تجول العربات التي تحمل مكبّرات الصوت أحياء اسطنبول هذه الأيام. تتزاحم الأعلام والصور بين المباني حاجبة منظر السماء عن المارّة، ويحتشد العشرات على أبواب المراكز التابعة لمرشحي البلديات وأحزابهم، التي تعرض برامج هؤلاء المرشحين وتَعِدُ الناخبين بتقديم خدمات أفضل. يبدو واضحاً أن هذه الانتخابات تحمل أهمية خاصة واستثنائية، وذلك بسبب المعطيات والظروف التي تحيط بها.
يتحضّر المواطنون الأتراك لخوض الانتخابات البلدية التركية، في 31 آذار الجاري، وذلك للمرة الأولى بعد تغيير النظام السياسي التركي، وتحويله إلى نظام رئاسي بموجب استفتاء شعبي في 2017، تلاه فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية، عائداً إلى الزعامة الرسمية لحزب العدالة والتنمية، بعد أن كان قد تنحى عنها وفقاً لمواد الدستور السابق، التي كانت تفرض على رئيس الجمهورية ترك موقعه الحزبي.
يترقب أردوغان وأنصاره بقلق نتائج هذه الانتخابات البلدية، التي تأتي بعد عدد من التحديات الاقتصادية والسياسية التي مرت بها تركيا في الفترة الأخيرة، إذ شهدت أزمة اقتصادية صعبة، تهاوت فيها قيمة العملة المحلية، مقابل ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وركود في الاقتصاد التركي، سببه تراجع الناتج المحلي الإجمالي في رُبعين متتاليين.
الأرقام والمؤشرات السابقة لا تصبّ في صالح العدالة والتنمية كما يبدو، لذلك تزداد المراهنة على أهمية هذه الانتخابات ومصيريتها، لأنها تفتح للحزب الحاكم إذا انتصر فيها أعواماً قادمة دون انتخابات، يسيطر فيها على مفاصل الحكم كلها، ما سيمكنه من ترسيخ نفوذه، وتعزيز فرص الاستثمار الأجنبي المرتبطة دوماً بحدوث «استقرار» سياسي.
بالنسبة للعدالة والتنمية، يعتبر الفوز في هذه الانتخابات بمثابة ختم أخير من أنصاره، سيُحكم بموجبه قبضته على البلاد، بعد دعمهم له في تعديل الدستور وتنصيب أردوغان رئيساً، وهو ما يعني أيضاً بطريقة معاكسة، أن عدم تمكنه من الفوز فيه رسالة مباشرة بحجب الثقة وتغير مزاج الناخبين لصالح أحزاب المعارضة.
يخوض العدالة والتنمية الانتخابات البلدية متحالفاً مع حزب الحركة القومية في حلف «الجمهور»، الذي خاض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة وانتصر فيها، وذلك رغم توتر حصل أواخر عام 2018 كاد أن يفضي إلى حلّ التحالف، ويدفع كل حزب إلى خوض طريقه منفرداً، إلا أنه ثمة ما دفعهما للعدول عن فكّ التحالف، خصوصاً بعد اتفاق أكبر الأحزاب المعارضة، رغم اختلافاتها الجوهرية، على خوض هذه الانتخابات تحت مظلّة واحدة.
ويخوض حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، هذه الانتخابات متحالفاً مع الحزب الجيد المنشقّ عن الحركة القومية، وقد شكّلَ الحزبان معاً ما أطلقا عليه اسم حلف «الملّة»، الذي يحظى بدعم غير مباشر من حزب الشعوب الديمقراطي وحزب السعادة، إذ من المتوقع أن تذهب أصوات أنصار هذين الحزبين إلى مرشحي حلف «الملّة» في البلديات التي ليس فيها مرشحون لهما. تراهن المعارضة على هذه الانتخابات، لتكون بداية لتقويض سلسلة التحولات السياسية التي صبّت في صالح حلف «الجمهور».
كانت الانتخابات البلدية هي الخطوة الأولى التي مكّنت العدالة والتنمية في البدايات من الحصول على شعبيته، إذ كان أردوغان رئيساً لبلدية اسطنبول في البداية، وأدى حصوله على أغلبية أصوات الناخبين إلى فوزه في الانتخابات البرلمانية اللاحقة، التي تصدر بعدها المشهد السياسي لمدة 19 عاماً. اليوم يقول إردوغان إنهم يخوضون «أهم امتحان في تاريخ البلاد»، على حد تعبيره.
على ضوء نتائج هذه الانتخابات، إما أن يستمر العدالة والتنمية لأربعة أعوام إضافية، متحكماً بكافة مفاصل الدولة، أو أن تتغير الموازين في انعطافة تصبّ في صالح المعارضة، وترسم ملامح مستقبل مختلفة عن المراحل السابقة. تمثّل هذه الانتخابات للمعارضة تحدياً كبيراً، إذا أنها تسعى لاستعادة ثقة ناخبيها، بعد خسارتها كل المعارك الانتخابية السابقة.
