لا أدري ما هي نوعية السحر الأسود الذي يمارسه الرفاق في الجمهورية، حتى تمكنوا بهذه البساطة من إقناعي أن كتابة مقال في الذكرى الثامنة لخطاب بشار الأسد الأول بعد الثورة، الذي اقترفه في 30 آذار 2011، سيكون نشاطاً ممتعاً!

وما إن تولى الرفيق صادق عبد الرحمن مهمة نفخي كالبالون بعبارت مثل «اخترنا اسمك بالإجماع لكتابة هذه المادة»، حتى انتفخت أناي فعلاً، وعرّمت، وبات لدي قناعة حقيقية أنني الشخص المُصطفى لهذه المهمة الجليلة، وما هي إلا ساعات قليلة حتى أدركت أنهم ورّطوني، إذ استفرد بي بشار الأسد على مدار أيام متواصلة، كان عليَّ خلالها أن استمع لثلاث خطابات مفصلية في تاريخ سوريا منذ توليه الحكم: خطاب القسم عام 2000؛ الخطاب الأول بعد الثورة؛ وخطابه الأخير أمام رؤساء المجالس المحلية، الذي وصفه محللون سياسيون موالون للنظام بـ«صرخة نصر».

ومن الضروري هنا معرفة أن محاولة فصل أي من خطب بشار الأسد بعضها عن بعض، أمرٌ لا طائل منه، ومضيعة للوقت، فالرجل لم يستخدم سوى خطاب واحد خلال حياته، مع تغيير بسيط في اللوكيشن والبدلات الرسمية، وبعض الأمثلة، فأول أمس درعا، والبارحة حلب، واليوم إدلب؛ هذه واحدة من أهم ميزاته، الإصرار والانسجام والتجانس مع ذاته.

هكذا وجدتُ نفسي غارقاً في عالمٍ آخر، عالم بشار الأسد، ولأول مرة منذ ثماني سنوات بتُّ أدعوه لا إرادياً بالرئيس، حتى أنني ضبطتُ نفسي في بضع مرات وأنا أكاد أقول «أزمة»، أو «أحداث»؛ يا لهول ما فعله بي اقتراح الجمهورية!

وإذا كنتُ قد وصلت إلى هذه المرحلة من التلف وإعادة التدوير، فإنني لا أجد أمامي ما أقوله للرفاق في الجمهورية، أكثر بلاغةً وإيجازاً من قول السيد الرئيس «يعني أصعب من أن نُجيب على هذا الموقف».

المؤامرة والجهاز المناعي

«يقولون دائماً أنتم تفكرون بالمؤامرة، لا يوجد نظرية مؤامرة، يوجد مؤامرة في العالم، المؤامرة جزء من الطبيعة الإنسانية».

هذا الاستنتاج صادرٌ عن مركز الارتجال للدراسات السياسية في عقل بشار الأسد، خلال خطابه الأول بعد الثورة، وهو موثوقٌ لأن الأسد قد فكر فيه، فلو أنه كان فاسداً لا طائل منه، لما خطر بباله أساساً؛ لكن الممتع في مشاهدة الأسد وهو يلفظ كلمة المؤامرة، أنه ما إن يقولها حتى يفقد سيطرته على التوقف عن تكرارها.

ومع أنه قال حرفياً «أبدأ بالمؤامرة ثم أنتقل لوضعنا الداخلي، لأن الفضائيات ستقول الرئيس السوري اعتبر كل ما يحصل مؤامرة من الخارج»، فقد عنونت روسيا اليوم خطابه الأول بعد الثورة على قناتها في يوتيوب بـ «الأسد: مؤامرة كبيرة تستهدف سوريا»، وهو ما يمكن اعتباره بشكل من الأشكال مؤامرة على كلمة السيد الرئيس أيضاً.

في المخيال الأسدي، تتحول الاحتجاجات الشعبية إلى جزء من مؤامرات متصلة على هذا الوطن، لكنها -وعلى خباثتها- ليست شيئاً نخشاه، بل إنها أشبه باللقاحات، اختبارٌ صعبٌ لتقوية جهازنا المناعي، الأمر أشبه بأن تصاب بالحصبى في طفولتك، ونحن الآن نصاب بالاحتجاجات حتى لا نعاني منها في المستقبل، مرحى!

