أكد تقريرٌ أصدرته منظمة حظر الأسلحة الكيميائية مطلع الشهر الجاري، أنه تم استخدام غاز سام يحتوي على مادة الكلور في الهجوم على مدينة دوما، الذي وقع في السابع من نيسان عام 2018. وعلى الرغم من أن التقرير لم يُشر إلى الجهة المسؤولة عن الهجوم، لأن التحقيقات فيه ليست مشمولة بالصلاحيات التي أقرها مجلس الدول الأعضاء في المنظمة لاحقاً، والتي تسمح لمحققي المنظمة بالكشف عن الجهات المنفذة، إلا أن التقرير نفى أيضاً ادعاءات النظام وروسيا بأن الغاز كان ناتجاً عن انفجار في مستودع أسلحة كيماوية في مدينة دوما، إذ أوضح أن نتيجة الكشف على المواقع المشتبه بها لم تؤيد تلك النظرية أبداً.
وإذا كان التقرير لم يؤيد فرضية وجود غاز أعصاب في المادة الكيميائية المستخدمة في الهجوم الذي تسبب بمقتل 43 شخصاً، إلا أن الأعراض الأولية التي وثقتها تقارير حقوقية وشهادات أطباء وتسجيلات الفيديو، تشير إلى أعراض مشابهة للتعرض لغاز الأعصاب، من بينها الحدقة الدبوسية وسيلان الأنف وظهور الزبد من الفم، ما يعني أن السلاح المستخدم لم يكن غاز الكلور بحالته البسيطة، التي تؤدي إلى السعال وضيق التنفس والاختناق بشكل رئيسي.
مصدر طبي مطلع على أوضاع ضحايا المجزرة قال للجمهورية إن التركيز العالي لغاز الكلور في السلاح المستخدم، هو ما أدى إلى تشويش الأعراض، ودفعهم في البداية إلى الشك باستخدام غاز الأعصاب، الأمر الذي نفته التحاليل لاحقاً، لتؤكد استخدام غاز الكلور بدرجة مركزة جداً، ما أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا.
وعلى الرغم من تعرضه لضربة عسكرية نتيجة استخدام غاز الأعصاب في الهجوم على مدينة خان شيخون عام 2017، إلا أن النظام عاد واستخدم السلاح الكيميائي خلال هجومه على المدن والبلدات التي تسيطر عليها فصائل المعارضة، وكان لاستخدامه الممنهج لهذا السلاح أثرٌ كبير في حسم المعارك التي دارت خلال 2018 لصالحه.
في السابق، غالباً ما كان النظام يستخدم السلاح الكيميائي للانتقام من مناطق لم يستطع دخولها عسكرياً، كما حدث في خان شيخون عام 2017، أو قبل التحضير لهجمة عسكرية على منطقة ما، كما حدث في الغوطة الشرقية في شهر آب 2013. إلا أنه، خلال معارك عام 2018 في الغوطة الشرقية، استخدم السلاح الكيميائي بالتوازي مع المعارك، واعتمدت الاستراتيجية التي اتبعها على استخدامه لتدمير دفاعات مقاتلي المعارضة في مناطق لم يستطع تحقيق خرق مهم فيها بالأسلحة التقليدية، مثلما حدث في الضربة على بلدة الشيفونية في الغوطة الشرقية، قبل أسابيع قليلة من الضربة على مدينة دوما.
واعتمد النظام أيضاً إرهاب السكان الرافضين للخروج من خلال استخدام السلاح الكيميائي في دوما، وعلى الرغم من تعرضه لضربة جوية من قبل الولايات المتحدة إثر تلك المذبحة، إلا أن استراتيجية النظام أدت غرضها، ودفعت المناطق الخارجة عن سيطرته إلى التسليم تباعاً في دوما ومن ثم في القلمون الشرقي ولاحقاً ريف حمص الشمالي وحتى درعا، وذلك نتيجة المخاوف الشديدة لدى السكان من تعرضهم للإبادة الكيماوية، خاصة بعد محدودية الضربة العسكرية التي تعرض النظام لها. ذلك بالإضافة إلى أن التهديد باستخدام هذا السلاح، لم يكن غائباً عن المفاوضات التي أدارها كل من النظام وموسكو مع القيادات العسكرية في تلك المناطق، وذلك بحسب ما أكدت مصادر في فصائل المعارضة للجمهورية.
كان السلاح الكيماوي في تلك المعارك هو السلاح الحاضر دوماً حتى عندما لم يُستخدم، ويصلح الاستخدام الممنهج له في معارك تشرف عليها روسيا وتشارك فيها دليلاً على إدارة موسكو لعملية استخدامه، لكن دورها الأهم كان في إدارة عملية موازية، تهدف بشكل رئيسي إلى طمس أي دليل يشير إلى استخدام السلاح الكيميائي، وإلى إرهاب الشهود، وتصفيتهم في بعض الحالات، لتمحي كل أثر يربط النظام بالهجمات الكيميائية.