يختار الأتراك في هذه الانتخابات رؤساء البلديات في ثلاثين مدينة كبرى، إضافة للمخاتير وأعضاء مجالس الولايات والبلديات. وينصبّ اهتمام جميع الأحزاب على الفوز في بلدية اسطنبول الكبرى بشكل خاص، التي تعتبر أكبر بلدية في تركيا. «من يفوز في اسطنبول، يفوز في سائر تركيا»، يقول أردوغان حاثّاً أنصاره، ومُرشِّحاً أقوى رجاله، بن علي يلدرم، رئيس الحكومة السابق ورئيس البرلمان الحالي، إلى هذه البلدية الأهم، ذلك أن اسم يلدرم اقترن بالعديد من المشاريع الخدمية الكبيرة خلال عمله كوزير للمواصلات. فيما يرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية بيليك دوزو في اسطنبول، الذي تُظهر بعض استطلاعات الرأي منافسة شرسة بينه وبين يلدرم، ويشير بعضها إلى احتمال تفوقه.
سوريون في الواجهة
مع احتدام التنافس بين المرشحين يعود ملف السوريين إلى الواجهة كمادّة للمزايدة واستمالة الناخبين، الذين يتلقون آلاف الرسائل والتحذيرات خلال كل حملة انتخابية كهذه، حول «خطر السوريين» الذين «يسرقون لقمة عيشهم» و«يدخنون الأركيلة على الشاطئ بينما يقاتل الجنود الأتراك في سوريا» و«يأخذون معونات بالدولار دون عمل»… إلخ.
مئات التّهم يوجهها مرشحو الأحزاب إلى السوريين، داعين إلى ترحيلهم وإعادتهم إلى بلادهم، وانضم أيضاً مرشحون من الحزب الحاكم إلى هذه المزايدات مؤخراً، حيث بدؤوا يتوعدون «مثيري المشاكل» و«مرتكبي المخالفات» من السوريين بالترحيل، ومن بينهم أكبر مرشح للعدالة والتنمية بن علي يلدرم، وهو أمر مُقلق للسوريين الذين تتعاظم مخاوفهم الجدّية من مآلات هذا الخط التصاعدي للحشد الإعلامي ضدهم.
وتوعدت إلاي أكسوي، مرشحة حزب «الجيد» لبلدية الفاتح في اسطنبول بأنها «لن تسلّم الفاتح للسوريين»، في لافتات انتشرت صورها على نطاق واسع. ونشرت بعد ذلك تسجيلاً في أسواق الفاتح تشتكي فيه من «كثرة اللافتات العربية على واجهات المحلات»، وتتوعد بإزالتها. فيما هدد مرشح الحزب ذاته لولاية قيصري بـ«إفراغ الولاية من السوريين لأنهم يهددون سلامتها وصحتها»، بحسب تعبيره.
وقال تانجو أوزغان، مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض عن مدينة بولو إنه «في حال نجاحه في الانتخابات لن يعطي تراخيص عمل للسوريين، لأنهم استحوذوا على كافة أماكن العمل». مضيفاً أنه «لن يعطي أي قرش مساعدة للسوريين، لأنهم يأخذون مساعدات من المنظمات الخيرية والهلال الأحمر»، بحسب وصفه.
من جهته، قال دينيز كوكان، مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم عن بلدية سلطان أيوب في اسطنبول، إن السماح بوصول السوريين إلى اسطنبول «كان قراراً خاطئاً، ويجب توزيعهم في الأناضول». فيما كتب بن علي يلدرم تغريدة قال فيها: «بالنسبة للسوريين الذين يؤثرون على استقرار اسطنبول أو يشكلون مشكلة أمنية أو يؤثرون على الحياة الطبيعية بشكل سلبي، لن نترك ذلك بدون رد. لن نتسامح مع ذلك، وسنعيد هؤلاء، لأن الأصل هو الاستقرار لسكان إسطنبول»، على حد وصفه.
هذه «المشاكل» و«المخالفات» مجهولة المعنى والأبعاد، تدفع ملايين السوريين لتوخي الحذر في كل خطوة يخطونها، ومعاينة الأفق الضيق الذي يرسمه المستقبل، بعد هذه الجهود الحثيثة في تجريد واقعهم من بُعده الإنساني، وسط التدافع العنيف لاقتناص الأصوات. ويمكن ملاحظة الأثر المباشر لهذه التصريحات العدائية ضد السوريين في الشارع التركي، الذي تتعالى فيه أصوات المتذمرين والعابسين بجلافة في وجه من يصرّح بهويته السورية. يأمل السوري أن تمرّ هذه الانتخابات على خير، وألا تجور عليه الصناديق أو الطرقات إليها. العالم يضيق أكثر فأكثر أمام عينيه، والجميع يدفعه إلى الحائط.