وحتى لا نتآمر نحن أيضاً على كلمة السيد الرئيس كما فعلت روسيا اليوم، سنشير بوضوح إلى أنه قال وقتها إن المتآمرين قلّة، وإن أهل درعا هم من سيطوقون هذه القلّة المتآمرة التي أثارت الفتنة، وغررت بمن خرج في البداية عن حسن نية، مستفيدة من «صرعة الثورات» لتمرير مؤامرة كبيرة على سوريا، لأن درعا في قلب كل مواطن سوري، وفي قلب الوفاء لسوريا، بل إنه انفعل إلى درجة الاقتباس من شعارات المتظاهرين «كل المواطنين السوريين مع درعا»!

وبالطبع، خلال أيام قليلة بعد خطاب الكراهية والتحريض المتذاكي ذاك، أصبحت «درعا» تهمة بين الموالين، وانهالوا على بعضهم بعضاً بالضرب في بعض المدن، أو، بتعبير منضبط أسدياً، ضربوا واضطهدوا قلّتهم المتآمرة.

وفي عقلية الأسد المتماسكة، سيكون الرد على هذه النقطة: نعم كان خطاباً تحريضياً، لكنه تحريضٌ طبي لجهاز المناعة، بهدف خلق مجتمع صحي، سليم، ومتجانس.

فتنة الإصلاح

تمتد جذور المؤامرة في خطاب الأسد إلى قسمه الأول عام 2000، إذ أشار خلال كلمته حينها إلى أن الوطن والمنطقة يمرّان بظروف صعبة ودقيقة؛ يوجد دوماً خطرٌ ما في عالم الأسد، خطرٌ لا نعيه، لكن علينا أن نتذكره كلما حدّقنا في وجه الوريث الجديد.

ولا يتوقف هذا الاندفاع الكارثي للمؤامرة مهما جرى، حتى في خطابه الأخير أمام رؤساء المجالس المحلية، إذ أصرّ الزعيم المنتصر أن الحرب لم تنتهِ، وأن جرة الغاز التي ألّبت حاضنته الشعبية عليه، هي جزءٌ من المؤامرة هذه المرة.

ففي الأساس، كان المتآمرون قد استغلوا «صرعة الثورات» عام 2011 للخلط بين الإصلاح والفتنة والحاجات اليومية، والتبسَ  الأمر على السوريين، ففي حين كان يريد طلابُ الجامعات مثلاً تعليماً محترماً، وفرص عمل عادلة لا ترغمهم على الهرب من بلادهم، دسَّ  الغرب المتآمر الفتنة بين مطالبهم، ولم ينتبهوا لها، حتى باتوا يعتقدون أنهم يريدون الحرب الأهلية.

طبيب العيون لا يستطيع التمييز بين الحرب الأهلية والفتنة وبين العدالة الاجتماعية، أو أن هذا ما تعنيه العدالة الاجتماعية بالنسبة له بالأحرى.

ولأن المتآمرين قد خلطوا بين الإصلاح والفتنة، كان من الصعب مكافحة الطابور الخامس المندسّ  في الاحتجاجات، لأن الناس قد تفهم خطأ، أن الدولة تكافح الإصلاح في حين يكون القصد مكافحة الفتنة.

الحوار حول الكينونة

الأسد، وكأي رئيس دولة مشغول بإيجاد المؤامرات، غالباً ما يستخدم عبارات كأنها أثاثٌ اشتراه من متجر «إيكيا»، يمكن فكها وتركيبها عند الانتقال إلى أي خطاب آخر لاحقاً، فها هو يقول في أول ظهور له بعد بدء الاحتجاجات، إن التعليمات كانت واضحة بعدم جرح أي سوري، لكن في الشارع خارج المؤسسات «تصبح الفوضى والأخطاء هي اللحظة السائدة»، وفق تعبيره.

هذه العبارة التي لا تخبرنا شيئاً إطلاقاً، وهي ميزة لا يمكن لأي مخلوق في العالم التمتع بها مثل الأسد، سوى أنها أسست لمنطق اللوم الذي يحمّل المتظاهرين وزر المجزرة التي تعيشها البلاد منذ ثمان سنوات، إلا أنها تحمل ادعاء آخر شديد الخطورة، وهو أن سوريا الأسد فيها مؤسسات.