ويبدو أن سياسة الترهيب الروسية لا تزال تفعل فعلها بقوة، إذ يشعر معظم الشهود داخل سوريا وخارجها بأنه لا حصانة لهم، وأنه لا جهة يمكنها حمايتهم من الانتقام، وهو ما يبدو واضحاً من خلال التفاصيل الدقيقة التي حصلت عليها الجمهورية من مصدر طبي مطلع، طلب إغفال اسمه وأسماء جميع الأشخاص الواردين في شهادته.
يشرح المصدر تفاصيل عملية نفذتها إدارة المخابرات العامة التابعة للنظام بالتعاون مع موسكو من خلال أحد الجنرالات الروس، والتي بدأت من خلال استدراج وتجنيد طبيبين من مدينة دوما قبل أكثر من عام، تمت لاحقاً المساعدة على نقلهما إلى دمشق وإخراجهما من الحصار بداية عام 2018، أي قبل نحو شهرين من بدء العمليات العسكرية الموسعة في الغوطة الشرقية، ليتم استخدامهما كصلة وصل مع الكوادر الطبية في مدينة دوما والغوطة الشرقية، بهدف إيصال التهديدات بشكل شخصي إلى أعضائها، الذين جرى ابتزازهم بأقاربهم الموجودين في مناطق النظام، أو بالتهديد باغتيالهم. خلال تلك الفترة، استطاع الطبيبان الموجودان في دمشق بناء سمعة مخيفة لدى الكوادر الطبية في الغوطة الشرقية.
بُعيد الهجوم الكيميائي على بلدة الشيفونية في 25 شباط 2018، جرى الاتصال بكل الكوادر الطبية في دوما وتهديدها بشكل مباشر عبر هذين الطبيبين، ليتم منع أي شهادة من تلك الكوادر عن استخدام السلاح الكيميائي، ومنع خروج أي أدلة وعينات من الدماء للخارج، تثبت استخدام هذا السلاح.
أدت التهديدات إلى عدم خروج تصريحات مباشرة من القطاع الطبي عن الهجمة، الأمر الذي أدى بطريقة أو بأخرى إلى نجاح استراتيجية النظام التي تقف خلفها موسكو في الحقيقة. وقد تكرر السيناريو ذاته في هجوم السابع من نيسان على دوما، إذ جرى التواصل مع كافة الكوادر الطبية لإخفاء الأدلة، إلا أن مسارعة الإعلامي ياسر الدوماني لتصوير موقع الضربة، وتصوير ضحاياها من المدنيين، شجّع الكوادر الطبية للحديث، لكن بالطبع من دون ذكر أي أسماء، ولم يستطع الأطباء الخروج ضمن تسجيلات مرئية يشرحون فيها الأوضاع كما كان الحال في ضربات كيماوية سابقة.
بعد توقيع اتفاق التهجير من دوما، تواصل النظام عبر الطبيبين مع بعض الكوادر الطبية في دوما، وبحجة تسليم المقار الطبية التي ادعى النظام أنه يريد المحافظة عليها لخدمة سكان المدينة، جرى استدراج عدد من الأطباء والممرضين إلى دمشق، ليتم إرسالهم مباشرةً إلى فرع الخطيب في مدينة دمشق، التابع للإدارة العامة لمخابرات النظام، حيث تم تصوير لقاءات عرضها تلفزيون النظام، باعتبارها شهادات تؤكد عدم استخدامه للسلاح الكيميائي. ثم تم تلفيق المشهد بعد ذلك بشكل مكتمل في مدينة لاهاي، عندما تم نقل عدد من هؤلاء كشهود إليها، ليقدموا شهادات تؤيد مزاعم النظام، في عملية كانت أشبه بنقل رهائن منها بنقل شهود.
جرى تأكيد الرواية التي قدمها المصدر للجمهورية من مصادر أخرى على اطلاع بتفاصيل القضية، أكدت جميعها أن أصابع موسكو تقف وراء هذه العملية الاستخباراتية، التي تهدف بشكل رئيسي لمحو أي أثر لاستخدام النظام للسلاح الكيميائي، بينما كان يستخدمه بشكل ممنهج لكسب المعركة وترهيب السكان وتهجيرهم من مناطقهم.
اليوم، وبعد تأكيد استخدام السلاح الكيميائي، لم يعد ممكناً لروسيا أو النظام نفي وقوع المجزرة التي حدثت في دوما، إلا أن عمليات الترهيب والتهديد التي استهدفت الضحايا والشهود، سيكون لها نتائجها عند أي محاولة لمحاكمة المجرمين المسؤولين عن المجازر وجرائم الحرب هذه، وهو الأمر الذي تتطلب مواجهته تنشيط التحقيقات في تلك الجرائم من قبل المنظمات الدولية، مع تأمين الحصانة والحماية اللازمة للشهود بهدف كشف الجرائم بشكل نهائي.
بهذا فقط يمكن أن يتم إفشال مساعي روسيا لطمس معالم الجريمة، لأنه إذا كانت الألاعيب الروسية غير كافية لنفي وقوع المذبحة أو تبرئة الأسد منها، فإنها يمكن تكون مفيدة في إعاقة محاسبة المرتكبين، طالما أن الشهود وعائلاتهم متروكون تحت رحمة أجهزة النظام الأمنية.