسي من خطاب أردوغان وحزبه، ولأن السيطرة على بلديتي أنقرة واسطنبول كانت تاريخياً منذ 25 عاماً من أهم عناصر نجاح أردوغان وحزب العدالة والتنمية. وبينما كان التحكم بالسلطة القضائية خلال السنوات الماضية ركيزة أساسية لدوام الحكم الفردي الاستبدادي المتزايد لأردوغان، أصبح التحكم بالبلديات تدريجياً محرّكَ الشعبوية السياسية لحزب العدالة والتنمية والركيزة الثانية لحكمه.

لقد جمع حكم العدالة والتنمية بين ضرب من الشعبوية السياسية، القائمة على دعوى تمثيل المضطهدين والمهمشين في المجتمع التركي، وبين علاقات زبائنية بُنيت من خلال البلديات، وسمحت للحزب ببناء شبكاته الأهلية والخدماتية. وقد جرى ذلك عبر علاقات اقتصادية شخصية مع الطبقة العاملة، من خلال توسيع مفهوم العمل الخيري كوسيلة للحد من الفقر، بالتوازي مع نظام الرفاه الذي تقدمه الدولة، الذي لم يكن كافياً أصلاً، وهو الأمر الذي ازداد وضوحاً وحضوراً مع تعمّق الأزمة الاقتصادية الحالية في البلاد. ويُحابي نموذج إعادة التوزيع هذا المقرّبين والنشطين في شبكات الحزب غير النظامية، ويشكل الآلية الرئيسية لسياسة الحد من الفقر التي يعتمدها العدالة والتنمية، والتي مثّلت بدورها ركيزة هامة لهيمنته على أصوات الطبقة العاملة.

أدّت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، ومعها تصاعد الأزمة الاقتصادية، إلى تراجع واضح في أنظمة الرفاه التي تقدمها الدولة، وفي الوقت نفسه بدا واضحاً للمواطنين أن شبكات إعادة التوزيع القائمة على مفهوم العمل الخيري، والمرتبطة بحزب العدالة والتنمية، ليست قادرة على إغلاق هذه الفجوة، أو تلبية احتياجات السكان الأكثر فقراً. وقد أظهرت لنا نتائج هذه الانتخابات أنه رغم سيطرة أردوغان على جهاز الدولة، إلا أن عجزه عن الاستمرار في تحسين المستويات المعيشية لناخبي حزبه، وتراجع سطوة ماكينته الحزبية الجبّارة في أوساط الموالين والانتهازيين، دفع المواطنين لتوجيه رسالة واضحة بالتصويت ضد أشكال الخنق الحكومي القائمة.

كذلك، دأبَ حزب العدالة والتنمية على خلق طبقة وسطى وبرجوازية محافظة جديدة مقربة منه، من خلال توزيع عقود مربحة عبر الاقتصاد الريعي، بما في ذلك إعادة توزيع الأراضي العامة مثل الأراضي الزراعية والغابات بعد خصخصتها، ومنح حقوق التطوير العقاري لتشييد المباني الشاهقة ومراكز التسوق وإنشاء طرق جديدة ومطارات، إلخ. ونظراً لأن البلديات هي المخوّلة بمنح معظم تصاريح البناء، فإن خسارة الانتخابات في البلديات الكبرى – ولا سيما اسطنبول – تعني خسارة اقتصادية وسياسية كبيرة لخزّان مالي كبير. ويمكن النظر إلى ذلك كتتويج لمسار بدأ باحتجاجات حديقة غيزي، التي أثارها إعلان أردوغان عن مشروع تحويل الحديقة إلى موقع تجاري، وقد شهدت تركيا في أعقاب تلك الاحتجاجات حالات قمع وانتهاكات حقوقية متزايدة.

علاوة على ذلك، فإن مشاريع أردوغان العملاقة مثل قناة اسطنبول وبناء أضخم مطار في العالم وأطول جسر معلّق، ناهيك عن محطات الطاقة الحرارية ومحطات الطاقة النووية ومشاريع التعدين، كلها تتم ليس فقط دون نقاش عام، بل ومع عواقب بيئية مدمّرة. وقد تبدّى خلال هذه الانتخابات أن خطاب أردوغان عن التحديث والتطوير وتوزيع الريع أدى هذه المرة إلى نتائج عكسية، فقد فاز مرشحو المعارضة في معظم المناطق التي تشهد صراعاً بيئياً ضد مثل هذه المشاريع.

ورغم أن الميدان السياسي غير عادل وغير ديمقراطي إلى أقصى حد، للأسباب المنوّه بها أعلاه، إلا أن هذه الانتخابات أثبتت أنه لا تزال هناك منافسة حقيقية في تركيا، وأن التجربة الديمقراطية والمؤسسات والشرائح الداعمة للديمقراطية في المجتمع لا تزال صامدة على الرغم من سنوات التسلّط الماضية. يُضاف إلى ذلك أن بعض شرائح المجتمع التي عانت من جور سياسات العدالة والتنمية، عبّرت عن احتجاجها من خلال هذه الانتخابات. على سبيل المثال، إحدى الموظفات العاملات في بلدية يحكمها العدالة والتنمية تم نقلها إلى منصب آخر لكي يتسنّى لابنة موظف بلدية تابع للعدالة والتنمية أن تحلّ محلّها، وقد قررت هذه الموظفة خوض الانتخابات كمرشحة مستقلة وفازت ضد مرشح حزب العدالة والتنمية في بلدة بازاريري في محافظة بيلجيك، وجاءت معظم الأصوات الداعمة لها نسائية. ومن الأمثلة الأخرى أيضاً ما جرى في بلدة إينيسيل في محافظة غيرسون، حيث عُثر على طفلة ميتة عمرها 11 سنة، وقد أشار تقرير الطبيب الشرعي إلى انتحارها، فيما ذكر والدها أن سيارة صدمتها كان يقودها ابن شقيق رئيس البلدية التابع للعدالة والتنمية، مؤكداً أن الدولة تحاول التستّر على جريمة ارتكبها أحد أعضاء الحزب الحاكم. ونتيجة للتعبئة التي جرت في البلدة على أساس هذه المظلمة، نجح مرشح المعارضة في الفوز في الانتخابات المحلية.

أخيراً، كان من أهم نتائج هذه الانتخابات أنه، مرة أخرى، اتضح حجم القوة التي يتمتع بها الناخبون الأكراد في تحديد نتائج العملية الانتخابية في تركيا. فحزب الشعوب الديمقراطي لم يسترجع فقط معظم البلديات التي كان قد استولى عليها الحزب الحاكم بالقوة بعد التعيينات الحكومية لرؤساء هذه البلديات، بل وقدَّمَ أيضاً دعماً حاسماً لتحالف المعارضة على الرغم من ماضي هذا التحالف القومي المناهض للأكراد، وقد كان لهذا الدعم دورٌ أساسيٌ في تقدم مرشحي حزب الشعب الجمهوري، وخاصة في انتخابات بلدية اسطنبول.