الرغبة في حل المشاكل عبر الحوار داخل المؤسسات حاضرةٌ كذلك في خطاب الأسد منذ القسم الأول، حين قال إن الشفافية يمكن الوصول إليها من خلال مواجهة حوارية، وبهذا الفخ استدرج ملكُ الغابة فرائس «ربيع دمشق» إلى أقبية المعتقلات، حيث تحاوروا مطولاً لسنوات.

وفي صرخة نصره الأخيرة، دعا مراراً للحوار، وألحّ على ضرورة النقد البنّاء، وفي اللحظة التي كدتُ أقفز فيها إلى أول طائرة عائدة لحضن الوطن، لأنني أنا أيضاً أريد أن أتحاور، ومكبوت حوارياً، قال الزعيم المنتصر ما يُفهم منه أن المتذمرين من سوء الأوضاع المعيشية مرتزقة وخونة بلا مبادئ، وأن جرة الغاز التي يطالبون بها ستؤدي إلى تقسيم البلاد وإلحاق الضرر بالتجانس الاجتماعي، بشكل أو بآخر، وأنهم شعب وهمي غير موجود، كونهم عبّروا عن احتجاجهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتذكرته في خطابه الأول وهو يجعل من كل المظاهرات تزويراً وتزييفاً في الصوت والصورة والفيديو، وأدركت أنني لست موجوداً كذلك، وانشغلت بالبحث عن كينونتي، ونسيت جرة الغاز والحوار من أساسه.

مشكلة الأسد ليست في الحوار بحد ذاته، إنما بقامة محاوريه التي يجب أن تكون محدودة بسقف وسائل إعلامه فقط؛ بمتابعة بسيطة للتقارير الخدمية التي تُبثُّ الآن على الفضائية السورية، أو قناة سما، أو الإخبارية السورية، سنكتشف، من خلال شكوى المواطنين، أن بعض هذه المشاكل المعيشية يعود عمرها إلى ما قبل الحرب الكونية على سوريا، بل إن بعضها يعود إلى عهد حافظ الأسد، لكن ظهورهم على شاشات السلطة يعني أن النظام يُبرّئ نفسه من التهم، بل ويخلط أوراقه مع الناس، أما في حال وجدت الاحتجاجات فضاءً حراً ومستقلاً لها، فإن ذلك سيدينه، إذ أن أهم ورقة يقبض عليها بين يديه هي انعدام البديل، لا بديل لعالم الأسد، حيث نحب أن نتحاور بطبيعة الحال، ونمارس المؤامرات بين الحين والآخر، ويلحق بنا الأسديون الصغار لإحباطنا، بكل ود ومحبة، مثل دببة باندا توشك على الانقراض.

ديمقراطية الإنسان البدائي

الديمقراطية بالنسبة للأسد، وبحسب خطاب القسم، ليست في الانتخاب ولا في حرية النشر والكلام وغيرها من الحقوق، فهذه كلها نتائج للفكر الديمقراطي، والذي يتشكل بحسب رأي الأسد من طريقين، ويقوم على أساس احترام الرأي الآخر.

وبحسب المنطق الأسدي، فالطريق الأول له ولمن والاه، أما الطريق الثاني فهو للعائدين إلى حضن الوطن من بعد ضلال، ما لم يكملوا خطابه كما فعلت أنا طبعاً.

وفي حال وصلنا إلى هذه النقطة، ودخلنا بشكل ما إلى العالم الأسدي، وأصبحنا جميعنا بمأمن من جهاز مناعته، ستكون أمامنا المهمة الأصعب، وهي إنشاء حوار قائم على النقد البناء، بمشاركة مواطنين ناقدين موضوعيين، مراقبين لسير العمل ومشاركين بالمسؤولية، بالاستناد إلى الحقائق وليس انفعالات الانتهازيين، بحسب شروط الأسد.

وخير مثال على مفهوم الحوار في فكر القائد، نجده في الأصوات التي تعالت على فضائيات النظام معترضة على تعديل الدستور عام 2012، إذ قالت مواطنة أنها تريد تغيير العلم، وبعد أن زاغت عيناي من الصدمة، أضافت بدلع أنها تريد أن يضعوا صورة الرئيس في الوسط بين النجمتين؛ بينما اعترض مواطن آخر على فترات ولاية الرئيس، فكيف نتخلى عنه إذا كنا نرى فيه قائداً استثنائياً. هذا حوار وطني من النخب الممتاز.

ومهمة الحوار الأولى بعد الثناء على الطغمة الحاكمة، هي إخلاؤها من المسؤولية، فالخلاصة أن الدولة ليست مسؤولة عن كل شيء، باستثناء فرض الرعب، والتطبيع معه ليبدو وكأنه الأمن والأمان؛ سوى ذلك سيكون من مهام المواطن تدبير سبل عيشه، وهذا ما تحاول وسائل إعلام النظام ترويجه بالفعل، فكيف نستطيع أن نستوعب خروج أحد المواطنين على هذه الشاشات في القرن الحادي والعشرين، والدعوة للاستفادة من تجربة الإنسان البدائي في تلبية احتياجاته عوض الاتكال على الدولة!

سوريا للسوريين الحقيقيين

نقطة الخلاف المحورية حول كل ما سبق، تتعلق بثقافة الغرب الاستهلاكية التي نخرت شعبنا، حتى باتت حملات التوعية حول ضرورة ترشيد استهلاك المؤامرات، عبئاً يؤخر النظام عن إنجاز وعوده المقطوعة منذ تسعة عشر عاماً.

فبينما نحن مشغولون بالكمّ، ينشغل الرئيس الأسد بالنوعية، quality؛ الخلاف بالنسبة للأسد يتمحور حول نوعية الإصلاح الذي نريده، وكان يعتقد في خطابه الأول بعد الثورة، أن هذا ما سنثبت براعتنا فيه كسوريين عند بدء النقاشات، لكننا خيبنا أمله أيضاً.

فأين السوريون الآن؟! مجسمات رخيصة في قطر، عملاء للمشروع العثماني، وصولاً إلى إنجازه العظيم في غربلتنا، وتوصله إلى مجتمع متجانس في الداخل، خرّبناه عليه أيضاً، إذ اتضح أن أفراده مزيفون هم الآخرون، وأن انفعالاتهم المفبركة تُدار من غرف سرية في تل أبيب؛ من كان يصدق أننا سنعيش في عالم شبيه بمسلسل Westworld، الأسد فعل!

في بداية الاحتجاجات، كان النظام لا يوفر فرصة للتأكيد على أن بشار الأسد سيغادر السلطة إذا كان الشعب لا يريده، وكان الموالون يعلكون هذا الكلام أمامنا أيضاً، وفي مرة كدتُ أقفزُ عن الأرض وأنا أقول لأحدهم أن ينظر إلى حماة وحمص ودرعا، أن ينظر إلى المظاهرات في كل سوريا، فأوضح لي بابتسامة من أدرك موضع سوء التفاهم بالضبط، «لاااا مو قاصد هدول يا زلمة، هلق هدول حاسبون شعب؟!».

وهكذا كنتُ محظوظاً في أن أفهم مبكراً ما تعنيه كلمة شعب بالضبط، فالشعب الحقيقي، هو الشعب الذي لا يفضحنا أمام العالم بالمظاهرات وشهود العيان، فما أن تفعل ذلك حتى تخرج أتوماتيكياً من مفهوم الشعب، وبذلك تكون أغلبية الشعب الحقيقي فعلاً مع بشار الأسد، لأنها لم تتظاهر، وفي حال فعلت وتظاهرت فلن تعود شعباً بعد اليوم. هللويا!

هذا المبدأ ذاته تم تطبيقه الآن على الموالين في الداخل، وربما يكون الشخص الذي أوحى لي بمفهوم الشعب واحداً منهم الآن.

وإحقاقاً للحق، يستحق الأسد كأس العالم بهذه الرياضة، فما أن تتذمر حتى تتوقف عن كونك شعباً، وبالتالي لا يمكنه محاورتك، أو الاستماع لرأيك ومطالبك، التي تتحول بدورها من وجهة نظر إلى مؤامرة، فسوريا للسوريين الحقيقيين، وليس لكل من هبّ ودبّ وأنشأ صفحة على فيسبوك.